وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

الشاعر ادريس الجَمّاع – من بياض السودان الى جنون الادب

نشر بتاريخ: 08/08/2021 ( آخر تحديث: 08/08/2021 الساعة: 14:34 )
الشاعر ادريس الجَمّاع – من بياض السودان الى جنون الادب

الكاتب : د. عدنان نعيم

ذهب عقلهُ فكتب اعذب الكلمات

يبدو ان العقل كلما سمى وارتقى، صار مستعصياً على الناس فهمه، لا بل تقبله ، الى ان يصل بهم اخراج صاحبة من دوائر العقل والمنطق ووصفه الجنون او الهرتقة او الكفر او التمرد.

وليس ادريس الجماع الشاعر والمفكر والمنظر السوداني وحدهُ من وصفة اهله بالسودان بالجنون، فقبلة طردت الكنيسة “جاليلو” من رحمتها؛ لانه قال بكروية الارض وسجن وعُذب ، وابن رشد اتهم بالهرتقة والالحاد واحرقت كتبة، ليتحول في العصر الحديث من اهم مراجع الفلسفة وعلم الاجتماع في العالم.

وقيل منذ زمان ان بيروت تطبع الكتب والسودان تقرأ، فالسودان فيه من الادباء والمفكرين والساسة المميزون امثال الطيب صالح والهادي وو..الخ ، والذين اثرو المكتبة العربية واثرو الوطن العربي بسحر الادب ونقاوة الكلمات وحصافتها، كما قدموا للعالم نماذج وروح وطنية خالصة امثال "الشفيع " "وسوار الذهب".

اديس الجماع هذا الملهم لأهل السودان والمثير لكل من عرفة وقرأ له كان من اهم كتاباته ما غنتهُ الفنانه الكبيرة كوكب الشرق ام كلثوم " اغداً القاك" .

الجماع من مواليد 1922، من حلفاية في الخرطوم، التحق عام 1946 في كلية دار المعلمين وحفظ القران في طفولته، وسافر الى مصر عام 1947 وتخرج من دار العلوم –جامعة القاهرة عام 1951.

كتب الشعر الرومانسي و كتب في الشعر والادب والسياسة وفي مقاومة المستعمر البريطاني وغنى اشعاره اهم واعظم الفنانين العرب والسودانيين امثال سيد خليفة وام كلثوم، وادرجت الكثير من اشعاره في مناهج التعليم السوداني، ومناهج الجامعات العربية وخصوصاً المصرية، تميز الشاعر بسحر التأمل والحب والجمال والحكمة ، وكتب عن المقاومة الفرنسية والجزائرية والفلسطينية ضد الاستعمار.

وجمعت اعماله في ديوان قيثارة النبوغ، قد كتب ما يزيد عن 30 قصيدة من اهمها (انت السماء، وامة المجد، قوم يا ملاك، الطفولة ، نعمات الطبيعه، ربيع الحب، نحو القمة، اني لأعجب، دمي، ونومه الراعي) فمن اشعاره الوطنية :

- ايها الحادي انطلق واصعد بنا ...... وتخير في الذرا اطولها

- نحن قوم ليس يرضى همهم ....... ان ينالوا في العلا اسهلها

وفي قصيدة سعير الكفاح انشأ يقول:

- سنأخذ حقنا مهما تعالوا .... وان نصبوا المدافع والقلاعا.

في الغزل والحب كتب قصيدة انت السماء ومطلعها:

- دنياي انت وفرحتي ...... ومُنى الفؤاد اذا تمنى

- انت السماء بدت لنا ......واستعصمت بالبعد عنا

- هلا رحمت متيماً ...... عصفت به الاشواق وهنًا

- هفت به الذكرى فطاف........ مع الدجى مغناً فمغنا

- اِنستُ فيك قداسةً ........ ولمستُ اشراقاً

- ونظرت في عينيك.... فاضافا أسراراً ومعنى.

ام القصيدة التي قيل انها اذهبت عقلُة بعد تجربة عشق قاسية فكانت قصيدة ربيع الحب:

-في ربيع الحب كنا نتساقى ونغني

- نتناجى ونناجي الطير من غصنٍ لغصن

- اننا طيفان في حلم سماوي سرينا

- واعتصرنا نشوة العمر فما ارتوينا.

- انه الحب لا تسأل ولا تعتب علينا

- وفي لجج العشق ذاب صدري

- كساكب قطرة في لجج بحرِ

القصيدة التي الهمت قلوب الملايين وغناها له اشهر الفنانين سيد خليفة

وحين اتهموه بالجنون وساءت حالته اخذوه للعلاج الى بريطانيا، في المطار التقى صدفة مع عشيقته ومعها زوجته، وكان لم يراها منذ سنوات طويلة، فأمعن النظر وطال التحديق بها حتى استفز زوجها الذي تقدم منه قائلا(بعدين معك ليش بتطلع بزوجتي).

فسكت الجَماع ...و غنى اعذب الكلمات التي سالت من شفتاه كما يسيل لعاب عاشقين متيمين، فانشأ يقول:

- اعلى الجمال تغار مني ...... ماذا عليك اذا نظرنا

- هي نظرة تنسي الوقار .... وتسعد القلب المعنى

- دنياي انتي وفرحتي .........ومنى الفؤاد اذا تعنى

- انت السماء بدت لنا....... واستعصمت بالبعد عنا

- هلا رحمت متيما عصفت به الاشواق وهنَنا

- وهفهفت به الذكرى وطاف مع الدجى مغنأ فمغنى

وحين وصل الى المشفى في بريطانيا للعلاج، دخلت علية ممرضة بريطانية ذات عيون جميلة؛ فشرد ذهنه وحدق بها طويلا وكرر ذلك لكما دخلت اليه. راحت وشكت لكبير الممرضين، فقال لها : البسي نظارة سوداء حين تدخلين عليه، فدخلت عليه بنظارة سوداء تغطي عيونها:

فانشأ يقول: وبعذوبة السوداني المأخوذ بسحر طبيعة السودان وعذوبة اهلها الطيبون:

- والسيف في الغمد .....لا تخشى مضاربه

- وسيف عينيك ....في الحالين بتارُ

ولما ترجمت الكلمات بكت الممرضة ذهولا وفرحا وقالت هذا الرجل مسهُ العشق وليس الجنون.

ولما قرأ الاديب المعروف عباس محمود العقاد هذه الاشعار ، سأل عنه فقالوا انه في مشفى الامراض العقلية: فرد هذا مكانه!! ولما سألوا العقاد لماذا تقول هذا القول ،اجاب ... لان هذا الكلام و المستوى من البلاغة والجزالة والسحر الادبي يسمو لدرجة انه لا يقوى استيعابه ا العقلاء.

السودان بلد عريق بفنانيه وأدباءه ولكنه غير محظوظ بمعرفة العالم للكثيرون منهم ، والفن حاجة يتذوقها الانسان كما لماء ويستشعرها كما نسمات الهواء العليل، والنفس بلا تذوق للجمال والشعر الرقيق تنبقى معلولة فاقد للتوازن.