|
تجريف الذاكرة وحكاية الدقائق السبع
نشر بتاريخ: 13/10/2021 ( آخر تحديث: 13/10/2021 الساعة: 10:32 )
بقلم: د. صبري صيدم
تجريف مقبرة اليوسفية في القدس قبل أيام من قبل جيش الاحتلال الصهيوني، ليس تجريفاً لموقع جغرافي في قلب القدس فقط، وليس انتهاكاً لحرمة مقبرة فحسب، وليس إهانة للأحياء والأموات في القدس وفلسطين والعالم، بل هو بامتياز محاولة يائسة لتجريف الذاكرة وشطبها، وإزالتها والإطاحة بها، تساوقاً مع موقف رئيس وزراء الاحتلال نفتالي بينيت الذي تجاوز الفلسطينيين في خطابه الأخير في الأمم المتحدة.
نفتالي بينيت هو ذاته الذي لا يحترم قرارات الشرعية الدولية الصادرة عن المؤسسة التي وقف ليتشدق بالحديث على منبرها، عن الحرية والإبداع والديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما تسحق جرافاته عظام الأموات ويستمر في سياسة احتجاز، أو اعتقال جثامين الأسرى، في معاقبة واضحة للأحياء والأموات.
بينيت هو ذاته الذي تحدث مؤخرا مع المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ليقول لها إن إسرائيل لا يمكن، والكلام لبينيت، أن تسمح بإقامة دولة فلسطينية على حدود إسرائيل، لأننا سنكون أمام «دولة إرهابية» تبعد عن حدودنا سبع دقائق.
وعليه فإن كانت حدود الإرهاب بعيدة سبع دقائق كما يدعي بينيت، فإن الفلسطينيين، ووفق المقاييس ذاتها، يعتبرون أن إرهاب الاحتلال إنما يبعد عن كل مدينة وقرية مسافة دقيقة واحدة فقط، وهي المسافة الفاصلة هوائياً بين قلب كل المدن والقرى الفلسطينية، والحاجز الاحتلالي الجاثم على صدرها. ولو أن كل دولة محتلة استخدمت الحجة ذاتها، فإن أياً من الدول لم تكن لتتحرر ابداً.
لذلك فإن ما قاله بينيت إنما يعبر عن إرادة معطوبة، تريد أن تطبق ما قاله أحدهم حول قطاع غزة، بأنه يود لو يستفيق ذات يوم فيجد أن غزة غرقت في البحر، حسب زعمه.
إغراق الفلسطينيين وتجريف ذاكرتهم وتاريخهم، وسجن أبنائهم، ومصادرة أرضهم واعتقال الجثامين، ومصادرة البيوت وتوسيع المستوطنات وجدار الضم، وسرقة البيوت في القدس وغيرها، وصولاً إلى ترحيلهم وشطبهم من سجلات التاريخ، لن يكون بمثابة الحل، مهما حاول زعيم المحتلين وغيره أن يفعلوا.
منطق حاولت ميركل التركيز عليه من جديد، في حوار لها مع إحدى المؤسسات الإسرائيلية أول أمس، مشددة على أن الصراع لا يمكن حله بالتناسي، وأن حقوق الشعب الفلسطيني لا يمكن تجاوزها بالتغاضي، كلام ربما يكون في الوقت الضائع لميركل، التي ستغادر منصبها قريباً .. صحيح، لكنه فعلاً مسّ جذر الحقيقة، خاصة أن أمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا وغيرها لم تستطع شطب السكان الأصليين الذين حاول القادمون الجدد أن يفنوهم، ليعيدوا اليوم إحياء إرثهم عبر أعياد وأيام ومناسبات وشوارع ورسوم وميادين، تخصص لهم وتنسب إليهم، فما بالك بالفلسطيني الذي لم يتنازل لا عن بقائه، ولا عن أرضه، ولا عن هويته ولا عن حقه في العودة ولا عن حقه في الاستقلال، ولا عن قائمة لا تنتهي من حقوقه.
فنحن وإن كنا كما غيرنا طلاب حرية واستقلال، فإننا أيضاً قد تجاوزنا حدود الشطب، فمن هم في الداخل ليسوا حفنة من الناس، بل هم امتداد لشعب بأكمله لا يمكن للاحتلال تجاوزه مطلقاً، بل إن إسرائيل تخشى تزايد أعداد العرب في فلسطين التاريخية، وهو ما سيؤثر في التوازن الديمغرافي الذي سعت جاهدة لتحقيقه من البحر إلى النهر،
وبذلك تحاول إسرائيل وبشتى السبل ضمان ذلك التوازن السكاني عبر الإتيان بالمستوطنين من كل حدب وصوب.
استيراد المستوطنين وتجريف الذاكرة والقيادة بالإنكار وقائمة طويلة مما تتفتق به قرائح المحتل، لن تكون محل نفع حتى لو صلى المطبعون كلهم عند حائط البراق المعروف إسرائيلياً بحائط المبكى، ليس لأن الفلسطيني لن يموت، بل لأن أطفاله الذين أراد المحتل لهم أن ينسوا فلسطين، بعد أن يموت كبارهم، يشتد عودهم اليوم وفي كل يوم، ويرفضون الإذعان والنكران والهوان. ولعل المتصفح لمنصات الإعلام الاجتماعي يعرف ما نقصد ونقول.
إن الحديث عن حجة أن الإئتلاف الحكومي الاحتلالي الهش في إسرائيل لا يستطيع صنع السلام في إسرائيل، بسبب تلك الهشاشة ما هو إلا تقليعة جديدة للتعطيل والتأخير والتسويف والمماطلة والإنكار، بينما يستمر الجرف والحرق والتنكيل.
العبرة هي للمطبعين الجدد والقادمين المرتقبين إلى مربع التطبيع، عل تطبيعهم يعاني أيضاً من الهشاشة فيتوقف ويتقهقر ويندثر.
التاريخ سيذكر الجميع… والتاريخ سيف بتّار لا ولن يرحم أحدا .
|