|
الدولة العميقة والتحول الديمقراطي في الوطن العربي
نشر بتاريخ: 03/11/2021 ( آخر تحديث: 03/11/2021 الساعة: 22:40 )
د. صقر سليمان لم تكد تمر عدة سنوات على انطلاق ما يعرف بثورات الربيع العربي وما تمخضت عنه من عملية تحول ديمقراطي في عدد من الدول العربية حتى بدأت تسيطر على المراقبين والمتابعين لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان حالة من التشاؤم نتيجة تعثر هذه التجربة الوليدة وتراجعها بشكل كبير. فبدلا من الاستمرار في تدعيم وتطوير آليات التحول الديمقراطي في هذه الدول نلاحظ أن الأمور تتطور بشكل دراماتيكي وبدأت تأخذ اتجاهات معاكسة بحيث تم تعطيل المسار الديمقراطي وسادت حالة من الاقصاء والاستقطاب الايدولوجي والسياسي في المجتمعات العربية ستبقى تداعياتها على الافراد والمجتمعات ماثلة خلال السنوات القادمة. يرى العديد من الخبراء والمراقبين أن ما جرى ويجري في دول الربيع العربي وما يمثله من تراجع وانتكاسة لتجارب التحول الديمقراطي في هذه الدول يثير تساؤلا حول دور الدولة العميقة في تعثر وانهيار هذه التجارب بسبب معاداتها للتغيير وخوفها على مصالحها التي تشكلت عبر السنين. إن استخدام مصطلح الدولة العميقة في وسائل الاعلام وبين الاوساط السياسية والاجتماعية في العالم العربي أصبح أكثر انتشارا وشيوعا في السنوات الأخيرة لما لها من تأثير على تطور المسار السياسي في الدول العربية الأمر الذي يدعو الى تسليط الضوء على مفهوم الدولة العميقة وكيف يمكن تفسير ميلادها؟ كيف تعمل؟ وما مدى تأثيرها على الانتقال الديمقراطي؟ الدولة العميقة هي تعبير عن مفهوم شائع لوصف الحالة التي تعبر عن تلك القوى الخفية التي تتحكم بمصير الدولة ومصادر الثروة والنفوذ وتمتاز هذه القوى بأنها غير منتخبة وتمتد لتشمل معظم مفاصل الدولة كالجيش، اجهزة الأمن، المؤسسات البيروقراطية المدنية، القضاء، وسائل الاعلام، مراكز الأبحاث، وغيرها. تعمل الدولة العميقة على التحكم بصنع القرار عبر شبكات التأثير والضغط ولهذه الشبكات أهداف مشتركة تعمل من خلالها على توجيه مؤسسات الدولة الرسمية وقراراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. تبين الدراسات إلى ان اول ظهور للدولة العميقة كان في تركيا في القرن الماضي ليشير الى الثقافة العلمانية التي وضع أسسها كمال اتاتورك بعد انهيار الخلافة العثمانية. فالدولة العميقة في تركيا تعبر عن تحالفات عميقة داخل اجهزة النظام وتتكون من عناصر رفيعة المستوى من عسكريين ومتنفذين في الدولة هدفها حماية علمانية الدولة التركية ومحاربة أي فكر أو حركة او حزب او حكومة تهدد مبادئ وقيم العلمانية التركية (قام أردوغان خلال سنوات حكمه الطويلة بالتفكيك التدريجي لآركان الدولة العميقة وإعادة تشكيلها من جديد وما محاولة الانقلاب الفاشلة قبل عدة سنوات الا ردة فعل من الدولة العميقة التركية لمقاومة هذه العملية). حديثا كشفت ثورات الربيع العربي ان اي محاولة للتغيير قد قوبلت بمقاومة واضحة قادتها الدولة العميقة في هذه البلدان انطلاقا من دورها في الحفاظ على الوضع القائم والقيم السائدة وهذا امر متوقع اداريا وسياسيا فوفقا لمفهوم ادارة التغيير فان أي تغيير لأي منظمة او كيان سوف يقابل بحجم معين من المقاومة تقوده جهات مستفيدة من الوضع القائم وتخاف من التغيير الذي يمكن ان يطيح بمصالحها ومراكز نفوذها، ففي بعض الدول العربية تبين ان استقالة أو إقالة الزعيم أو الرئيس لم يؤدي الى تغيير سياسي حقيقي في هذه الدول فتغيير رأس النظام قد لا يعني تغييرات جوهرية في سياسات هذا النظام نظرا لاستمرارية بقاء الشبكات العميقة للدولة. ولعل ما قام به الجيش السوداني أخيرا من تراجع عن التفاهمات التي تم ابرامها مع قوى التغيير الا ابلغ مثال على ذلك، حيث شكل انقلاب رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان - كأحد أركان الدولة العميقة في السودان- على المكون المدني بقيادة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك حلقة أخرى في مسلسل إدارة الظهر لطموحات الجمهور العربي في التغيير وبناء الدولة المدنية المنشودة كما شكل حجر عثرة إضافي أمام تكريس مفهوم الشراكة السياسية والانتقال السلمي للسلطة في بلد يعاني من الفقر والبطالة والاستبداد وغياب الحكم الرشيد. في نفس السياق هناك من يذهب إلى القول بان سيطرة الإخوان المسلمين على الحكم في بعض الدول العربية ولو لفترة محددة ما كان ليتم بدون وجود تفاهمات بين الدولة العميقة وحركات الاسلام السياسي التي تنكرت لاحقا لهذه التفاهمات واتسم سلوكها بمعاداة التعددية والشراكة الأمر الذي أجج الصراع وانهى حالة التعايش التي كانت قائمة بين الطرفين وقاد إلى انقلاب الدولة العميقة على هذه الحركات والتخلص منها. اظهر النموذجين التونسي والمصري على سبيل المثال محاولات واضحة من حركات الاسلام السياسي للتنكر لمبادئ المشاركة السياسية والسيطرة على البرلمان ومفاصل الدولة في محاولة منها لإعادة تشكيل النظام الاداري والسياسي في هذه الدول وفق رؤيا تستجيب وتتكيف مع ما حققته من انجازات في مرحلة ما بعد 2011 . بلا شك فإن تردي الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفساد والفئوية وما نتج عنه من زيادة نسب البطالة والفقر خلق حالة من التذمر والرفض الشعبي لهذه الحركات وسياساتها وأدى إلى تحييد الاحزاب السياسية الأخرى مما سهل مهمة الدولة العميقة للانقضاض على الحكم وإفشال محاولات حركات الاسلام السياسي لإعادة تشكيل القيم السياسية والادارية للنظام في هاتين الدولتين. كيف يمكن تفسير ميلاد الدولة العميقة؟ في الواقع هناك أكثر من تفسير لميلاد الدولة العميقة وديمومتها وتحكمها في صنع السياسات واتخاذ القرارات الاستراتيجية فمنها من يركز على طبيعة النظام السياسي الحاكم ويرى أصحاب هذا الاتجاه ان الدولة العميقة غالبا ما تجنح إلى العنف والقمع في تعاملها مع منتقديها أو معارضيها. بشكل عام فإن فرص تشكل الدولة العميقة يكون أكبر في النظم غير الديمقراطية حيث تكون الدولة قهرية وتعمل على كي وعي الناس وترويضهم بالاقناع او التخويف من اجل قبول وجود الدولة العميقة باعتبارها الضامن لاستقرار البلاد والحفاظ على امن الناس وعيشهم المشترك بحيث يؤدي- وفقا لأدعاء رجال الدولة العميقة- سقوط هذه الدولة وانفراط عقدها الى انتشار الفلتان وتراجع الاستقرار السياسي والامان المجتمعي. بالاضافة الى ذلك فإن هناك من يستند الى توظيف نظرية المؤامرة لتفسير وجود الدولة العميقة حيث يعمل رجال هذه الدولة على استحضار التهديدات الخارجية والداخلية لتبرير هيمنتهم على مفاصل الدولة والحكم بحيث يصبح التصدي لهذه التهديدات والمخاطر يستدعي وجود قوى خفية غير منتخبة وغير مدعومة بشرعية شعبية باعتبارها هي القوة الوحيدة القادرة على الحفاظ على وحدة البلاد واستقرارها. كيف تعمل الدولة العميقة؟ • تسيطر الدولة العميقة على كافة مفاصل الدولة والمجتمع بدعوى الحفاظ على الأمن القومي وسلامة الاقتصاد الوطني مما يؤدي إلى تعزيز المركزية في الحكم وتسخير أدوات الدولة العميقة للحفاظ على مصالح وامتيازات رجال هذه الدولة واستثنائهم من أي محاسبة او مساءلة قانونية الامر الذي يؤدي الى تراجع الحريات وانتشار المحسوبية والفساد. كما تستخدم الدولة العميقة المؤسسات الاعلامية والدينية التي تسيطر عليها لتبرير سلوكها القمعي اتجاه المواطنين. من المهم الاشارة أيضا إلى أنه على الرغم من وجود مركز ثقل للدولة العميقة كالجيش او أجهزة الأمن الا ان أفراد الدولة العميقة قد يكونوا وزراء، أساتذة جامعات، قضاة، رجال أعمال، رجال إعلام، أعضاء في منظمات المجتمع المدني وبعبارة أخرى هم موجودين في القطاع الحكومي والخاص والاهلي. • من ميزات الدولة العميقة هو القدرة على افتعال الازمات واداراتها بطريقة تضمن بقاء سيطرتها واستمراريتها. فعند شعور الدولة العميقة انها مستهدفة نتيجة لوجود حراك شعبي يهدد وجودها فانها تلجأ الى خلق ازمة اقتصادية او اجتماعية او سياسية مع جهات محلية أو خارجية من اجل منع حدوث تغيير جذري على بنية النظام السياسي. • استخدام الاقتصاد كأحد الادوات الرئيسية لترسيخ بقاء واستمرارية الدولة العميقة من خلال التحكم في مسألة العرض والطلب واتجاهات السوق من أجل الحفاظ على شبكات المصالح الاقتصادية التي تغذيها وتضمن بقاء النظام. فمثلا في مصر لجأت المؤسسة العسكربة والتي تعتبر ركنا أساسيا من أركان الدولة العميقة الى امتلاك عدد كبير من الشركات الاستثمارية التي تعود عليها بالربح مما يمكنها من السيطرة والتحكم في العمليات الاقتصادية وحركة السوق في البلاد. كما تستخدم الدولة العميقة امكانياتها الاقتصادية ونفوذها السياسي لنسج علاقات منفعية مع رجالات الدولة ذوي المناصب العليا للتأثير عليهم واستمالتهم اليها. خلاصة القول فان الدولة العميقة تتشكل من شبكة واسعة ومعقدة من العلاقات تشمل أفرادا ومجموعات ومؤسسات ذات أنوية صلبة تغلف نفسها بقوى سياسية وامنية واقتصادية واعلامية ودينية لضمان بقاءها ومقاومة اي تغيير يهدد استمراريتها. بمعنى أخر تعتبر الدولة العميقة مصدرا للهيمنة على المكونات الاجتماعية والسياسية الأخرى وتمثل معيقا رئيسيا للتحول الديمقراطي في أي دولة خاصة في ظل وجود جهاز بيروقراطي حكومي متماهي ومتحالف بشكل كلي مع الدولة العميقة. لا شك ان تنمية الثقافة المجتمعية والسياسية ومأسسة الدولة حول مبادئ سيادة القانون وفصل السلطات والمشاركة السياسية وتجذر قيم الرقابة والمساءلة والشفافية يحول دون نشوء دولة عميقة في الدول الديمقراطية وفي حال وجود ملامح لهذه الدولة فإنها تعتبر قوة ضامنة وحامية لعملية الانتقال الديمقراطي باعتبارها وسيلة تغيير سلمية بعيدا عن العنف والقمع واقصاء الاخر. على عكس ذلك تعمل الدولة العميقة في ظل غياب الديمقراطية على تثبيت ذاتها وترسيخ وجودها من خلال استخدام اساليب العنف والقمع ومصادرة الحريات. بمعنى اخر فإن طبيعة النظام السياسي تلعب دورا في تعزيز وجود الدولة العميقة من عدمه وفي تحديد هويتها واتجاهات تأثيرها.
|