وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

انتحار التاء المربوطة!

نشر بتاريخ: 22/12/2021 ( آخر تحديث: 22/12/2021 الساعة: 12:46 )
انتحار التاء المربوطة!



بقلم: د. صبري صيدم

هكذا وبصمت مرّ اليوم العالمي للغة العربية بعد أن أنعش ذاكرتنا البعض، بأن ذاك اليوم قد حل، وبعدما قامت عدة جهات دولية وعربية مشكورة بتكريم لغتنا، لغة الضاد، عبر إصدارات مختلفة، ومنشورات جديدة، ومحاولات مهمة للتذكير إن نفعت الذكرى.

وبصراحة فإن محاولات الإنعاش المشكورة، ما هي إلا محاولات يائسة في زمن تفكر فيه اللغة ذاتها بالانتحار، ولعدة أسباب، أهمها التالي:

1 ـ تراجع مكانتها أمام تقهقر الأمة العربية وغيابها الطويل عن صناعة الفكر والإنتاج الثقافي والابتكار العلمي والتميز الفكري والاقتصاد المعرفي.

2 ـ تقهقرها أمام تفكك العالم العربي، ونكباته المتلاحقة، التي كان آخرها ما سمي بالربيع العربي، الذي أعاد العالم العربي عقوداً إلى الوراء.

3 ـ سواد ثقافة «العربيزي» التي شاعت مؤخراً في الفضاء الإلكتروني جراء ولادة الجمع بين اللغة العربية واللغة الإنكليزية، واعتماد الشباب العربي على تبني هذه الثقافة، على أنها موضة العصر، وبغرض السرعة، وتجاوز حواجز اللهجات العربية المختلفة، والتساوق مع الثقافة الغربية، والرغبة الملحة في اختصار الوقت والجهد، بينما استبدلت بعض الحروف العربية بأرقام دخلت على خط «العربيزي» فاستخدم الرقم 3 ليكون بديلاً عن حرف العين، والرقم 7 بديلاً عن حرف الحاء وهكذا. نهج جديد تشهده اللغة العربية في الفضاء الإلكتروني لا محالة، زاده تعقيداً تشديد مقص الرقيب، من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، فلجأ كثيرون للاستعاضة عن مفردات محددة بحروف لاتينية لتضليل عملية «الفلترة» التي تطبقها تلك المنصات.

4 ـ تراجع أولوية اللغة العربية أمام لغات الإنترنت الشائعة كالإنكليزية والصينية والإسبانية والفرنسية وغيرها، بحيث لم تعد اللغة العربية تحتل المرتبة الخامسة في تصنيف الأمم المتحدة، بل إن بعض منشورات الأمم المتحدة باتت تتجاوزها.

5 ـ اعتماد مبدأ اختصار الجهد في مدارسنا العربية قاطبة، والبحث عن أقصر الطرق لإتمام المراحل الدراسية، بصورة تساهم في تهميش اللغة العربية وانتحارها.

لذلك فإن المذكور ما هو إلا بمثابة غيض من فيض، خاصة أمام انشغال الأمة العربية بسيل همومها، وشعور الإحباط العارم الذي يسكن نشرات أخبارها وإدمانها على محاولة البحث عن بصيص الأمل فلا تجده إلا في كتب التاريخ.

وعليه باتت الخطابات العربية تبدو وكأنها منظومة من الملوثات الصوتية المزعجة، خاصة مع اختلاط الحابل بالنابل واضطراب قواعد اللغة، وتزاحم التشكيل الخاطئ للكلمات وضعف التراكيب.

ولعل للخطاب «العنتري» المتعالي دورا في زيادة تكلس ألسنة البعض، واضطراب مخارج حروفهم، وتزاحم الأخطاء والهفوات، بصورة تبدو معها الخطب أحياناً وكأنها ديباجة متكررة متحجرة، لا تخدم سوى الاستعراض العضلي المستقوي والسخيف، بصورة لا يميز فيها الكاتب بالعربية، بين التاء المفتوحة والتاء المربوطة، والضاد والظاء، والسين والثاء وغيرها الكثير.

وبهذا تستطيع أن تقول: من حفنة مال، ضاع الضعف، وثارت النفس وغاب الفقر المدقع لتقول: «من حفنت مال، ظاع الظعف، وسارت النفس، وغاب الفقر المضقع».

حال لا يستأهل التغني باللغة العربية فقط، بل يدق ناقوس الإنذار بحالها ومآلها، حتى نؤمن بأن عودتها إلى الحياة لن يكون إلا بإنتاج المعرفة والعودة إلى صناعة الفكر والأدب، وتطوير التعليم، وتعزيز القراءة، وترسيخ مقولة: العلم في الصغر كالنقش في الحجر.

فهل نعود العام المقبل وقد استعادت التاء المربوطة رونقها، أم ودعتنا جميعاً إلى غير رجعة؟