وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

ماذا فعلت كورونا بوسائل الإعلام الفلسطينية؟

نشر بتاريخ: 22/12/2021 ( آخر تحديث: 22/12/2021 الساعة: 18:33 )
ماذا فعلت كورونا بوسائل الإعلام الفلسطينية؟

د. محمود الفطافطة

رغم تعدد وتنوع الأزمات والكوارث التي مرت بها البشرية في العصر الحديث، إلا أن جائحة كورونا تُعد من أشدها قوة وأثراً، ويرجع ذلك، بالأساس، إلى توزع تمظهراتها، واتساع رقعتها ومداها، وإحاطة آثارها بمختلف معالم الحياة البشرية. ولا شك أنه لدى زمن الأزمات والشدائد خصيصة لازمة، وهي تعاظم حجم التغطيات الإعلامية، المواكبة لها وكثافتها، إذ تتضاعف، في فترة الأزمات، زيادة اعتماد أفراد المجتمع على وسائل الإعلام في معرفة تفاصيل تلك الأزمات؛ فهي تمثل المصدر الرئيس للمعلومات عن الأزمة لدى الجمهور، وأيضاً في تشكيل اتجاهاته نحو الأزمة وكيفية إدارتها.

ومثلما وضعت جائحة كورونا العالم كله في اختبارٍ حقيقي، يكشف ويجلي الحقائق المرتبطة بالقيم والمبادئ الإنسانية التي تتحلى بها المجتمعات، ومدى تحمَل وقيام مختلف الأطراف بأدوارها وواجباتها، ومدى فعالية هذه الأدوار في الظروف الصعبة، ومدى الاستعداد لمواجهة حالات الطوارئ، فإن وسائل الإعلام في العالم، وبأنواعها المختلفة، تعرضت إلى اختبارٍ وتحدياً كبيرين بخصوص طبيعة وفاعلية وتأثير تغطية هذه الوسائل للجائحة، والتصدي لها، والحد من تداعياتها.

وفي ظل اعتبار الأوبئة والأمراض المعدية من أكثر الأخطار التي تفتك بالشعوب، ومنها جائحة كورونا، فقد طُرحت التساؤلات، ولا تزال، حول دور الإعلام في مواجهة هذه الجائحة الفتاكة، ومعرفة طبيعة أسلوب التعاطي والتعامل مع مجرياتها وتأثيراتها، ومن ثم كيفية التصدي لها. فالبعض، يرى أن وسائل الإعلام قامت بواجبها المهني والإنساني فيما يتعلق بالتغطية الإخبارية لحيثيات وانعكاسات الجائحة على مجمل القطاعات الحياتية رغم ما تعرضت له من ضائقة مالية، وتقييد رسمي، وخطر صحي على أفرادها، بينما فريق آخر يذهب عكس ذلك؛ منتقداً هذه الوسائل لتقصيرها الواضح في تلك التغطية، والتصاقها بتعليمات وقرارات الحكومات بشأن المعطيات والإحصاءات المتعلقة بالجائحة دون أن تلتزم بمبادئ المهنة وأخلاقياتها المتضمنة، أساساً، مبادئ المصداقية، والحقيقة، والشمولية، والنزاهة، والعدالة، والمساءلة.

وبين من يُشيد بتلك التغطية، وبين من ينتقدها نجد أن وسائل الإعلام العربية، على وجه الخصوص، تنازعتها مواقف متناقضة، في ظاهرها إعلامية، وفي الجانب الخفي سياسية، وبمقدور المتابع أن يُلاحظ ذلك، حيث النقد الموجه إلى دول بعينها في طريقة التعامل مع الوباء، وإظهارها بموقف الضعيف، والمتخبط عديم الكفاءة والاقتدار، في حين ذهبت وسائل إعلامية أخرى تكيل المدح لحكوماتها، ومارست دور محامي الدفاع عن ما قامت به الحكومات من إجراءات للتعامل مع الوباء؛ ما أدى إلى توحيد رواية كلا الطرفين الإعلامية، وهذا ما كان على حساب أخلاقيات المهنة، وصدقية المعلومة، ومطالب عناصر الشفافية في التغطية، والتحليل في المحتوى، والنقد للسياسات.

وإلى جانب تلك المواقف المتناقضة، فقد تعرضت هذه الوسائل إلى اختبارٍ متجدد في مصداقيتها دون أن تنجح فيه وسائل إعلام كثيرة؛ والمتمثل في وقوعها ضحية للمعلومات الطبية الخاطئة والمتضاربة التي يُصرح بها الأطباء والمختصون، إذ تعرضت هذه الوسائل لحرجٍ مع جماهيرها، فكثيراً ما سمعنا معلومات متعارضة، تتناقلها وسائل الإعلام، وما أن يعتقد المواطن بصحة معلومة حتى يتم نفيها أو تصحيحها.

ورغم ذلك وسواه، ما زالت وسائل الإعلام تؤدي دوراً مؤثراً في إدارة الأزمات وتوجيه الرأي العام المتطلع بشغفٍ إلى معرفة حقائق عن مجريات الأزمة، وذلك من خلال تناولها لأحداثها والبحث في أسبابها وآفاق تطورها ومآلاتها. ولكن، لا زالت إشكالية مدى التأثير الذي يمكن أن تحدثه وسائل الإعلام على الأفراد والمجتمع محل خلاف بين المهتمين على مستوى الرأي العام والفاعلين الإعلاميين، لاسيما عند تأجج الأزمات.

وقطعاً للإفاضة، وتخصيصاً للحالة الفلسطينية، فإن الإعلام الفلسطيني قد تأثر، بالطبع، بجائحة كورونا، وتم توظيف وسائل الإعلام بشكلٍ مكثف لإدارة مثل هذا النوع من الكوارث الوبائية، وهذا ما دفع الحكومة وأفراد المجتمع إلى التطلع والتعامل مع تلك الوسائل؛ لما تمثله من مصدرٍ رئيس في التزويد بالمعلومات، والمساهمة في تشكيل الرأي العام، وبلورة المواقف والاتجاهات.

وفي الوقت الذي بات فيه دور وسائط التواصل الاجتماعي، خلال الأزمة، أكثر انتشارًا واهتماماً وفاعلية مقارنة بوسائل الإعلام التقليدية، هناك رأيين متباينين حول دور وسائل الإعلام الفلسطينية في تغطية مجريات ووقائع الجائحة، فأولها يرى أن هذه الوسائل (التقليدية والحديثة) قامت بواجبها المهني والقيمي، وساهمت في التوعية الصحية، والتقليل من انتشار الفيروس، وتحقيق هدف التعافي من تأثيرات الجائحة إلى الحد الذي يمكن وصفه بأنه أكبر من الدور الذي يجب أن تلعبه في توعية الناس بكيفية التعامل مع الفيروس على مختلف الصعد؛ اجتماعياً وسلوكياً وصحياً.

أما ثاني هذه الآراء، فيرى أن وسائل الإعلام كان بإمكانها أن تقوم بدورٍ أكثر فاعلية لتحقيق هدف التعافي الذي يتعدى استمرار الالتزام بالإجراءات الوقائية والاحترازية، مثل ارتداء الكمامات والحفاظ على التباعد الجسدي، وتشجيع أفراد المجتمع على تلقّي اللقاح من خلال بيان الأهمية القصوى لهذه الخطوة، ودحض الشائعات التي يتم ترويجها حول لقاحات كورونا بأنواعها المختلفة. أصحاب هذا الرأي يذهبون للقول إن: من واجب الإعلام أن يكون شريكاً في المواجهة والحل، لا متلقياً للمعلومات من الحكومة، وأن يكون، كذلك منبراً لنشر الحقائق، وإعلاء صوت المهمشين والمرضى وأهالي الضحايا، وأن يركز على تغطية أحداث الواقع بعمقٍ وعدالة؛ مستنداً في ذلك إلى التحقيقات الاستقصائية، والتحليل النقدي؛ الهادف إلى كشف القضايا بشفافية وجرأة دون التورط في مثالب التمويه والتعتيم والتضليل.

وفي نقاطٍ سريعة ومركزة، يمكن لنا تسجيل أهم الملاحظات بشأن تأثير كورونا على طبيعة التغطية الإعلامية في فلسطين، وكذلك على واقع ومستقبل هذه الوسائل. وأهم هذه النقاط التالي:

• تركز دور وسائل الإعلام الفلسطينية على التوعية الوقائية والثقافة الصحية خلال فترة انتشار جائحة كورونا.

• الدور الذي قامت به وسائل الإعلام الفلسطينية كان جيداً ومميزاً من حيث التوعية والتثقيف وتفهم للظروف التي ألقت بظلالها على المجتمع في الأسابيع الأولى من الجائحة وإعلان حالة الطوارئ.

• وسائل الإعلام الفلسطينية كانت تتمتع بقدرٍ ليس بواسع من الاستقلالية والتعددية، إلا أنه كان أفضل بالمقارنة مع فترة انتشار جائحة كورونا؛ حيث انعدام الاستقلالية والتعددية، خصوصاً خلال المرحلة الأولى (الأشهر الثلاثة الأولى) من انتشار الفيروس واعلان حالة الطوارئ، إذ تحولت هذه الوسائل لأداة نقل ما يصدر عن الحكومة.

• إن أثر انتشار جائحة كورونا على وسائل الإعلام تمثل، أساساً، في اضمحلال مواردها المالية، حيث إيقاف الإعلانات من قبل الشركات التي تتعامل معها، إذ تراجعت إيراداتها بسبب توقف الإعلانات جزئياً أو كلياً، فيما أثر انتشار الفيروس، بشكلٍ أقل، على وسائل الإعلام التي لا تعتمد على الإعلانات بصورةٍ كلية كمصدر أولي لإرادتها؛ مثل وسائل الإعلام التي لها تعاقدات مع منظمات غير حكومية؛ دولية ومحلية.

• هناك حالة لوم للشركات الكبرى من قبل وسائل الإعلام بسبب وقف الإعلانات والتعاقدات الإعلانية غير المبررة، خاصة أن هذه الشركات؛ كالعاملة في قطاعات البنوك والاتصالات والإنترنت وإنتاج المواد الغذائية وغيرها لم تتأثر بالجائحة والاغلاقات، بل حافظت على مبيعاتها وإيراداتها وأرباحها؛ إن لم يكن قد حققت أرباحاً أكثر.

• تراجع وتقلص عدد الكوادر الصحفية العاملة في بعض المؤسسات الإعلامية، بحيث لم تعد بعض وسائل الإعلام قادرة على القيام بواجبها ومتابعة أعمالها؛ لدرجة أصبح من الصعب على هذه الوسائل تحديد جدول أسبوعي لنشاطاتها، وللصحفيين العاملين بها.

• تراجعت سمعة وسائل الإعلام والصحفيين ومصداقيتهم بسبب فقدان قدرتهم على تصدير الأخبار وإنتاج التحقيقات الإعلامية، والاهتمام بالوصول إلى إعلانات الشركات بدلاً من الاهتمام في المحتوى الإعلامي، بحيث أصبحت مضامين منتجات الإعلاميين؛ من أخبارٍ ومواد؛ وكأنها أخبار علاقات عامة، والدفاع عن موقف السلطة السياسية وحكومتها، وكذلك، عن مواقف الشركات الخاصة.

• إن أثر انتشار فيروس كورونا، بشكلٍ مباشر، هو على ايرادات وسائل الإعلام المحلية، والتي تعتمد على الإعلانات التجارية، إذ أن من شأن محدودية هذه الموارد المالية تهديد استمرارية وسائل الإعلام الفلسطينية وتعدديتها.

• عزوف الشركات الخاصة عن تقديم الرعاية المالية للبرامج ذات المحتوى الوطني والسياسي؛ فالشركات الخاصة ترى بأن مثل هذه الإعلانات مُضرة بها وبمصالحها، حيث أن الربط بين المحتوى الإعلامي مع الحالة الوطنية والسياسية مُضر أمنياً بالشركات المعلنة، ما قد يعرضها للضرر الاقتصادي والأمني راهناً ومستقبلاً.

واستناداً إلى كل ما ذكر سابقاً، فإن المطلوب التالي:

 المحافظة على المهنية والموضوعية بتعدد وتنوع الآراء، فالتعددية في الآراء والاختلاف يعني قرار أفضل، حيث تعكس وجهات النظر المتباينة احتراماً لحرية الرأي والتعددية في الإعلام، خصوصاً تلك المتصلة بالظواهر والقضايا والمعالجات الناشئة عن السياسات المتعلقة بانتشار جائحة كورونا، أو الأزمات بأنواعها.

 تطوير قدرات الصحفيين في الإعلام المتخصص؛ لأن ذلك يساهم في إنتاج محتوى مميز، ويعمل على جذب الجمهور، وزيادة من أعداد المتابعين، ورفع درجة الثقة بوسائل الإعلام.

 الحاجة إلى التعامل بنوعٍ من الشفافية في نقل المعلومة والأخبار، خاصة في ظل الأزمات والجوائح، فالطلب على المعلومات ودرجة شفافيتها تزداد.

 تدريب صحفيين متخصصين في الحقول المختلفة، والتدريب على موضوعات محددة ودقيقة منها الحقل الصحي، وما يتصل به من موضوع الأوبئة والأمراض وسواهما.

خلاصة القول: إن هناك تأثير واضح على دور واستقلالية وتعددية وسائل الإعلام؛ ليس بفعل انتشار فيروس كورونا وحده؛ بل بمجمل التطورات التي رافقت الوضع الفلسطيني؛ سواءً المتعلقة بتشديد قبضة الاحتلال على النضال الفلسطيني، ومحاربة الرواية الفلسطينية، وتشديد قبضة السلطة الفلسطينية على الحريات؛ بأنواعها، وإنهاء عمل السلطة التشريعية، ورفض قيادة السلطة إجراء الانتخابات، وإحكام السيطرة والقبضة على الجهاز القضائي، مع التصدي الميداني لمنتقدي مظاهر الفساد الداخلي.

لقد كشفت ظروف جائحة كورونا مدى الحاجة إلى تشريعات وقوانين لحماية استمرارية وسائل الإعلام وتعددها. ولعل الحاجة إلى النضال لإقرار حق الوصول للمعلومات مع تحفيز الصحفيين ونقابتهم للوصول إلى قوانين عصرية تحمي حرية الإعلام والتعبير، وحماية حياة وأمن العاملين في وسائل الإعلام، والمحافظة على دخلهم ومصدر رزقهم وكرامتهم، تُعد من الأولويات التي غايتها الحفاظ على استقلالية وتعددية الإعلام الفلسطيني.