|
السلام الاقتصادي واليأس السياسي
نشر بتاريخ: 30/12/2021 ( آخر تحديث: 30/12/2021 الساعة: 11:11 )
عاد وزير الخارجية ورئيس الوزراء الإسرائيلي البديل يئير لبيد، وطرح مشروعه الخاص «الاقتصاد مقابل الأمن» مكررا الحديث عن «سلام اقتصادي شامل» وذلك في لقاء خاص، الخميس الماضي 23/12/2021، مع طاقم «معهد دراسات الأمن القومي» الذي يعتبر أهم مؤسسات التفكير الاستراتيجي في الدولة العبرية. وصرّحت وزيرة الداخلية الإسرائيلية، أييليت شاكيد، خلال زيارتها للإمارات، بأن حكومتها ترفض إقامة دولة فلسطينية، وتتمسّك بالمستوطنات، وترى أن الأمر الوحيد الذي يمكن الاتفاق عليه هو «السلام الاقتصادي». نظرية السلام الاقتصادي لم تخترع إسرائيل مفهوم «السلام الاقتصادي» فهو قائم منذ ثلاثة قرون على الأقل، ونجده حتى عند أهم فلاسفة العصر الحديث إيمانويل كانت، الذي اعتبره واحدا من الأرجل الثلاث، التي يقوم عليها السلم العالمي. وتنطلق نظرية السلام الاقتصادي، التي تسمى أيضا «السلام الرأسمالي» و «السلام التجاري» من مقولة إن مجتمعات السوق أقل ميلا إلى الدخول في صراعات عنيفة بين بعضها بعضا، لأنها ترتبط بعلاقة اعتماد متبادل مربحة للطرفين، ولأن خسارتها من الحرب والمواجهة العنيفة تفوق أي ربح ممكن. ويرى أنصار الليبرالية الاقتصادية أنه كلّما ارتفع الرخاء زادت الخسارة من الحرب، وبالتالي قلّ الاستعداد لخوض غمارها. لكن الأبحاث الإمبيرية لم تأت بنتائج قطعية بصحة فرضية «الرخاء يمنع الحرب». فقد دلّت دراسات قياس العلاقة بين الاعتماد الاقتصادي المتبادل من جهة، وفرص الحرب من جهة أخرى، على نتائج متباينة وحتى متناقضة، فمنها ما وصل إلى نتيجة أن هناك علاقة عكسية، ومنها ما استنتج أن العلاقة طردية، وذهبت أبحاث أخرى إلى أنّ العلاقة مركّبة، وأنّ ما يتفوّق على مبدأ الاعتماد الاقتصادي المتبادل هو، الاعتقاد بأن المكسب من الحرب والمواجهة يزيد عن الخسارة. فلسطين والنظرية المشكلة في تنظيرات الليبرالية الاقتصادية هي أنها تختزل الإنسان إلى «كائن اقتصادي عاقل» برسم الواقع، أو ما يجب أن يكون عليه هذا الواقع. وهي عموما تتجاهل أن حسابات الربح والخسارة ليست اقتصادية فحسب، فهناك حسابات التوق للحرية الفردية والجماعية، والإحساس بالظلم والإذلال والرغبة في تحقيق الذات بلا قيود خارجية، وهي في الكثير من الحالات مثل الحالة الفلسطينية أهم بكثير من الاعتبارات الاقتصادية على أهميتها. وحتى لو أخذنا نظرية «السلم الاقتصادي» كما هي، نجدها بداهةً وبمنظور النقد المحايث من الداخل، غير قابلة للتطبيق في الحالة الفلسطينية، لأن فلسطين ليست دولة، وهي تحت احتلال وشعبها يسعى لإقامة دولة. وكل تنظيرات السلام الاقتصادي تستند إلى أمثلة العلاقة بين دول مستقلّة، وشعوب حقّقت طموحاتها القومية الأساسية، وقد تختلف على بعض التفاصيل. كما أن فلسطين ليست في أوروبا، حيث أجريت الأبحاث وطُوّرت المفاهيم العامة بهذا الشأن، في سياق التشخيص والتحليل والتنظير للحالة الأوروبية. اليأس هو الحل تسعى إسرائيل إلى تطوير مفهوم السلام الاقتصادي ليتناسب مع مشروعها الكولونيالي، وهي تخشى من أنّ المطامح القومية السياسية للفلسطينيين في إقامة دولة مستقلّة تتغلّب في المحطّات الساخنة على أي اعتبار اقتصادي. ويعتقد من يعتقد في إسرائيل بأن نموّا اقتصاديا جدّيا سيجعل الفلسطينيين يلامسون «الرخاء» ويدفعهم إلى الاعتقاد بأنّهم سوف يحصلون، اقتصاديا، على أكثر إن هم تحرّروا من احتلال، وبلغة أخرى فإن البورجوازية الفلسطينية لن تكتفي بإدارة اقتصاد تحت الاحتلال ولها مطامح بدولة مستقلّة تفتح آفاق التطور الاقتصادي عليها أكثر بكثير. يُطرح مشروع «السلام الاقتصادي» بديلا عن الحل السياسي، وليس تمهيدا له. وتخشى إسرائيل أن يبقى الطموح الفلسطيني لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة عائقا لنجاح هذا المشروع. ما الحل إذن؟ بالمنظور الإسرائيلي، الحل هو اليأس، وبما أن الفلسطينيين لن يتخلّوا عن الرغبة في الاستقلال، فعلى الأقل يمكن زرع اليأس في نفوسهم، وإقناعهم بمقولة أن الخلاص السياسي مستحيل وعليهم بالخلاص الاقتصادي. أمّا من ناحية المشاريع الاقتصادية العينية، فإن إسرائيل ترفض بعناد أي مشروع ينسجم مع إقامة الدولة المستقلة، مثل الطريق السريع بين غزّة والضفّة، وتغيير النظام الجمركي الجائر، وإقامة ميناء ومطار وتفكيك الحواجز ورفع القيود عن حريّة التنقّل وغيرها. وتصر على مشاريع تكريس الوضع القائم. ويرى المستثمرون الأجانب كل هذا ويصلون إلى استنتاج منطقي وهو أن مشاريع «السلام الاقتصادي» معدّة للمحافظة على الوضع القائم، الذي قد ينفجر في أي لحظة لتذهب استثماراتهم أدراج الرياح. وعليه وللمفارقة فإن الحديث عن السلام الاقتصادي يردع، ولا يشجّع الاستثمار الاقتصادي. |