نشر بتاريخ: 25/01/2022 ( آخر تحديث: 25/01/2022 الساعة: 12:38 )
المحامي د. هيثم عزُّو
بنتيجة القراءة الأولية لمشروع الموازنة، اتَّضحَ لنا من خلالها أنها مشوبة بعدة مخالفات صارخة قانونية هي التالية:
المخالفة الأولى: انتهاك مبدأ توازن الموازنة
انَّ اخفاق التوازن بين إيرادات مشروع الموازنة الراهنة ونفقاتها -بحيثُ يتضح جلياً من هذا المشروع بصيغته الحالية أنّه يُسجِّل عجزاً مالياً كبيراً-فضلاَ عن عدم واقعية التقديرات فيها وخصوصاً لجهة الإيرادات في مقابل النفقات -والتي أغلبها تشغيلية وليست استثمارية مُنتِجة- يؤول حتماً الى مخالفة مبدأ "توازن الموازنة" الذي يوجب قانوناً أن يكون تقدير الإيرادات مقارباً فعلياً لتقدير النفقات في الموازنة وذلكَ للحيلولة دون الوقوع في مشكلة العجز وهو ما ستقع فيه هذه الموازنة اذا ما أُقِرَّت بصيغتها الراهنة.
المخالفة الثانية: الشذوذ عن الأصول الخاصة بالموازنة العامة
ان تضمين مشروع الموازنة مسائل لا شأن لها فيها يشكِّل قانوناً شذوذاً عن ماهية هذا التشريع المالي, ذلكَ أنَّ المادة 83 من الدستور تنصّ على أن تقدم الحكومة لمجلس النواب موازنة "شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة", أي اقتصارها فقط على النفقات والايرادات دون غيرهما وهو ما يعني أن الدستور حصر مشتملات الموازنة بالنفقات والإيرادات المتوقعة دون أن يتعدّاها إلى مواد أخرى تتضمن إجراءات تنظيمية وإدارية لا تتصل بهذه المشتملات الواجب حصر الموازنة بها فقط وخاصةً أنَّ هذا هذا الأمر كانت قد أكّدت عليه المادة 5 من قانون المحاسبة العمومية والتي جاء فيها: “انَّ قانون الموازنة هو المتضمن إقرار السلطة التشريعية لمشروع الموازنة المالية وهذا القانون المالي يقتضي أن يحتوي فقط على أحكام أساسية تختص فقط بتقدير النفقات والواردات، وإجازة الجباية وفتح الإعتمادات اللازمة للإنفاق وعلى أحكام فرعية تقتصر على ما له "علاقة مباشرة بتنفيذ الموازنة", دون غيره من المسائل الأخرى;
وغنيَ عن البيان انَّ هذا الشذوذ في مشروع الموازنة يُسمى وفق الاجتهاد والفقه الدستوريّين ب"فرسان الموازنة" المخالفة للدستور, لاسيما أنَّ المجلس الدستوري اللبناني على غرار نظيره الفرنسي مستقرّ على أنه لا يمكن تضمين قانون الموازنة أحكاماً غريبة لا علاقة لها به ويكون مصيرها الابطال الحكمي وهو واقع حال العديد من مواد مشروع الموازنة الراهنة الذي يتضمن عدداً لا يُستهان به من بنود تقع في تصنيفها تحت خانة فرسان الموازنة التي لا علاقة لها بتنفيذ المباشر الموازنة، كتلكَ المتعلقة مثلاً بتسوية المخالفات الضريبية أو زيادة عامل الاستثمار في المناطق الصناعية أو منح حوافز للشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية أو تعديل قيمة الضمانة القانونية على الودائع أو تصنيف وتحديد الالية الخاصة بالمعاملات المتعلقة بالودائع المصرفية القديمة والحديثة أو تعديل شروط أعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد أو تعديل شروط استحقاق المعاش التقاعدي أو غيرها من المسائل التنظيمية والإدارية والمالية التي لا تأتلف مع مفهوم الموازنة, لكونها أموراً لا علاقة لها بها بكونها فرساناً تم اركابها عنوةً على المشروع الخاص بالموازنة والذي لا يمكنها بالتالي جرّ عربة الموازنة بها لكونها عصيَّة عليها, بما يستوجب ذلكَ اسقاط هذه الفرسان عن صهوة الموازنة وخاصةً أنَّ ادراجها فيها يُؤلِّف مخالفة دستورية ثابتة وبصرف النظر عن مدى الصحَّة القانونية لهذه المسائل والأمور التي ادراجها فيها.
المخالفة الثالثة: انتهاك النظام العام المالي الحمائي للعملة الوطنية
انَّ فرض في مشروع الموازنة ضرائباً أو رسوماً بغير العملة الوطنية الرسمية للدولة, عدا عن كونه يُقوِّض الثقة المالية بهذه العملة, فأنّهُ يخالف أيضاً النظام العام المالي الحمائي للنقد الوطني وهو واقع حال رسم المغادرة المفروض بالدولار حصراً على اللبنانيين المغادرين -والفاحش جداً- وكانَ الأجدى فرضه على القادمين لا على المغادرين, وذلكَ لكون غالبية القادمين هم سوّاح من الميسورين; هذا فضلاً عن أنَّ هكذا رسم ينطوي واقعياً في الوقت عينه على شبه شذوذ على مبدأ المساواة بين المواطنين المكرَّس دستوراً، اذا من غير السوي تقسيم فرض الرسوم على معاملاتهم بينَ عملة وطنية وأجنبية بفرض رسوم في غالبية المعاملات -بما فيها المحرَّرة بالدولار- بالعملة الوطنية وبسعر محدد من العملة الوطنية وفرض في المقابل بخصوص معاملات معينّة (كالمغادرة) الدفع بالدولار الذي أصبحت قيمته الفعلية في السوق مرتفعة جداً في مقابل العملة الوطنية, ناهيكَ عن بدعة الدولار الضريبي الذي تضمّنه مشروع الموازنة.
المخالفة الرابعة: تشريع المخالفات
انَّ مشروع الموازنة تضمّنَ مواداً تؤول الى تسوية أوضاع المعتدين على الأملاك العامة البحرية (وهي التي تمتد من الناقورة جنوباً الى المنية شمالاً والتي هي أهم ثروة مالية للخزينة العامة) وذلكَ بتقديم لهم تسهيلات زمنية لسداد الرسوم المتخلفين عنها, رغم تعدياتهم أصلاً على الملك العام; فببدل تقرير إزالة التعديات واستعادة وانتزاع هذ الاملاك العامة والمستولى عليها من نافذين بتغطية سيو-قضائية وبدل فرض غرامات وجزاءات على هؤلاء المخالفين يتم تشريع في مشروع الموازنة مخالفاتهم وقوننة أوضاعهم ومنحهم تسهيلات لسداد الرسوم الكبيرة المتأخرة عليهم وذلكَ بصورة مخالفة للقانون الناظم للملك العام القرار رقم 144/س تاريخ 10/6/1925 والذي يفرض صراحةً تجديد عقود استثمار الملك العام سنوياً سنة فسنة وهو ما ستقر عليه القضاء الإداري وذلكَ حمايةً زمنية لحقوق الدولة في حال التنصل وعلى أن يكون التأجير للمصلحة العامة وليس لمصالح خاصة كما هو حال المعتدين على هذه الأملاك (والذين يهضمون على الخزينة ملايين الدولارات), باعتبار انَّ جوهر الملك العام يكمن في استفادة الجميع منه وليست أفراد أو عصابات حزبية.
المخالفة الخامسة: تشجيع التهرّب الضريبي
انَّ تضمين مشروع الموازنة بنوداً تسمح للمخالفين المُكلَّفين قانوناً بأدائها من شركات وأفراد بإجراء تسويات ضريبية معهم, عدا عن كونه يشجّع القاصي والداني والعموم على اقتراف جريمة التهرب الضريبي ويساهم في تبديد المال العام, فانّهُ يضرب في الوقت عيّنهُ سلسلة مبادئ قانونية, سواء مبدأ المساواة ومبدأ العدالة الاجتماعية ومبدأ العدالة الضريبية باعتبار أنَّ التسوية الضريبية تؤول حكماً الى اعفاء مكلَّفين -تخلَّفوا عن القيام بواجبهم بتسديد الضرائب المفروضة عليهم بموجب القانون- من جزءٍ من هذه الضرائب, في الوقت الذي سدّدَ فيه مكلّفين اخرين -هم في ذات المراكز القانونية المتماثلة- الضرائب المتوجبة عليهم بكاملها، التزاماً منهم بتنفيذ القانون، رغم أنّه يقتضي دائماً وأبداً التقيّد بمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمييز أو تفضيل وفق ما جاء في الفقرة (ج) من مقدمة الدستور، ووفق ما نصت عليه المادة السابعة من الدستور.
زد على ذلك, أن التسوية الضريبية المفروضة بهذا التساهل المُقترح في مشروع الموازنة من شأنها تشجيع سائر المواطنين على التخلّف عن تسديد الضرائب المتوجبة عليهم وحتى حمل الذين دأبوا على الالتزام بتأدية واجبهم الضريبي على التهرّب لاحقاً من تسديد الضرائب المتوجبة عليهم, في ظل مثابرة المشترع الضريبي على اصدار قوانين إعفاءات ضريبية لاحقاً وهو ما سيؤدي بالنتيجة الى التفريط بالمال العام وبالتالي إلى زيادة العجز في الموازنة العامة، نتيجة التضحية بالحقوق المتوجبة للخزينة العامة واهدار قيمتها بالتسويات الضريبية والأهم انَّ هكذا تشريع تسووي للانتهاك ضريبي يأتي في زمن القحط الذي تحتاج فيه الخزينة العامة للدولة إلى زيادة إيراداتها المالية قدر الامكان لسدّ عجزها المتنامي.
المخالفة السادسة: استيلاء وزير المالية على صلاحيات تشريعية
انَّ تضمين مشروع الموازنة صلاحيات تشريعية استثنائية لوزير المالية تخوَّله تعديل قانون ضريبة الدخل وتحديد الشطور وتعديل التنزيلات والنسب المتعلقة بالضرائب والرسوم يخالف أحكام الدستور لا سيما أحكام المادتين 81 و82 منه والتي يُستشف صراحةً من سياقها عدم إمكانية تفويض الصلاحيات التشريعية في كل ما يتعلق بإحداث الضرائب أو تعديلها, حيثُ تنص المادة الأولى على أنّهُ تفرض الضرائب العمومية ولا يجوز احداث ضريبة ما وجبايتها في الجمهورية اللبنانية إلا بموجب قانون, في حين تنص المادة الثانية على أنّهُ لا يجوز تعديل ضريبة أو الغاؤها إلا بقانون (أي من قِبَل السلطة التشريعية حصراً التي وحدها تسنُّ القوانين); وعليه, انَّ تكريس مشروع الموازنة لوزير المالية بدعة استيلاء على صلاحيات تشريعية استثنائية، لمعالجة قضايا ضريبية واجراء تعديلات جذرية عليها في هذا الشأـن هو أـمر غير دستوري كون هذه المواضيع تدخل في صلب الصلاحية النوعية الحصرية لمجلس النواب بشكل أساسي وخاصةً لما لهذه المسائل من أهمية كبرى على مستوى القاعدة الشعبية في هذه الظروف بالتحديد; وفي ذات السياق عينه, لا يستقيم قانوناً منح وزير المالية حقّ تسعير سعر صرف الليرة مقابل الدولار من خلال ما سُمي "الدولار الضريبي" في ظل وجوب تحديد قيمة العملة الوطنية من قبل المشترع نفسه بحسب منطوق المادة الثانية من قانون النقد والتسليف, بما يستوجب ذلك عدم تنازل السلطة التشريعية عن مهامها في هذا الصدد, وخاصة في قضية حساسة ذات شأن عام وقضائي .
وكذلك الأمر, لا يمكن حصر معالجة المسائل النقدية والمصرفية والضريبية الواردة في مشروع الموازنة بيَد جهة واحدة لتجنُّب من جهة أولى أية تدخل في سياسي أحادي في هذه الأمور التي تهم الكافة اليوم, ولعدم تحويل وزير المالية من جهة ثانية الى حاكماً بأمره في قراراته بهذه المواضيع التي قد ينتج عنها خلق فوضى مالية, على غرار تعاميم حاكم المصرف المركزي، بما يقتضي ذلك إبقاء الصلاحية بشأنها للسلطة التشريعية أو يُفترض على الأقل معالجتها والبتّ فيها ضمن إطار خطّة حكومية منظمة ومتكاملة متماسكة تصادق عليها السلطة التشريعية بعدَ دراسة وافية ودقيقة وجدية للآلية والكيفية الخاصة بتحديد المسؤوليات وتوزيع الخسائر وإعادة هيكلة المصارف, الأمر الذي يعني معه عدم صوابية ما جاء في مشروع الموازنة لجهة منح وزير المالية حقّ فرض أسس للتعاطي مع الودائع الجديدة بالدولار في القطاع المصرفي وكيفية تسديدها وتجاهل أي إشارة إلى الودائع القديمة التي هي المحور الأساس وموضوع نزاعات قضائية.
وعليه، انَّ توسيع صلاحيات وزير المالية في مشروع الموازنة بمنحه صلاحيات تشريعية لا تعود حتى للسلطة التنفيذية المنتمي اليها هو أمر غير دستوري وغريب جداً، ويُعتبرَ أصلاً أحد فرسان الموازنة التي لا يجوز ايراده فيها، باعتبار أنه لا يجوز دستوراً أن يتضمَّن مشروع الموازنة أي أمور لا تختص بالموازنة بشكل مباشر، كما سبقَ وأوضحنا.
المخالفة السابعة: انتهاك مبدأ سنوية الموازنة
انَّ تضمين مشروع الموازنة في بنوده أموراً مالية تستدام مفاعيلها لأكثر من سنة مالية يخالف مبدأ سنوية الموازنة, باعتبار أنَّ حياة الدولة المالية محدَّدة دستورياً بسنة مالية واحدة فقط، أي أن ّالموازنة ومشتملاتها يجب أن تُقر سنويًا وأن تمتد مفاعيلها لسنة واحدة لا أكثر ولا أقل، كونه سيُقَر لاحقاً وسنوياً موازنات أخرى عن الأعوام التالية, الأمر الذي يقتضي معه وجوب تقيّد مشروع الموازنة فيما تضمّنه من نفقات وايرادات سنوية بهذه المدة الزمنية على سبيل الحصر, دون امتداد ذلك لسنوات لاحقة وهو الأمر الذي لم يحترمه مشروع الموازنة حيثُ خالفَ مبدأ سنوية الموازنة بشكل فادح في عدد من مواده, أهمها تلك المتعلقة بإعفاء الشركات المدمجة من الضرائب لعدد من السنوات، واعفاء الشركة الدامجة من ضرائب الدخل وغيرها لسنوات أيضاً… وكذلك حال إعفاء فوائد الودائع الجديدة بالعملات الأجنبية من الضريبة لمدة ثلاث سنوات أو إعفاء المؤسسات والشركات التجارية والصناعية التي تنشأ حديثًا من الضريبة على الأرباح لعدّة سنوات وهو ما يعني مخالفة أحد المبادئ الأساسية للموازنة العامة.
المخالفة الثامنة: انتهاك أصول اقرار الموازنة
انَّ اقرار مشروع الموازنة الراهنة ونشرها دون سبقها بقطع حساب ُعن السنة السابقة مُنظّم أصولاً وفق أحكام 195 من قانون المحاسبة العمومية التي تفرض أن يوافق ديوان المحاسبة على قطع الحساب قبل إقراره في مجلس النواب، يُشكِّل مخالفةً صريحة لأحكام المادة ٨٧ من الدستور التي تنص أن "حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة الثانية التي تلي تلك السنة".
وعليه، انَّ هذا الأمر يُعَد "انتهاكاً فاضحا للدستور" و"إخلالاً ساطعاً" لمبدأ فصل السلطات و"تعدياً صارخاً" على صلاحيات القضاء المالي (ديوان المحاسبة) ودوره الرقابي على كيفية صرف إيرادات الدولة ويُهدِم في الوقت عينه الغاية من رقابة السلطة التشريعية على كيفية تنفيذ الحكومة للموازنة العامة!
هذا مع التنويه الهام, بأنّه لا يمكن الاعتداد في هذا الصدد باجتهاد غير ملزم صادراً عن المجلس الدستوري (القضاء السياسي كما أثبتت مواقفه) والذي برَّرَ فيه هذه المخالفة الدستورية بذريعة شاذة علمياً بقوله أنّهُ "نظراً للأهمية الإستثنائية التي أولاها الدستور للموازنة العامة، لا يجوز للحالة الشاذة المتمثَّلة في غياب قطع الحساب لسنوات عدة أن تحول دون إقرار الموازنة العامة", وهو الأمر الذي شهدَ أصلاً مخالفة لنائب رئيسه الراحل طارق زيادة الذي أوردَ في مخالفته في ذيل القرار 2/2018 أنه "لا يُعوَّل على القول بالمصلحة العامة في معرض النص الدستوري"، كما أن تعبير "الحالة الشاذة" تعبير يائس لم يرد في العلم والاجتهاد الدستوري لتبرير المخالفات ونحنُ نعتبِر قراره الصادر في هذا الشأن "كمن يعالج مخالفة دستورية مرتكبة بمخالفة أكبر"; وعليه, فأنَّ قراره واجب التصحيح في أيّة مراجعة قادمة في هذا الشأن لكونه يناقض صراحةً نفسه بنفسه فيه لتغطية هذه المخالفة الجسيمة المتعلقة بأصول إقرار الموازنة بقوله من جهة أولى "انَّ اقرار الموازنة بدون ارفاقه بقطع حساب مسبق لموازنة سابقة يؤدي الى غياب الشفافية في الإنفاق العام وتفشي الفساد" (وهذا صحيح), وبقوله من جهةٍ ثانية "انَّ عدم اقرار موازنة لو بقطع حساب يؤدي الى فوضى مالية" (وهذا تبرير) لتغطية المخالفة الخطيرة الاولى، اذ لا يقتضي التسليم بذريعة تسعى السلطة دوماً الى اختلاقها للتذرع بها توَسُّلاً لغاية في نفسها تستهدف من خلالها قطع الطريق على أية رقابة مالية وشرعنة بالتالي صفقات مشبوهة بإقرار موازنة جديدة دون قطع حساب مسبق، لِما في ذلك من خطورة كبيرة على المال العام ولا سيمّا أنَّ هذا الاجتهاد الخاص والشاذ بالمجلس الدستوري يفتح بالتأكيد الباب دوماً لإقرار موازنات لاحقة دون قطع حساب وبالتالي تدمير أهمية هذا الاجراء كأداة فنية رقابية محاسبية وتطبيع بالتالي للمخالفات المالية بصورة دورية وهو ما يؤدي بنهاية المطاف الى انتاج حسابات مالية دون رقابة قانونية وبالتالي اغلاق الستار على اية رقابة وملاحقة خاصة بمال الموازنة السابقة الذي يتم افساده بصفقات وعمليات لمصالح خاصة, بما يؤول ذلكَ الى حصول هدر في الانفاق العام وتبديد المال العام وعدم انتظام بالنتيجة المالية العامة!
المخالفة التاسعة: انتهاك الدستور الحامي للملكيات الفردية الخاصة
انَّ تضمين مشروع الموازنة بنداً يلزم المصارف بدفع فقط الودائع الجديدة المُحرَّرة بالدولار بهذه العملة مع تجاهل متعمَّد لأي إشارة إلى الودائع القديمة، يعني ضمناً اعفاء البنوك من هذا الموجب بالنسبة لما يسمى بالودائع القديمة, أي انَّ سياسة الحكومة وفق مشروع الموازنة تفضي الى القول بأنَّ الودائع السابقة المُحتجزة أو المُبدَّدة مصرفياً أصبحت في خبر "كان", بانتظار ما سيرشح من تسوية مالية تُحمّل المودعين المتضررين نسبة لا يستهان بها من الخسائر رغم عدم اقترافهم لأي خطأ مرتِّب للمسؤولية; وغنيّ عن البيان أن البند المشار اليه يُعَد بمثابة اقرار تشريعي بعدم الزام المصارف برد الودائع القديمة المودعة بالدولار بالطريقة عينها التي استلمها من المودعين وهو ما يتماهى أصلاً مع خطة المصارف القائمة على ضرب حقوق المودعين الثابتة عقدياً وتشريعياً وهذا ما يخالف الدستور الذي حمى الملكية الخاصة وينتهك القانون الناظم للموجبات وللعقود وقانون النقد والتسليف وقانون التجارة والتي تلزم جميعها المصارف برد الودائع لأصحابها بما يُماثِلها صفةً وصنفاً ونوعاً وبما يعادلها قيمةً.
نخلص الى القول, انَّ مشروع الموازنة تضمّن نصوصاً مفخَّخة ولم ينطوِ على إصلاحات جدية على قدر من الأهمية والغريب عدم تصديه لإشكالية المودعين رغم تضمينه للعديد من فرسان الموازنة ودون أن يأتِ من خلالها لا من قريب ولا من بعيد على وجوب استعادة الأموال المنهوبة والموهوبة والمسلوبة والمستولى عليها والأهم أنّهُ ينطوي سياسية ضرائبية جافة تصيب المواطن والمستهلك وتضرب في العمق أبسط حقوقهم الإنسانية وتحمي بنوده المصارف وكبار المكلّفين والمخالفين, مع ترقيع أوضاع الموظفين بحلول موقتة لا تفي بالغرض;كما تضمَّنَ -وهو الأهم- مواداً ملتبسة ومبهمة حمّالًة لأوجه عدة، بما يسمح بتطبيقها بطرق ملتوية وإجمالاً وفقاً للتفسير الذي يكون الأكثر توافقاً مع الجهات النافذة، وعلى نحو يؤدي غالباً إلى مزيد من التهرّب الضريبي والتمييز بين المواطنين، وذلك في زمن نحن أحوج ما نكون فيه لمكافحة الفساد, حيثُ لا يوجد على ما يبدو نيّة للسلطة في السير قدماً رغم كل ما حصل بهذه الخطوة سوى بالخطابات وأبلغ دليل على ذلك هو تعديل في مشروع الموازنة شروط أعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وفرض شروط تعجيزية في مواصفاتهم كَتَوجُّب توافر فيهم شرط الخبرة 20 سنة وكأنَّه لا يوجد طاقات شبابية متخصصة وذات كفاءة وأكثر قدرة وانتاجية في هذا الشأن.
"انَّ أي حكومة لديها حقاً الرغبة الصادقة في الإصلاح والتقدم يجب أن تفهم فائدة النقد الموضوعي والبناء وتستفيد منه"