نشر بتاريخ: 27/01/2022 ( آخر تحديث: 27/01/2022 الساعة: 17:46 )
نزل الثلج في فلسطين مساء الاربعاء26-1-2022، وتوجه للتضامن مع الاسير المريض المصاب بالسرطان ناصر ابو حميد، في الخيمة المنصوبة امام مخيم الامعري، الثلج فوق الخيمة، الثلج يذوب ويحترق ويتطاير الرذاذ، أنفاس الأسير ناصر جاءت مع هذه الراهبة التي اضاءت بفانوسها أجواء الخيمة، السماء استنزفت عضلاتها وغيومها وعصرت كل دمعها ودمها فوق أرض فلسطين، انظروا إلى الاعلى، ملائكة تقاتل، انبياء يهبطون من التاريخ حاملين السيوف والبشرى وغضب الالهة .
الثلج الابيض فوق خيمة الامعري، الثلج تخطى الحواجز والابراج المسلحة والاسلاك الشائكة، القى السلام على الاف الاسرى المحتجزين في السجون، الثلج فوق سجن مستشفى الرملة الاسرائيلي، الثلج جلب معه الدواء والهواء والعكازات، في الثلج رائحة البابونج والزعتر والزحيف وعسل الجبال، ما هذا الثلج الذي انقذ سكان السجن من الوباء بعد ان عجز سكان الارض من انقاذهم؟ يسأل الأسير المعاق ناهض الأقرع وهو يزحف بحسده المبتور القدمين ليقف ويمشي على أقدام السحاب .
ثلج ألقى معطفه فوق أجساد الاسرى المرضى، خالد الشاويش ومنصور موقدة ومعتصم رداد ورياض العمور واسراء الجعابيص ومحمد براش وموفق عروق وفؤاد الشوبكي والعشرات من الأسرى الذين يعانون امراضا خطيرة، سلام من جبال الجليل ويافا والبحر المتوسط، يقول الثلج وهو يضيء جروحا أطفأها الظلام والغياب.
الثلج فوق خيمة الامعري، يسمع كل الكلام العاطفي والكلام الذي يستنكر ويشجب ويستغيث ويتوسل ويطالب، كلام الغضب والحزن وصوت البكاء المبحوح المتفجر من الأعماق، ناصر أبو حميد يصارع الموت، صوره تملأ ارجاء الخيمة، يبحلق فينا جميعا، والدته الجالسة في صدر الخيمة تتحسر على احوالنا التي صارت منظومة طويلة من السخط والرثاء، هناك لغة أخرى، هناك برد وثلج ورعد، قالت ام يوسف وهي تبحث عن درب للحواس وما يقوله الثلج للأمهات الكاهنات.
الثلج فوق خيمة الامعري، شوادر الخيمة تهتز، اضلاع الام الصابرة تتطاير، ناصر في غيبوبة، والعالم في غيبوبة، ناصر لا يخاف الموت، ناصر يخاف الصمت، هكذا يقول الثلج، اقتلعوا الخيمة من العقل والروح، يكفي لجوء، حركوا الطقس والرياح، عندما تهدموا هذه الخيام فأنكم تهدمون السجون، السجن يتغلغل فينا، يكبلنا، السجن خارج السجن اخطر من داخله، الخيمة تهتز تبحث عن قرار.
الثلج فوق خيمة الامعري، وهناك امهات الاسرى اللواتي يحملن صور اولادهن، أمهات كن هنا في موسم الثلج السابق غادرن الى الحياة الآخرة، أمهات ينظرن الى هذا المسؤول الاممي والى ذلك الرجل الذي جاء من أروقة مؤسسات حقوق الانسان، والى آخرين دبلوماسيين وقادة ونشطاء ووزراء، كلهم بشجبون ويلعنون الجرائم الطبية التي تقتل الاسرى سنة وراء سنة وكلهم يطالبون بمحاكمة هذه الدولة التي صارت دولة مافيا في المنطقة، وكلهم يعتبر ان هذا المحتل يتصرف كأنه فوق القانون ينتهك كل الشرائع الإنسانية والدولية، لكن ناصر لازال في غيبوبة، الثلج يبكي بغزارة ، الثلج يرتعش ويلطم ويلطخ كل الوجوه الجالسة.
الثلج فوق خيمة الامعري، الثلج البارد يسخن المرحلة الباردة، يفجر الأسئلة، متى ينتهي المؤبد بحق ولدي؟ تسأل تلك الام البائسة، متى ينكسر القيد ويصحو ناصر من الغيبوبة؟ متى يعود الشهيد من تلك المقابر البعيدة؟ الخبير القانوني اربكته الأسئلة التي لم يجدها في أي نص، تحرك الثلج فتحركت الانابيب الطبية فوق جسد ناصر، افاق من النوم، حمامة بيضاء تحلق فوق رأسه، حمامة تشبه مسدسه وكوفيته، التفت ليرى امه وأشقائه الأربعة.
الثلج فوق خيمة الأمعري، هذه الخيمة صارت برلمانا للأرض وللسماء، للناس المقهورين والمعذبين، تحاول الخيمة ان تواسي القلوب المكلومة، ان تجعل من الانتظار بديلا للتقدم وللحركة، انه السكون المغلف بالحشرجات والوجع والشهقات المتسارعة، من يكسر الدائرة؟ وينقلب على الحالة الوسطية التي تمنعنا من العودة الى الوراء او السير الى الامام، قف لم يأتي احد، حدودك الخيمة، الوطن هو خيمة بلا هوية، عليك ان تتنفس هنا فقط تحت أجهزة السيطرة ونظام العزل والمراقبة، الأرض صارت ضيقة، كونوا اذا كالثلج هبوبا ورياحا ومدى وعاصفة.
الثلج فوق خيمة الامعري، لازالت هذه الخيمة بصمة في الذاكرة الفلسطينية، لجأنا الى الخيمة في نكبة 1948 ثم في نكسة 1967، ولا زلنا نلجأ اليها كأن في الخيمة دفئا وحماية، البشر جردوا من حقوقهم وامكنتهم، لم يعودوا بشرا، البشر هنا يجتمعون فوق حطب الذكريات، هي خيمة الامعري، خيمة ناصر أبو حميد التي نصبت اكثر من مرة، البيت هدموه في عصر الحرب وعصر العولمة، البيت يروي كل الحكاية، حكاية شعب لم ترحمه ويلات الحرب ولم تتطلع عليه عيون السلام.
الثلج فوق خيمة الامعري الخيمة تتنقل في كل ارجاء الأرض المحتلة، هدم المنازل والمنشآت يتصاعد على يد المحتلين وتوحش في السنوات الأخيرة، هناك خيام في القدس كثيرة، خيام في جنين ويطا والخليل ونابلس واريحا، خيام في الشيخ جراح وبطن الهواء وجبل صبيح، خيمة للشهيد شيخ الأرض سليمان الهذالين، خيمة للأسرى المضربين عن الطعام، خيمة للمبعدين والمشردين على الحدود، خيمة في قاع البحر للاجئين الغرقى، صارت فلسطين خيمة متنقلة، فلسطين تسحب من تحت اقدامنا، يقول الثلج وهو يلوح ببياض الحقيقة.
الثلج فوق خيمة الامعري، الثلج يقرأ التقرير: ناصر أبو حميد يقاوم الموت، الموت بالأمراض، الموت السياسي، الموت في النسيان، ولولا مقاومة الموت لما بقي منا احد، لما ولدت النساء في لهيب الموت المتراكض في الأراضي المحتلة، هناك قوة روحية ترهب السجان وتوقعات الطبيب، يتحرك ناصر يرفض ان يموت في صمت الجدار، افتحوا باب الخيمة، فإما الصعود واما الصعود
الثلج فوق خيمة الامعري، وهناك تقف المرأة المقدسية نفيسة خويص تغني:
اتيت على التابوت
ناصر يحيا ولا يموت
حرية حرية
لناصر الحرية
ولأسرانا الحرية.
ففي هذا الثلج صوت القدس، الحاسة العاشرة، كأننا نحتاج الثلج لنرى احلامنا الغامضة، كأننا نحتاج الثلج لنقرأ الحياة في وجوه الشهداء الواضحة، كأننا نحتاج الثلج من اجل النار والماء والمغفرة، كأننا نحتاج الثلج لنرسم رؤيتنا القادمة، وفي الثلج رسائل وعناوين لارواحنا، تراتيل فوق الجروح وفي الخيمة يجتمع البرد والبحر والراية والخيول الجامحة.