|
جغرافية فلسطين في الجامعات والمعاهد الفلسطينية بين الواقع والمأمول
نشر بتاريخ: 30/01/2022 ( آخر تحديث: 30/01/2022 الساعة: 10:46 )
منذ سبعينيات القرن الماضي أدرك الجغرافيون الفلسطينيون السياسات الصهيونية الممنهجة اتجاه الجغرافيا الفلسطينية وما تنفذه سلطات الاحتلال الاسرائيلي منذ عام 1967 من اجراءات وممارسات وعمليات استيلاء وتفريغ وتشييد مستعمرات صهيونية على الأراضي الفلسطينية ومصادرة لكافة الموارد الطبيعية واطلاق تسميات عبرية على المواقع الجغرافية الفلسطينية؛ لخلق رواية صهيونية جديدة، بهدف طمس وإمحاء الرواية الفلسطينية الأصيلة، بل وخلق واقع جغرافي جديد ليس له صلة بالجغرافية الفلسطينية. ان هذا الادراك المبكر لهذه السياسات الصهيونية الممنهجة دفع الجغرافيون الفلسطينيون الى تأسيس أقسام الجغرافيا في الجامعات الفلسطينية، حيث بادر الدكتور كمال عبد الفتاح بتأسيس أول دائرة لتدريس الجغرافيا في جامعة بيرزيت ومن ثم بدأت الجامعات الفلسطينية الأخرى في الضفة العربية وقطاع غزة تحذوا خطوات جامعة بيرزيت بانشاء أقسام للجغرافيا والتي أخذت تستقطب أعدادا كبيرة من الطلبة الفلسطينيين، وقد قامت هذه الدوائر والأقسام بتخريج أفواج عديدة من الجغرافيين الفلسطينيين بعضهم أخذ فرصته للعمل في المؤسسات الفلسطينية، والبعض الآخر حصلوا على عقود عمل في بعض الدول العربية، الا أنه في العقدين الأخيرين ومنذ حرب الخليج أخذت فرص العمل بالتراجع في الدول العربية، وفي نفس الوقت أصبح هناك اشباع كبير في سوق العمل وتحديداً في المؤسسات التعليمية في الضفة الغربية وقطاع غزة. الأمر الذي حدا بعدد كبير من الخريجين للانخراط في سوق العمل الإسرائيلي سواء في الورش أو أعمال البناء. انعكس هذا التراجع في سوق العمل على ضعف اقبال الطلبة على أقسام ودوائر الجغرافية في الجامعات الفلسطينية، حتى أنه في بعض الجامعات الفلسطينية باتت أعداد المدرسين في أقسام الجغرافيا تفوق أعداد الطلبة. وهذا التراجع في أعداد الدارسين للعلوم الجغرافية يعني التراجع أيضاً في أعداد الدارسين لمساق جغرافية فلسطين الذي أصلاً لم يدرس في الجامعات الفلسطينية كمادة اجبارية وانما كمتطلب اختياري غير موحد منهجاً وموضوعاً، وهذا بالتالي ينعكس على ضعف الرواية الفلسطينية ويجعلها مشوهة أمام الرواية التي يصنعها الاحتلال وجغرافييه الاسرائيليين يومياً والذين أسهموا بشكلٍ كبير في تحديد مسار جدار الفصل العنصري وعينوا مواقع المستعمرات اليهودية واطلاق الأسماء الجغرافية عليها في الضفة الغربية، وهم أنفسهم الذين قسموا الضفة الغربية في اتفاقيات أوسلو الى مناطق A , B, C ، وهم أنفسهم أيضاً - وفي غفلة عن المفاوض الفلسطيني - قد رسموا حدود منطقة C والتي تشكل ثلثي أراضي الضفة الغربية بحيث أنها تشتمل على أقل عدد من السكان لا يتجاوز 14% من الفلسطينيين بل وراعت في تحديدها للمنطقة C، أنها تضم جميع مصادر المياه الجوفية والأحواض المائية الثلاث في الضفة الغربية، وكذلك فان الجغرافيين الاسرائيليين قد رسموا حدود مناطق اصطياد مياه الأمطار من على قمم الجبال في الضفة الغربية من شمالها الى جنوبها. ولا ننسى أن لجنة الأسماء الجغرافية الاسرائيليية التي تطلق الأسماء العبرية على المستعمرات والوديان والجبال والأحواض قد تشكلت منذ بداية تأسيسها مع مطلع القرن الماضي وقبل قيام دولة الكيان من الجغرافيين الاسرائليين. يعلم القاصي والداني أن الجغرافيا هي محور الصراع العربي الفلسطيني والاسرائيلي، وأن ( اسرائيل ) وومنذ نشأتها عام 1948 وحتى اليوم وهي تبذل قصارى جهدها على تغيير الجغرافيا الفلسطينية من أجل تهويدها سواء من خلال القوانين العسكرية العنصرية أو من خلال فرض سياسة الأمر الواقع بالمصادرة للموارد الطبيعية وبناء المستعمرات وتجفيف البحيرات كالحولة والبحر الميت أو من خلال عمليات الطمس والإمحاء الممنهجة والتأصيل لمن ليس له أصل في المكان المتمثلة بالتسميات الجغرافية العبرية بدل العربية الكنعانية على الشوارع والمستعمرات اليهودية والأودية والأحواض والينابيع والتلال والجبال. ركزت الحركة الصهيونية وقبل قيام دولة " اسرائيل " بعقود طويلة، وبشكل هادف ومخطط وممنهج ومقصود على العناصر الرئيسية التي تضمن نجاح مشروعها الاستعماري في فلسطين، وهذه العناصر هي الهوية والأرض والمياه والسكان، وبداية استهلت عملياتها الاستيطانية الاستعمارية بانشاء المستعمرات الزراعية إبان الحكم العثماني على فلسطين، وكانت الحركة الصهيونية ترمي من وراء ذلك الى ربط المهاجر اليهودي بالأرض وتحويله من خياط في لوبلين في بولندا الى فلاح يزرع الأرض في فلسطين، وكان بن غوريون مؤسس الكيان الصهيوني وفي أكثر من مناسبة يُذَكِرُ ان فلاحي روما هم الذين هزموا هنيبعل. الاستيلاء على الارض - عنصر القوة الاساس – استدعى السيطرة وتغيير الهوية. منذ عشرينيات القرن الماضي وأيضاً قبل قيام الكيان الصهيوني وتزامنا مع التسهيلات التي قدمتها بريطانيا للحركة الصهيونية في السيطرة على الأرض أنشأت الحركة الصهيونية لجنةً للأسماء الجغرافية اتبعت مفتاح تسمية استعماري بامتياز لا يدانيه إلاّ ما يمكن وصفه بمتلازمة كولومبس، فقد كان مخيال التسمية لدى كولومبوس مكوناً من ثلاثِة مجالات: المجال الإلهي الذي يصف من خلاله الاستعمار بالقداسة؛ المجال الطبيعي الوسيط الذي يبعث على البهجة المستعارة بامتلاك الفضاء المستباح؛ والمجال البشري الذي يؤمِّن الثروة ويحرسها لمواصلة الغزو، وكان كولومبوس يعلم أن للمشهد الجديد عليه أسماؤه القديمة التي لا ترضيه، فكانت سان سلفادور تسمى عند الهنود جواناهاني وكان يدرك أيضاً أن إطلاق التسمية الجديدة يعني استحداث صك ملكية للإمبراطورية الغازية[1] ، ومن هنا كان الهدف الإستراتيجي للحركة الصهيونية تهديم مقومات المشهد العربي الإسلاميبكافة مضامينه التاريخية والحضارية والتراثية والدينية، واستبداله بمشهد صهيوني كامل، مغلف بنصوص توراتية ومقولات سياسية مزيفة، ينتهي إلىاستكمال اختلاق رواية وهوية وحضارة صهيونية مزيفة، على أنقاض هوية الشعب الفلسطيني وحضارته، أي التشويه المتعمد من قبل المحتلين لمضامين التسميات الجغرافية والامحاء المتعمد والمستمر في التهويد والتحريف والتزوبر. اقر مجلس الوزراء الفلسطيني في جلسته يوم الاثنين 13-9-2021 وتحمل رقم 124 تدريس مساق قضايا فلسطينية والثقافة الفلسطينية كمساقين اجباريين لجميع طلبة الجامعات الفلسطينية ردا على محاولات الاحتلال الإسرائيلي طمس حقوق الشعب الفلسطيني وتدمير الكثير من المعالم الفلسطينية. ان تدريس مساق جغرافية فلسطين كمساق اجباري في الجامعات الفلسطينية هو الرد الطبيعي لتهميش وإلغاء المكان الفلسطيني ممثلا بجغرافيته كجزء من الخطة الاستراتيجية التي وضعتها القيادة الفلسطينية خاصةً ان الجرعة المعرفية لطلبة الجامعات الفلسطينية عن جغرافية فلسطين والقضية الفلسطينية لا ترقى للحد المطلوب. ولهذا ومن أجل تسليح الطالب الفلسطيني بالمعرفة المطلوبة عن وطنه بحيث يكون جاهزا للدفاع عنها في كافة المناحي لا بد من: تشكيل لجنة علمية من جمعية الجغرافيين الفلسطينيين التي تضم كافة الجغرافيين في الجامعات الفلسطينية على وضع مادة علمية في جغرافية فلسطين موحدة منهجاً وموضوعاً لتدرس كمادة اجبارية في كافة الجامعات الفلسطينية ولكافة التخصصات النهوض بكليات الآداب في الجامعات الفلسطينية والتي تعاني من الترهل ومن ضعف اقبال الطلبة عليها في السنوات الأخيرة في كافة التخصصات ومنحها دور خدماتي الى جانب دورها الأكاديمي، بحيث تقدم خدماتها الأكاديمية الى كافة الكليات في تدريس المتطلبات الثقافية الاجبارية للطلبة التركيز على أخلاقيات العمل الأكاديمي من خلال ورش عمل تتناول الموضوع من كافة جوانبه لضمان جودة التعليم، ومن أجل أن لا يظن بعض الأكاديميين أن انجازاتهم ومكانتهم في الجامعة تكون من خلال الاقلال من شأن زملائهم وعلى حسابهم، بل من خلال تميزهم العلمي.
[1] عبد الرحيم الشيخ متلازمة كولومبوس وتنقيب فلسطين: جينيالوجيا سياسات التسمية الإسرائيلية للمشهد الفلسطيني |