|
الناس في مهب الفضاء الالكتروني
نشر بتاريخ: 07/02/2022 ( آخر تحديث: 07/02/2022 الساعة: 10:01 )
د. موفق الخطيب رحم الله الطفل ريان الذي حبس أنفاس الملايين خمسة أيام في شتى أرجاء المعمورة، والتي لم تكن لتُحبس لولا الفضاء الالكتروني، الذي حمل نفوس الناس كما بندول الساعة؛ يؤرجحها بين الأمل واليأس، والحياة والموت، والاعتزاز بقدرات المغرب والانتقال خلال لحظات إلى تأنيبها بعد وفاة الطفل. لقد هبط آدم إلى الأرض، وحدثت عبر التاريخ آلاف المعارك، وطوى أهل الكهف أكثر من ثلاثمئة عام في كهفهم، ووُلد المسيح عليه السلام، وبُعث الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وقُتل آلاف الأطفال في فلسطين وفي أنحاء كثيرة من العالم، بالإضافة إلى كل ما يمكن أن يخطر ببالنا من أحداث. إلا أن ذلك كله لم يحظَ بما حظيت به حادثة الطفل ريان. منذ عقود، لم يكن الكثيرون من كبار السن الذين لا زالوا أحياء يعرفون الهاتف الأرضي أو التلفاز أو حتى الكهرباء. لم يكونوا يعلمون سوى بعض ما يحدث في مخيمهم أو قريتهم أو مدينتهم، ويلتقطون بعض الأخبار عبر المذياع، يفيقون فجراً إلى أعمالهم، ويبيتون مبكراً أو يتسامرون. تطور عظيم في نقل المعلومة؛ ذاك الذي أدت إليه الثورة التكنولوجية المتضاعفة عبر العقود الأخيرة، حتى أنك بتت تعرف الحالة الانفعالية لشخص يعيش في أقصى بقاع الأرض، أو ترى نملة تمشي في إحدى الغابات الاستوائية، أو تعرف ما يجري بين روسيا وأوكرانيا، أو عدد المصابين والمتوفين بفيروس كورونا، أو عدد سكان المعمورة لحظة بلحظة! نحن لم نُخلق لنعيش في قرية عالمية يرصدُ فضاؤها أدق التفاصيل عن الناس وسلوكهم. فهذا المقدار من المعلومات يتجاوز حدود القدرة البشرية على الاستيعاب والتفاعل، الأمر الذي يُحمِّلُ الذات الإنسانية طاقات فوق قدرتها؛ ذهنياً وانفعالياً وجسدياً، حتى بات الفرد بؤرة عجيبة تستهدفها كل المتوافقات والمتضادات. صحيح أن الفضاء الالكتروني بات أوكسجين المعرفة والعمل والتواصل، إلا أنه أصبح في الوقت ذاته أحد أهم أسباب العلل الذهنية والنفسية والجسدية، فالذات المحدودة لا يمكنها تحمل المدخلات اللامحدودة. إن أول مهمة يقوم بها معظم الناس، صباحاً، هي تفقُّد هواتفهم النقالة، لتضجّ عقولهم بآخر المعلومات خلال لحظات، والتي تنعكس بلا شك على شخصية كل منهم. ثم ينطلقون في يومهم وأعمالهم يتبادلون ويناقشون ما علموا به، ويلاحقهم ذاك الهاتف النقال في كل لحظة ليثير انتباههم بإشعارات ورسائل فيما يخصهم وما لا يخصهم، مُحدثاً المزيد من التأثير في ذواتهم بكل أبعادها، بما في ذلك أدائهم في أعمالهم وواجباتهم. وفي طريق العودة إلى منازلهم، تأخذهم أيضاً هواتفهم للتفاعل مع عديد المثيرات الرقمية والتي قد تؤدي أحياناً إلى حدوث ما لا تُحمدُ عقباه، كما هي الحال في حوادث المرور وسواها. وما أن يصل الآباء والأمهات والأبناء إلى بيوتهم حتى يلتقوا على حال غير تلك التي افترقوا عليها صباحاً؛ فقد عاد كلٌ منهم مفعماً بمدخلات مستجدة أحدثت أثراً في شخصيته. قد تلتقي الأسرة على مائدة الطعام وقد لا تلتقي، وإن التقت فإن الهاتف النقال بات واحداً من أركان المائدة اليومية. وقد يتداولوا بعض ما تلقوا من معلومات، ليعيش كل منهم بعدها في عالمه الذاتي من جديد مع ما يرده أو يبحث عنه من معلومات بسبابته التي لا تتوقف عن تصفح صفحات التواصل الاجتماعي إلى حد التشنج العضلي في كفِّه وجسده، يرافقه الأرق والإعياء والتوتر والخمول والفرح والحزن والهم والارتياح، وكل المتناقضات! ليحملها معه إلى فراشه مثقلاً بكل أنماط الأرق. أما أبناؤنا وبناتنا وما يتعرضون له، فحدث ولا حرج؛ إذ تقفز إلى أعينهم ومسامعهم كل المشاهد والكلمات، مشكِّلةً ذواتهم كيفما شاءت، شئنا أم أبينا نحن الآباء والأمهات. هؤلاء هم الجيل القادم الذي شكله الفضاء الالكتروني دون إرادتنا أو دورنا في تربيتهم وتعليمهم، إذ باتت وسائل التواصل الاجتماعي هي الطاقم التربوي والتعليمي الأقرب إلى إبنائنا! إن العولمة ليست كلها خير وليست كلها شر. وإن علينا أن نتمتع بعقلية انفتاحية على منجزات الفكر والعلم والتكنولوجيا؛ فنقرؤها قراءة ناقدة ونتفاعل معها لتطويعها بما يتناسب مع قواعد وضوابط فكرنا، فلا نرفضها بداعي الخوف والعداء للأجنبي، ولا نذوب فيها بتأثير عقدة النقص تجاه الآخرين. إنه واقع لا يجدي معه الرفض ولا يمكن إنكاره. وعلينا أن نتدبر إدارة خارطة القدرات الفكرية لدينا من أجل صلاح الفرد والمجتمع. |