|
بلا عنوان!
نشر بتاريخ: 16/02/2022 ( آخر تحديث: 16/02/2022 الساعة: 10:20 )
ها قد جاء اليوم الذي بتنا نتجنب فيه عنونة منشوراتنا الرقمية ومقالاتنا وحتى خواطرنا بعناوينها المباشرة والصريحة، ليس خوفاً من مدارس الرقابة التقليدية التي عشناها في طفولتنا، ولا من أجهزة التعقب التي تابعت آنذاك تفاصيل الحروف والمكالمات واللقاءات والنشاطات والمراسلات بصورة باتت من الماضي، بل تجنباً لظاهرة تتصاعد وقيود تتزايد. فعهد الحريات الموعودة والصحافة الإلكترونية المتحررة وحواجز الرقابة المندثرة بات مهدداً اليوم، في عصر سبق لي شخصياً وكل من استبشر بشبكات الإعلام الاجتماعي، أن أهّل ورحب به فرحاً بولادته وانطلاقه وسواده. فتماماً كما غيري من ملايين البشر، كتبنا للتعبير عن فرحنا بثورة المعلوماتية وشجعنا الجميع على الكتابة والتواصل، واستبشرنا مجتمعين بسرعة النشر دونما حواجب ولا موانع لمساحة الانتشار، ودونما ضوابط لما قد ينشر من آراء ومواقف حرة، واحتفينا بانعدام مقصات الرقباء، مع تحذيرنا الدائم من الوجه الآخر لهذا الأمر خاصة فيما يتعلق بتجارة الجنس والجريمة والإسقاط الأمني وغيرها من تحديات العالم الرقمي. أسعدنا التطبيب والتعلم عن بعد، والتجارة والحكومة الإلكترونية، وهللنا فرحاً بالجيل الأول وحتى الخامس من الاتصالات، مررونا بكامل الخدمات الإلكترونية التي عرفناها. وقد شكل ازدهار عالمي الاتصالات والمعلوماتية فرصة للنمو المتسارع للشركات، وزيادة قيمها السوقية، وتطور تطبيقات الهواتف المحمولة، واتساع فرص التشغيل والريادة والتطور. وعشنا مع كل لحظة أطلقت فيها خدمة هنا وتقنية هناك، أوقاتاً سعيدة من الفرح. ولعل تعزيز فرص التطور البشري الهائل ونمو اقتصاد المعرفة، قد شكلا مجتمعين فرحة لا توصف بعد فرحة البشرية بالكهرباء والتلفاز والهاتف الثابت والفاكس والهاتف المحمول وما بينها من تقنيات مختلفة. ومع هذه النشوة، شعرنا جميعاً بأن قطار التكنولوجيا قد غادر المحطة حتماً، وأننا قد وصلنا نقطة اللاعودة، وأن سباق الشعوب سينتقل من عوالم التسلح والقتل والحروب والاحتلالات، إلى عوالم التقدم والانفتاح وتبادل العلم وتمازج الحضارات والثقافات والبحوث النوعية والعمل المشترك، وسيتحول العالم أيضاً من الانغلاق إلى الانفتاح، ومن التفرد إلى العمل الجماعي، وصولاً إلى ولادة الجهد الجماعي والنتاجات الفكرية المشتركة، وولادة العملة الرقمية وتوسع دوائر الخدمات الإلكترونية النوعية وصولاً إلى تعدد منصات الإعلام الاجتماعي وتنافسها، حتى اتهم البعض منها بدوره في قلب أنظمة الحكم وتأثيره الذي وصل إلى عتبات منازلنا العربية مع ما سمي بالربيع العربي. لكنني اليوم ومع اتساع مساحات التضييق الرقمي الذي باتت تنتهجه منصات محددة عبر الإزالة المباشرة لبعض منشورات الرأي والفكر الحر، وحجب المستخدمين لأيام وأشهر، أو إغلاق حسابات شخصية أو رسمية، أو الحد من وصول أكبر عدد من رواد تلك المنصات إلى بعض المنشورات أو الصفحات المقيدة، لأشعر بحجم الغبن الذي تعيشه البشرية قاطبة وحجم الرضوخ للوبيات الضغط السياسي أو المالي أو الأمني. هذه المنصات التي لطالما تغنت بحرية الرأي ذات يوم إلى أن انتقلت إلى القمع الرقمي اليوم، إنما أصبحت عنواناً واضحاً للتضييق والتقيد والحجب والقرصنة. فلو أن منشوراً ما يخص حساباً خاضعاً للتقييد قد حمل مفردات مفتاحية مثل: ثورة، انتفاضة، القدس، شهيد، أسير، مقاومة… إلخ فإنه حتماً سيخضع للمزيد من التقييد غير المعلن عبر الحد من وصول الأصدقاء إليه، أو الحجب الكامل أو تعطيل أو حتى إغلاق للحساب لفترة معينة أو دائمة. ولعل هذا الحال يبرر سبب كتابة هذا المقال بلا عنوان، لأن أيا من العناوين التي تتقاطع ومحتوى هذا المقال لن تمر أبداً بل ربما سيخضع المقال برمته لسياسة الحجب أو التعطيل أو الإزالة الكاملة. لذلك أقولها اليوم وبكل ألم بأن الرهان على الحرية الموعودة لشبكات الإعلام الاجتماعي، لم يكن في محله، بل ربما أصبح صادماً للبعض إلى حد الجنون. لكن الناس لم ولن تنطلي عليها محاولات القص والحجب والتقليم والحد من حرية الرأي، فقد قرر البعض الواسع منها صد هذا الهجوم اللاأخلاقي بالعزوف عن تلك المنصات مما دفع إحداها هذا الأسبوع إلى تسجيل تراجع حاد في مدخولاتها وتناقص ملموس لأعداد المنتسبين إليها وهو ما قد تسبب في خسارة مالية فادحة لثروة مالكها المؤسس. وبهذا سنكون حتماً مع جيل جديد من البشر الذين سيعرفون كيف يردون الصاع صاعين على كل من تسلح بمقص الرقيب تماماً كما ثار أسلافهم على من امتلك مقصاً مشابهاً إبان استخدام وسائل التقانة التقليدية يوماً ما!
|