وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

من أجل حملة وطنية شاملة لتعزيز الصمود والمناعة الوطنية

نشر بتاريخ: 22/02/2022 ( آخر تحديث: 22/02/2022 الساعة: 16:37 )
من أجل حملة وطنية شاملة لتعزيز الصمود والمناعة الوطنية

تسعى هذه المقالة التأسيس للدعوة لقيام حملة وطنية شاملة لتعزيز الصمود المقاوم والمناعة الوطنية، مستخدمة مقاربة علمية معرفية، سريعة ومركزة، لمفهوم المرونة (Resilience) وتجلياته الملموسة في السياق الفلسطيني كصمود مقاوم يستند إلى مناعة وطنية مكتسبة، عبر الكفاح ورفع مستوى الوعي والتنظيم الذاتي، وكذلك فحص أبعاد ومقاييس هذه المرونة والصمود ومحاولة التنبيه لمؤشراتها الملموسة في الواقع الفلسطيني الذي يواجه تحديات وتهديدات وجودية. وهي مقالة تلخص دراسة واسعة للباحث حول الموضوع، خلصت إلى ان مفهوم Resilience يستخدم اليوم بشكل واسع من قبل مختلف العلوم واستراتيجيات وسياسات التنمية والأمن القومي والأمن الإنساني، ويستخدمها الخطاب النيوليبرالي بكثرة اليوم، محاولا اسقاطها على الواقع الفلسطيني، وذلك في محاولة لضبط سلوك المجتمع المدني الفلسطيني وتأطير نشاط الحركة الشعبية في بوتقة مفاهيم وأجندة مؤسسات الحاكمية العالمية، مما يصب في تكريس الحالة الاستعمارية الاستيطانية والاندماج في بنيتها. لكن المتتبع للتاريخ الفلسطيني يلمس بشكل جلي، انه قد جرى مقاربة المفهوم فلسطينيا بمصطلح الصمود، الذي انطوى تاريخيا على أعمال متنوعة لمواجهة سياسات وممارسات الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وجرى التمييز في إطاره بين الصمود الساكن المحدود بالبقاء في الأرض والتمسك بها، وبين الصمود المقاوم، الذي يمثلآيديولوجيةأكثر ديناميكية، تهدف إلى انتهاج أشكال وأساليب كفاحية لمقاومة الاحتلال وسياساته والبحث عن طرق لبناء مؤسسات بديلة لمقاومة وتقويضالاحتلال.

إن تعزيز صمود الشعب الفلسطيني على أرضه وتعزيز مناعته الوطنية، أمر على غاية كبيرة من الأهمية اليوم، حيث أن الشعب الفلسطيني يواجهه تحديات وتهديدات وجودية، ناتجة عن السياسات الاستعمارية الاستيطانية، التطهيرية العرقية، والتهويدية والتمييزية العنصرية، المستعرة في السنوات الأخيرة، في كل أرض فلسطين التاريخية، والتي تجسد فعليا الأهداف التاريخية للحركة الصهيونية. وقد جرت في السنوات القليلة الماضية محاولة لتكريس وتحقيق هذه الأهداف وترسيمها عبر سلسلة قوانين عنصرية توجت بقانون أساس القومية اليهودية الصادر عن الكنيست الاسرائيلي عام 2018، الذي أكد السرديّة الصهيونية بأن فلسطين هي وطن تاريخي لليهود، وان أرض فلسطين هي حصرا للشعب اليهودي وحقه وحده في تقرير المصير عليها في دولته إسرائيل، معتبرا الاستيطان قيمة قومية عليا وحقا لليهود في كل أرض فلسطين التاريخية، وقد استندت لهذا القانون وجسدته ما سميت ب"صفقة القرن"، مطلع عام 2020، وما تضمنته من تطبيع مع النظام الرسمي العربي، ومخطط الضم المعلن من قبل حكومة نتنياهو-غانتس، آذار/نيسان 2020، والذي وضعت خرائطه بشراكة أمريكية إسرائيلية، ولاحقا تطبيق المخطط على الأرض بشكل متسارع ومعلن من قبل حكومة نفتالي بينيت (رئيس مجلس المستوطنات سابقا) منذ ترؤسه الحكومة في 13 حزيران/يونيو 2021، ورفضه لاستئناف المسار السياسي مع الفلسطينيين والرفض المطلق لقيام دولة فلسطينية، وحصر الحل بتحسين مستوى المعيشة والسلام الاقتصادي وما يسمى ب"تقليص الصراع". وقد مثلت السياسات والممارسات الاسرائيلية المشار اليها محاولة لحسم صناعة الوجود الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وإعلان انتصاره النهائي، بتحقيق حلم الصهيونية التاريخي بالاستيلاء والسيطرة على كل فلسطين التاريخية، وإقامة "إسرائيل الكبرى" عبر مد نفوذ الدولة الاستعمارية المصطنعة وهيمنتها على كل المنطقة والاعتراف بها وتشريع وجودها كدولة يهودية الطابع وعاصمتها القدس بقبول فلسطيني وعربي (جراد، 2020). وترافق ويترافق ذلك كله مع محاولات لاحكام السيطرة على الشعب الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة، وصولا لاستدخال روح الهزيمة واليأس وفقدان الأمل لدى الفلسطينيين والعرب، ودفعهم للاستكانة والاستسلام أمام المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، وتمكين الكيان الاستعماري من استيعاب الحالة التحررية الفلسطينية على غرار ما حققته بعض أشكال الاستعمار الاستيطاني في التاريخ، التي استطاعت أن تقوض النزعة القومية التحررية الجمعية للشعوب الأصلانية وتحرف نضالاتها باتجاه الاندماج في اطار وشروط البنية الاستعمارية الاستطيانية بشكل فردي ومدني، وبالتالي حصرها في اطار ما يعرف بالانعتاق التحرري الانساني وما يستدعيه من مرونة وتكيف Resilience يؤمن البقاء والاندماج بعيدا عن تفكيك البنية الاستعمارية الاستيطانية وتحقيق التحرر الوطني والقومي.

فكيف يمكن وقف هذا المسار، والعمل لاحباط المخططات الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية، والابقاء على جذوة الأمل الفلسطينية متقدة في تحقيق حلم التحرر الوطني والانعتاق الإنساني معا؟

في الاجابة على هذا السؤال وما يرتبط به، تفحص الدراسة التجربة التاريخية العالمية للشعوب ارتباطا بالقدرة على مواجهة الضغوط والشدائد والمحن والصدمات والأزمات والكوارث والحروب، وتحمل ثقلها والتماسك في مواجهتها، والاستجابة لتحدياتها، والتكيف مع مجرياتها وتبعياتها وإحداث التغيير اللازم لمواكبة الأوضاع الجديدة، حيث تبلورت على هذا الصعيد مفاهيم عديدة للتعبير عن هذه الحالة، ومنها المرونة والليونة، والتماسك والمتانة والصلابة، والقدرة على التحمل، والقدرة على التكيف، والمقاومة والممانعة والصمود وغيرها من المفاهيم والمصطلحات.

وإذ حاول العلماء والمفكرون والباحثون إيجاد مفهوم ملائم للتعبير عن هذه العملية ومواءمته مع الحقول المعرفية المختلفة، إلا ان مفهوم Resilience (المرونة) فرض نفسه كمفهوم ذو دلالة واسعة، وطال كل الحقول المعرفية، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل حقل معرفي. وعلى صعيد الدولة والمجتمع بشكل محدد، وهو ما يهمنا توضيحه في هذه المقالة، عرفت Resilience باعتبارها "قدرة مجموعات من الأشخاص المرتبطة معًا في منظمة أو طبقة أو مجموعة عرقية أو مجتمع أو الأمة للحفاظ على رفاهيتها والنهوض بها في مواجهة التحديات" ( Bourbeau, 2015). وجرى ويجري الربط على هذا الصعيد بين البقاء والاستقرار واستدامة النظام وبين منعة وقوة تماسك الدولة والمجتمع، والتي تمكنهما من التعامل بجدارة مع التحديات والتهديدات الداخلية والخارجية وتجعل جميع مكونات الدولة والجماعة تتحرك بتناغم وفعالية تماما كما تتحرك قوة المناعة الذاتية للجسد.

وقد دخل مفهوم Resilience في العقدين الأخيرين بشكل واسع في العلوم السياسية والعلاقات الدولية ومسائل الأمن والصراع والسلام، ووجد انعكاسا له في استراتيجيات التنمية واستراتيجيات وسياسات الأمن القومي والأمن الإنساني، وارتبط ذلك مع الصراعات طويلة الأمد وظهور بؤر صراع جديدة، ومع الازمات الاقتصادية والمالية والسياسية التي عصفت بالكثير من الدول وأثرت على استقرارها، ومن التأثيرات السلبية للتحولات التي أوجدتها النيوليبرالية والعولمة، وانتشار أمراض وأوبئة جديدة، وتأثيرات سلبية للتصنيع والعمارة على البيئة، وبروز تحديات وتهديدات أمنية جديدة ناشئة عن التحولات الدولية. وبهذا تم ربط المفهوم بمناهج ومقاربات الإصلاح وإعادة الهيكلة والحوكمة، والتمكين، وإدارة الأزمات والكوارث، ومكافحة الأوبئة وتعزيز المناعة، ومواجهة التلوث البيئي، ومكافحة الاستبداد والإرهاب والتطرف العنيف، وإدارة وحل النزاعات. ووجد هذا المفهوم استخداما له في وثائق دولية للأمم المتحدة وخطط وبرامج واستراتيجيات دول عديدة متقدمة في العالم. وقد تم تطوير ما يمكن تسميته بهندسة المناعة الوطنية والسياسية لتكون بمثابة الحاسة السادسة للبيئة الداخلية التي تمكن الدولة والمجتمع من تعبئة واستثمار طاقاتها وامكانياتها بفعالية وكفاءة (طيفور، 2021).

وفي التجربة العالمية جرى البحث عن أبعاد ومقاييس ومؤشرات المرونة والصمود على الصعيدين المجتمعي والوطني، انطلاقا من أنها ظاهرة اجتماعية تاريخية وديناميكية، تمثل عملية متنوعة، لا تحدث في فراغ، بل في اطار بيئة محددة وسياق معين يخضع للتغيير والتحول، وبالتالي هي على صلة وثيقة وارتباط بالتجربة التاريخية والذاكرة الجماعية والتاريخ الاجتماعي، وبالتالي الربط بين ادراك تعقيدات العالم الاجتماعي المعاصر والادوات المطورة لفهمه، الأمر الذي يسمح بوجود تصور متعدد المقاييس للقدرة على الصمود، حيث ان الخير لا يعبر عن نفسه بطريقة ثابتة أو مستقرة وخالية من التباين، وبالتالي لا توجد مرونة أو صمود أو مناعة كاملة، بل نسبية تعتمد على مجموعة من العوامل والظروف التي قد تمكن أو لا تمكن النظام من الاحتفاظ بجوهره والتكيف مع الظرف الجديد (Aall and Crocker, 2017).

وفي البحث عن العوامل والظروف التي تجسد مدى المرونة والصمود والمناعة، يمكن من خلال العديد من الدراسات، تلمس أهمية الوقوف على بناء قدرات ورفع مستوى وعي الأفراد وامتلاكهم الصفات التكيفية التي تمكنهم من التواؤم مع الظروف الجديدة مع التمسك بالهوية وتوفير إرادة التعاون الإرادة السياسية، والتماسك، والثقة، وتعزيز المشاركة، وأهمية وجود الشبكات الاجتماعية والدعم، والقدرة على التعامل مع الانقسامات والاختلاف، من خلال تملك المرونة الاجتماعية، المتمثلة بتضمين الآخرين المتنوعين، والقبول والاهتمام بالآخرين، والاحترام المتبادل، والاستجابة للآخرين.وإمكانية تفعيل الطاقات وتوفير متغيرات موجبة كاحترام الذات، والصلابة، ومهارات التأقلم القوية والقدرة على التكيف ، والشعور بالتماسك والكفاءة الذاتية والتفاؤل والموارد الاجتماعية القوية، والمخاطرة، وانخفاض الخوف من الفشل، والتصميم، والمثابرة والتحمل العالي لعدم اليقين، وبالتالي تملك سلوكيات فضلى كالمثابرة في مواجهة الشدائد، وبذل الجهد للتعامل مع التحديات، وممارسة واثبات أنماط التفكير التي تعزز المساعدة الذاتية، والاستعداد لتقديم الدعم والتوجيه للآخرين، والقيادة بنزاهة لممارسة التواصل المفتوح، وإظهار القدرة على الحسم، وصولا إلى فهم وإدراك الدور المتفاوت في تأثيره ومدياته الذي تلعبه المؤسسات والجماعات تجاه الضغوط السياسية والاقتصادية والديمغرافية، والتي يشتمل عليها المجتمع الأوسع المتمثل بالمؤسسات الرسمية وغير الرسمية: المجتمع المدني المنظم، الدين، التعليم، القطاع الأمني، الأعراف والتقاليد القانونية، مجموعات الهوية، المجموعات المؤتلفة، وسائل الاعلام القديمة والجديدة، المجموعات النسائية، والمجموعات الشبابية. وفي اطار هندسة المناعة والصمود هذه، توضح التجربة أهمية توافق السياسات الرسمية مع احتياجات المجتمع وقيمه والحرص على تلبية مصالح الجميع عبر عقد اجتماعي متجدد مع المواطن، وبحيث تفعل القدرة على ضمان أمن المواطن، وتلقيه تعليمًا جيدًا، وتوفير فرصة متكافئة له للازدهار وتمكينه من عيش حياته وفقًا للمعايير المتوافقة مع الهوية والثقافة والقيم الحضارية، والتي لا يمكن ايفاؤها حقها إلى بحوكمة رشيدة لنظام الحكم والمؤسسات.

ومن البديهي هنا ان يطرح سؤال ما الذي يُواجه ويُراد أن يُصمد بوجهه ويُقاوم، ولمصلحة من الصمود والمرونة؟ وان الإجابة على هذين السؤالين تمكن من التركيز على أولويات تخطيط الصمود والمرونة. فالمهم هو نوعية الاستجابة بشكل فعال للتحدي والتهديد.

وبناء على ما تقدم لا بد من مقياس عملي تطبيقي للصمود والمناعة الوطنية على صلة وثيقة برأس المال الاجتماعي، الأمر الذي يمكن من الامساك بكل عناصر أبعاده النفسية- الاجتماعية – السياسية، التي تظهر صلته بالوطنية والاندماج الوطني والثقة السياسية والتفاؤل العام. وإن من شأن ذلك أن يمكن من الامساك بمعادلة العلاقة بين الثقة والتماسك الاجتماعي والصمود، حيث التماسك الاجتماعي يعزز الثقة والثقة تعزز التماسك الاجتماعي، والاثنان معًا يدعمان المرونة والصمود، وهو ما يستدعي تحليل مقومات وعوامل الصمود وهندستها بناء على أثر التغييرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية على السياق، وبالتالي رؤية تعقيدات الواقع وما أحدثت التطورات عليه من تغيير، وبحيث تبنى الاستراتيجيات والتدخلات السياساتية المطلوبة على تحسس الوقائع عملا بالحكمة الصينية للبحث عن الحقيقة من خلال الوقائع، الأمر الذي يشير إلى عدم وجود خريطة طريق جاهزة للإصلاح والتنمية وخلق الصمود والتقدم، وأنه "يتعين على الشعب أن يعبر النهر بنفسه ليتحسس بأقدامه الحصى الموجود في قاع النهر". أي ان يجري اختبار ذلك بالممارسة العملية، أي عبر الكفاح الوطني.

وقد دلت التجربة التاريخية العالمية أن خارطة الطريق لتعزيز المرونة والمناعة الوطنية والتماسك والصمود تحتاج لتمثل العديد من المبادئ والتوجهات، ومنها التالية: الانتقال من الديمقراطية التمثيلية "النقية" والتي قد تنحرف أحيانا نحو الاستبداد والاستخدام الاعتباطي للسلطة، إلى الديمقراطية التمثيلية المكملة بالديمقراطية التشاركية؛ والتحول من التوزيع شديد المركزية للموارد إلى توزيع موارد لا مركزية أكثر محلية (عمومي)؛ والانتقال من الحكومات التي تفعل الشيء لنا ومن أجلنا إلى الحكومات التي تفعل الأشياء معنا؛ والتحول من الاعتماد على ممارسة القوة والابتكار من أعلى إلى أسفل إلى مشاركة المبادرات والنشاطات، التي قد تظهر عناصرها الرئيسية من القاعدة إلى القمة؛ والانتقال من "الإخبار/الإعلام " إلى السؤال والاستماع والمشاركة في الحوار؛ والانتقال من التركيز على المعرفة الرسمية المجردة باعتبارها سائدة إلى مزج ذلك مع المعرفة والحكمة المحلية والتجريبية.

ولا بأس في قياس مؤشرات المناعة والتماسك الوطني من ان تجري الاستفادة على هذا الصعيد من تجربة دولة الاحتلال الاستعماري الصهيوني، ففي نيسان/ أبريل 2015 تبنت الحكومة الإسرائيلية القرار رقم (2494)، الذي يلزم جهاز الإحصاء المركزي بنشر مؤشرات الرفاه والاستدامة والمرونة الوطنية. وقد حددت لذلك تسعة مجالات تم تطويرها لاحقا إلى احدى عشر مجالا للقياس هي التالية: جودة التوظيف؛ الأمن الشخصي؛ الصحة؛ الإسكان والبنية التحتية؛ التعليم العالي والمهارات؛ الرفاه الشخصي والاجتماعي؛ البيئة؛ المشاركة المدنية والحكم؛ مستوى المعيشة المادي؛ تقنية المعلومات؛ والترفيه والثقافة والمجتمع.

وعلى مستوى ما يسمى بالديمقراطيات العشرة الكبيرة في العالم(D-10) (المملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وأستراليا وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وكوريا الجنوبية والهند)، قامت جمعية هنري جاكسون (HJS) بتطوير وبناء مؤشر الصمود (المرونة) الوطني (NRI)، المكون من عشرة مؤشرات Nikita and Rakib , 7th September 2020)) هي: الثقة في المجتمع المدني؛ الثقة بالحكم الديمقراطي؛ الثقة بالقانون والنظام؛ حساسية البنية التحتية؛ البراعة التكنولوجية؛ كفاءة الحكومة، الإيثار (الاعتقاد في أو ممارسة الاهتمام النزيه وغير الأناني برفاهية الآخرين)؛ صمود السكان؛ الهوية الوطنية والانتماء؛ والتفاؤل العام / السعادة الوطنية.

ولا شك أن هذه التجربة العالمية يجب أن يستفاد منها لوضع مقياس ومؤشرات للصمود والمناعة الوطنية، ولكن مع التنبه إلى اختلاف الظروف والخصوصية الفلسطينية النابعة من اختلاف طبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها الشعب الفلسطيني، والتعقيدات الناشئة عن شتاته وتبعثره.

ولقد طور الشعب الفلسطيني في تاريخه النضالي العريق، المتواصل منذ أكثر من مئة عام، مفهومه الخاص، للعملية المشار أليها، والمتمثل بمفهوم الصمود. وقد انطوى وينطوي الصمود الفلسطيني على أعمال متنوعة لمواجهة ممارسات التطهير العرقي والفصل العنصري والتمييز والانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان والضغوط التي يمارسها الاستعمار الاستيطاني والاحتلال الصهيوني على حياة الفلسطيني كجماعة وأفراد، وهو ما أكد بان التاريخ الاجتماعي الفلسطيني لم يكن مختبرا للقمع فحسب، بل وأيضا مختبرًا للنضال من أجل الحرية، والصمود الشعبي، الذي مكن الوطنية الفلسطينية في أواخر خمسينيات واوائل ستينيات القرن الماضي، من بناء "مجالها السوسيولوجي" الذي حققته التجمعات المشتتة، "أي إحياء شبكاتها الاجتماعية وأنظمة قيمها ومعاييرها ورموزها الثقافية، التي مكنت تلك التجمعات من الصمود (جراد، 2021)، كما تجلى عمل الصمود الفلسطيني بعد النكبة عام 1948 بتشبث من بقي من الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 48 بأرضهم وبيوت نشأتهم وحفاظهم على هويتهم الوطنية والقومية، وتحمل اللاجئ الفلسطيني لبؤس العيش في المخيمات ورفضه التوطين وتمسكه بحق العودة الى فلسطين أرض آبائه واجداده. ورغم احتلال بقية فلسطين عام 1967، فإن الصمود تجلى بأشكال وتجليات عديدة كانت عناوينها الرئيسية التمسك بالبقاء في الوطن رغم أعمال الطرد والترانسفير، والعلاقة بالأرض، والاعتزاز بالهوية الوطنية والحفاظ عليها، والتمسك بالوحدة الوطنية، وممارسة التكافل الاجتماعي، وسمو قيمة الشهادة والنضال، والصمود في التحقيق والمعتقلات والسجون، والمحافظة على التراث والفلكلور، وصيانة الذاكرة الجماعية، والمحافظة على الثقافة الوطنية في مواجهة ثقافة الهزيمة، والتكيف مع الصعوبات والقدرة على تحمل ضغوطات الاحتلال ومقاومته بشتى الوسائل المتاحة، وحشد التضامن الخارجي العربي والدولي الداعم للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، واستمرار التسلح بالأمل والتفاؤل في الخلاص من الاستعمار الاستيطاني والاحتلال. ويرى الدكتور أسعد غانم بأن الصمود مثل الوسيلة الأهم لنضالات الشعب الفلسطيني وهو "يعني بقاء الشعب في بلده وأرضه وبيته وعدم فسح المجال للسيطرة عليها وتهويدها أو أسرلتها" (غانم، 2020). وهو ما تجلى وعبر عن نفسه خلال التجربة المعاشة بالحفاظ على الرموز الوطنية والهوية والتراث والفلكلور، والتشبث بالأرض، والقدرة الإنجابية والنضال الديمغرافي، والمقاومة اللاعنفية والمقاومة الشعبية ضد جدار الفصل العنصري والتوسع والاستيطان ومصادرة الأراضي، وصولا الى صيرورة الصمود كآيديولوجية تمثل نافذة مفاهيمية للتعبير عن إنسانية الفلسطيني، وفنا للحياة ونمط معيشة، وبناء علاقات اجتماعية والحفاظ على الهوية والكرامة، وأفعال البطولة اليومية في وجه كل أشكال القمع والاضطهاد والانكار الصهيوني.

ان الصمود بهذه الصور التي سطرها الشعب الفلسطيني، توضح أنه كمفهوم مختلف عن المرونة (Resilience)، حيث أن الأخير-حسب Anderson (2021) هي مفهوم موجه نحو حالة ذهنية، بينما الصمود يعبر عن حالة ذهنية وتوجه إلى العمل في نفس الوقت، وهو ليس مجرد القدرة على البقاء على قيد الحياة أو القدرة على الارتداد مرة أخرى للتأقلم والتكيف مع الضغوط والمحن، بل انه ينجز هذه الأشياء الى جانب استمراره في تحدي القهر والاحتلال. ويضيف Anderson أن الصمود ليس صفة فطرية أو نتيجة لحدث واحد في الحياة، بل هو نظام من المهارات والعادات التي يتم اكتسابها وتعلمها ويمكن تطويرها، لتصبح أساس أسلوب حياة القدرة على التحمل، والتشبث بالأرض كشجرة زيتون عميقة الجذور، والحفاظ على الهوية، والسعي إلى الاستقلالية والوكالة، والحفاظ على الرواية الفلسطينية وثقافتها في مواجهة الإقصاء (Anderson, 2021). ولعل هذا الفهم يجعلنا نميز، كما ذهب الى ذلك كثيرون ومنهم ابراهيم الدقاق (في (Nassar & Heacock, 1990 بين الصمود الساكن والصمود المقاوم، فالصمود الساكن، سلبي، ويعرفه إبراهيم الدقاق بأنه "الحفاظ على الفلسطينيين على أرضهم". أما الصمود المقاوم فهوأيديولوجيةأكثر ديناميكية تهدف إلى البحث عن طرق لبناء مؤسسات بديلة لمقاومة وتقويضالاحتلال. وقد عبر عن الأخير الرئيس الراحل ياسر عرفات في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حيث وصف الصمود باستراتيجية سياسية تمثل شرطا أساسيا للقتال، قائلا: "إن أهم عنصر في البرنامج الفلسطيني هو التمسك بالأرض. التمسك بالأرض وليس الحرب وحدها. الحربتأتي على مستوى مختلف. إذا قاتلت فقط - هذه مأساة. إذا كنت تقاتلوتهاجر- فهذه هي المأساة. الأساس هو أنك تمسك وتقاتل. الشيء المهم هو أنك تمسك بالأرض وبعدها – القتال". والصمود في هذا المعنى يعني "البقاء على الرغم من الاعتداء المستمر". إن الأمر لا يتعلق فقط بالتحمل السلبي، بل "عمل من المقاومة والتحدي بلا كلل"

) Schultz. & Hammer, January 2003)

لقد برز هذا النمط من حياة الصمود واضحا في الانتفاضة الكبرى عام 1987، وكان مبعثه عوامل عديدة، جعلته يجترح أشكالا مبدعة من الصمود المقاوم، الذي مزج ما بين المقاومة والتنمية والصمود، حيث "التنمية شكل من أشكال المقاومة التي تعزز الصمود من خلال تطوير القدرات، وهي أكثر من مجرد هدف نريد أن نحققه، ولذا فإنها عملية مستمرة يشكل الصمود فيها سر المقاومة" (مجلة الدراسات الفلسطينية، 2016)، أو كما أسماها عادل سمارة "التنمية بالحماية الشعبية". ومن الأشكال تعبيرات من نمط المقاومة السلمية كالإضرابات والمقاطعة والتي وصلت حد "العصيان المدني" كما في تجربة بيت ساحور.

لكن من المهم الاشارة هنا إلى أن الصمود لم يكن ممكنا دون وجود حركة وطنية فلسطينية فاعلة، ولم يكن ليكون بهذا الزخم لولا دعم منظمة التحرير الفلسطينية الرمزي والمادي (غانم، 2020). وعليه يجب أن يؤخذ هذا الأمر بعين الاعتبار عند التصدي لتعزيز الصمود الوطني المقاوم والمناعة الوطنية، وبحيث تتحمل منظمة التحرير الفلسطينية والقوى السياسية مسؤولياتها على هذا الصعيد.

واليوم بات الأمر بحاجة ماسة للوقوف على طبيعة الظروف الراهنة الخاصة التي يمر بها الشعب الفلسطيني. فمنذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994، وحتى اليوم، لا زال ثمة ارتباك شديد في المواءمة بين استكمال عملية التحرر الوطني وعملية البناء والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولا يشمل هذا مؤسسات السلطة الفلسطينية، بل وقوى المعارضة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني أيضا. وفي الجانب المقابل ورغم الاتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي والتزام السلطة الفلسطينية بها، ورغم أن تلك الاتفاقات تنص على عدم القيام بأية اعمال أحادية الجانب تجحف بقضايا الحل النهائي، إلا ان دولة الاحتلال استمرت بإجراءاتها الاستيطانية الاستعمارية وأقامت جدار الفصل العنصري عام 2002 وأحكمت سيطرتها على القدس وعزلتها عن بقية المناطق، وأقامت مئات الحواجز التي تعيق وتمنع حرية الحركة والتنقل، واستمرت بالقيام بأعمال القتل والاعتقال وهدم المنازل، واتخذت من أعمال المقاومة والانتفاضة التي اندلعت عام 2000 ذريعة لاجتياح واستباحة مناطق "أ" التي تقع تحت السيطرة الفلسطينية الإدارية والأمنية الكاملة، وانسحبت من قطاع غزة لتحاصرها وتستفرد بالقدس والضفة الغربية وتركز استيطانها فيها، وقامت بشن حروب متتالية على غزة خلفت دمارا هائلا، وتحت ذريعة ملاحقة "المخربين" و"مكافحة الإرهاب" استمرت باستباحة مناطق السلطة ولا زالت تستبيح هذه المناطق الى اليوم. ومن الواضح ان السياسات الاسرائيلية اليمينية المتطرفة التي تناغم معها الحاكم الأمريكي، ممثلا بترامب وادارته المسيانية، عملت جاهدة لمحاولة حسم صناعة الوجود للكيان الصهيوني على أرض فلسطين وإعلان انتصار المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وشرعنة نشأته ووجوده واستمراريته وتطوره كوجود طبيعي، وهو ما تطلب التطبيع والقفز عن العامل الفلسطيني، مما يعني تكريس الحلول التصفوية للقضية الفلسطينية عبر الانقلاب على أسس التسوية السياسية التي قامت على أساس الأرض مقابل السلام ليحل محلها مبدأ "السلام مقابل السلام"، بل فعليا السلام مقابل الاستسلام. ورغم مجيء إدارة أمريكية جديدة برئاسة جو بايدن تتبنى إعادة إحياء قيم ومبادئ السياسة والدبلوماسية الامريكية الخارجية التقليدية القائمة على رؤية حل الدولتين والتي تعرضت لخراب بسبب سياسات ترامب، ورغم تأكيدها على ضرورة السعي من اجل هدنة طويلة الأمد على جبهة غزة وحلول سياسية متوازنة للصراع، والبحث عن آفاق لتسوية سياسية ما، او على الاقل لإعادة بث الحياة في عملية المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وإعادة الدعم للسلطة الفلسطينية واعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، إلا أن كل ذلك لم يجد حتى اللحظة تجسيدا له على الأرض بشكل جدي. ورغم مجيء حكومة إسرائيلية جديدة، الا ان سياسة الضم الاستعماري مستمرة وتجري على قدم وساق بسياسة فصل عنصري ممنهجة تقوم على تعزيز الاستيطان وبنيته التحتية الدائمة والاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الأرض وتهويد القدس وإبقاء انفصال غزة عن الضفة الغربية، إلى جانب استمرار أعمال التطهير العرقي والتمييز ضد فلسطينيي 48، وبالتالي تحويل كل الحيز الفلسطيني الى نظام من الفصل العنصري "الأبرتهايد" مع تأبيد الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير والعودة والاستقلال والسيادة.

وهكذا فإن التطورات السياسية الجديدة ترتب تحديات وتتضمن تهديدات جدية باتت تفترض الصمود أكثر من أي وقت مضى، والى جانبه تفترض تعزيز المناعة الوطنية في مواجهة محاولات الاختراق الخارجية وأعمال التخريب ومحاولات التفتيت والشرذمة وزرع الفتن ونشر الجريمة والإبقاء على الانقسام والخلافات، وتغذيتها بأساليب وأشكال شتى.

إن أخطر ما يواجهه الشعب الفلسطيني على هذا الصعيد هو محاولات الاحتلال الاسرائيلي الممنهجة ذات الابعاد الاستراتيجية، التي تهدف إلى هدم المكون الاجتماعي الفلسطيني وتشويه الهوية الوطنية الفلسطينية وتفتيت النسيج الاجتماعي تمهيدا لإنهاك النفسية الفلسطينية، وتذويب الهوية الوطنية، لإحداث التغيير في السلوك الاجتماعي الفلسطيني لدفعه للتخلي عن مبادئه وعقائده (النجوم، 2021). ولعل الخطر الآخر الكبير يتمثل بحالة الانقسام، التي نتجت عن انقلاب حركة "حماس" على السلطة في غزة وما نتج عن ذلك من سلطة أمر واقع ومن عملية فصل جغرافي وسياسي، وهو الانقسام الذي بات يشكل مهددا لوحدة الشعب والجغرافيا والتمثيل الوطني، والذي الى جانب الخلافات السياسية بين مختلف القوى والفصائل بات يطال المجتمع الفلسطيني برمته، بما فيه الداخل الفلسطيني عام 48. ومما زاد ويزيد من ثقل وقع هذين الخطرين وما يحملانه من مهددات، ما أظهرته بنية السلطة الفلسطينية والقوى والمؤسسات من هشاشة ومن بيروقراطية ومن مظاهر فساد تعتاش عليها وتستثمرها القوى المعادية المتربصة شرا بشعبنا ومؤسساته الوطنية القيادية والتمثيلية، وهي البنية التي عززتها السياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية والنيوليبرالية التي تبناها اليمين الاسرائيلي المتطرف، والتي وجدت انعكاسا لها في السياسات المتبعة في مناطق السلطة عبر شروط الممولين ومؤسسات الحاكمية العالمية، والتي أخذت تتكرس منذ حكومة سلام فياض وبرنامجها لإقامة الدولة بحلول عام 2011، وهو البرنامج الذي اعتبره رجا الخالدي وصبحي سمور بأنه "يعيد تعريف النضال التحرري الفلسطيني ويحرف مساره" عن مقاومة وتحدي الاحتلال، وهو برنامج عاجز عن أن "يشكّل قابلةً قانونية للاستقلال، أو استراتيجيا للتنمية الاقتصادية الفلسطينية لأنه بني على آليات السوق وأهداف وهمية لتحقيق النمو والازدهار في ظل استمرار الاحتلال ودون استراتيجية مقاومة او تحدٍ لنظام الاحتلال (الخالدي وسمور، 2011). ولعل الخطورة في هذا النهج أن الخصخصة التي رافقت هذه العملية، أدت إلى اثقال كاهل المواطن وجعله رهينة للبنوك والسوق الحر، وأدت إلى خصخصة الصراعات الاجتماعية والسياسية الجماعية لتتحول إلى صراعات فردية مع اهمال كبير لأسباب وجذور الهيمنة والسيطرة الاستعمارية التي تخنق المجتمع الفلسطيني (جراد، 2021). ولعل المتتبع لتطور الأحداث يستطيع أن يلحظ أن مثل هذه العملية يراد لها أن تبقى وتستمر، فقد نصت عليها "صفقة القرن" المشؤومة، وطرحها نتنياهو تحت ما أسماه "السلام الاقتصادي"، وهو ذات التفكير والمخطط الذي تسير عليه وتريد تكريسه اليوم حكومة بينيت، بتفهم من الإدارة الأمريكية الجديدة. فإذا ما أخذت هذه السياسة، التي يراد تكريسها كحل غير محدد المدى ودون أفق سياسي، وإلى جانبها ما يجري من سياسة استيطانية وضم زاحف وأعمال تطهير عرقي في القدس وبقاع مختلفة من الأرض الفلسطينية، ومن سياسات وإجراءات قمعية لردع الشعب الفلسطيني عن مقاومة الاحتلال، ومحاولات الاستقواء بالتطبيع وترويج الرواية الصهيونية الزائفة وكي الوعي، فسنتبين حجم التحديات والتهديدات الماثلة أمام شعبنا.

صحيح أن كل ذلك يستدعي التأكيد على الصمود الوطني، من حيث التمسك بالأرض والحفاظ على الهوية الوطنية ولحمة النسيج الاجتماعي والتكامل والتكافل والسلم الأهلي، ولكنه يستدعي إحداث تغييرات عميقة في بنية الحركة الوطنية والنظام السياسي الفلسطيني تعيد الاعتبار لمهمة التحرر الوطني، كما يستدعي عملا تنمويا مستداما يعزز الصمود، وادارة ناجعة للكوارث وأزمات الاوبئة والجوائح، وسياسة ودبلوماسية كفؤة تجند الدعم لفلسطين وتعزز التضامن العربي والإسلامي والدولي والضغط على دولة الاحتلال، وإلى ثقافة تحافظ على الهوية الوطنية وقوة الرواية وتبقي على شعلة الأمل متقدة، وهي الأمور المهمة لاستعادة الثقة بالقيادة والحكم والحركة الوطنية والمؤسسات والمجتمع المدني.

إن العمل المراد القيام به لا يعني، ويجب أن لا يعني، التكيف مع الواقع الاستعماري الجديد، بالدعوة الى التركيز فقط على البقاء والصمود ومناهضة الأربارتهايد والنضال من أجل حقوق الانسان والمساواة الفردية بعيدا عن الكفاح السياسي الوطني التحرري. وكما يقول الدكتور أسعد غانم فإن الصمود لوحده لا يكفي، فهو يتطلب الى جانبه وجود حركة وطنية قوية وداعمة، وتحمل مشروعا وطنيا جمعيا، تجعل منه مشروعا مستداما، مشيرا الى أن الصمود لم يكن هو وحده محرك الوضع الفلسطيني، في سنوات الصعود الوطني، حيث لم يكن باستطاعة الناس أن تصمد لولا توفر الشعور الوطني الجامع، ولولا دعم منظمة التحرير، الرمزي والمالي من جهة، ولولا الاعتقاد والأمل بزوال الاحتلال (غانم، 2020). وان العمل لجعل المشروع الوطني مشروعا مستداما وتعزيز الشعور والانتماء الوطني والإبقاء على جذوة الأمل والتفاؤل، واستعادة وتعزيز الثقة بالمشروع الوطني والقيادة، تصطدم بتحديات كبيرة ومتعددة في الواقع الراهن الذي نعيشه، وخاصة تحدي الاحتلال والانقسام، وتحدي التغيير الذي باتت تفرضه التحولات العميقة في المجتمع الفلسطيني والحركة الوطنية وعلى صعيد دول الإقليم والعالم.

فكيف يمكن في هذه الظروف الصعبة أن نعزز الصمود والمناعة الوطنية بمفوميهما الشاملين؟ وما هي مجالات وأبعاد هذين المفهومين في السياق الفلسطيني راهنا؟ وكيف يمكننا أن نُقيّم واقع ومستوى درجة الصمود والمناعة بمؤشرات علمية ملموسة قابلة للقياس؟

جواب هذه الأسئلة وغيرها من أسئلة وتساؤلات يثيرها الموضوع، هي برسم الكل الوطني، القيادة السياسية والحكومة والقوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، وهو أمر بات يستدعي القيام بحملة وطنية جامعة تعالج الأسئلة المطروحة بروح تشاركية وطنية وبمسؤولية عالية، وتتوج الحوار الشعبي حولها بمؤتمر وطني عام يتضمن جلسات علمية يفترض بها الخروج بخلاصات وتوصيات تستجيب لمستوى التحديات المطروحة، وتجد صدى لها لدى أصحاب القرار وترجمتها باستراتيجيات وسياسات وتدخلات وطنية كفؤة وفاعلة. ولنا في التجربة الوطنية الفلسطينية التاريخية الكثير من الدروس والعبر التي يمكن لاستفادة منها لتعزيز الصمود المقاوم والمناعة الوطنية. ولقد أعطى شعبنا في هبة القدس واضراب الكرامة الموحد في نيسان وأيار 2021 نموذجا يعتز به في ابراز وحدته في مواجهة آلة الاحتلال والاستيطان والتطهير العرقي والتمييز العنصري الصهيوني.

إن معايير ومؤشرات الصمود (المرونة) والمناعة الوطنية، والتي تم التطرق لها في الاطار النظري، لا بد من تكييفها مع الخصوصية الفلسطينية، والتي يأتي في صدارة تميزها وفرادتها استمرار وجود الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الاحلالي، وعدم تحقيق شعبنا استقلاله الوطني وحقه في تقرير المصير وعودة اللاجئين، مع وجود سلطة وطنية فلسطينية لا مبرر لاستمرار ووجودها إلا بالحفاظ على وظيفتها كامتداد لمنظمة التحرير الفلسطينية وأداة تنفيذية لها لنقل الشعب الفلسطيني من الاحتلال إلى الاستقلال، ووجود تجمعات فلسطينية تقضي ظروفها المختلفة تباين الهموم والأولويات في اطار القضية الوطنية الجامعة. وكاجتهاد على هذا الصعيد نورد المجالات الآتية كأولويات: الحفاظ على الوجود والبقاء؛ الحفاظ على الهوية والشخصية الوطنية؛ التمسك بالرواية الفلسطينية وتعزيزها؛ العمل على تجاوز الانقسام والحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني وتمثيله الوطني الجامع في إطار منظمة التحرير الفلسطينية ممثله الشرعي الوحيد؛ والتوافق على ادارة موحدة للصراع مع الاحتلال؛ تعزيز الوحدة الميدانية والشراكة الوطنية في قيادة المقاومة الشعبية؛ الحفاظ على السلم الأهلي ولحمة النسيج الاجتماعي؛ إعادة بناء السياسات العامة باتجاه التنمية المعززة للصمود المقاوم والمناعة الوطنية؛ الحوكمة الرشيدة للمؤسسة الوطنية الرسمية وتعزيز شرعيتها والثقة بالحكم الديمقراطي؛ الحوكمة الرشيدة للقوى والتنظيمات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وتعزيز دورها التكاملي في التنمية المعززة للصمود؛ الحفاظ على ثقافة الصمود المقاوم والقيم والأخلاق الوطنية النبيلة؛ تكامل حقوق الانسان والحقوق السياسية والأمن الفردي والجماعي؛ وإحياء روح الأمل والتفاؤل العام.

وختاما فإن الحملة المنشودة تستدعي إلى جانب الاهتمام بالبحث العلمي لتأصيل المفاهيم وبناء مقياس علمي للصمود والمناعة الوطنية، أن تتعزز بالحوار مع المكونات السياسية وممثلي المجتمع المدني؛ وأن تدفع باتجاه اهتمام الجهات القيادية الرسمية والشعبية بتطوير السياسات العامة المعززة للصمود المقاوم والمناعة الوطنية. كما وتستدعي تنظيمها ليس على المستوى الوطني العام، بل على المستوى الشعبي أيضا وبما يتيح مشاركة قاعدية فاعلة، وبما يشمل كل تجمعات شعبنا في الضفة والقدس وغزة و48 والشتات، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل تجمع مع ضرورة الانشداد دائما وأبدا لوحدة الأرض والشعب والقضية الوطنية وضرورة تفكيك البنية الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية والقضاء على نظام الفصل العنصري، على طريق تحقيق التحرر الوطني والانعتاق الانساني معا.

* المصادر والمراجع محفوظة

*مدير عام معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي