|
تقرير: الأزمة الأوكرانية وانعكاساتها على العلاقات الإسرائيلية الروسية
نشر بتاريخ: 03/03/2022 ( آخر تحديث: 03/03/2022 الساعة: 21:27 )
بيت لحم- معا- منذ بداية الأزمة الروسية الأوكرانية حاولت إسرائيل الوقوف على الحياد ودعت إلى إيجاد حلول سلمية ودبلوماسية للأزمة، لما يربطها من علاقات استراتيجية بين طرفي الصراع، فالولايات المتحدة والغرب الذين يدعمون أوكرانيا هم الحلفاء الاستراتيجيون لإسرائيل، بينما على الجانب الروسي يُلاحظ أن رجال الأعمال والأثرياء اليهود يؤثرون بعمق في الواقع السياسي والاقتصادي الروسي، فضلاً عن المكاسب المهمة التي تجنيها إسرائيل من المحافظة على علاقة هادئة مع روسيا، وذلك لحماية أمنها القومي ومصالحها الحيوية في المنطقة والعالم.
لكن بعد توجّه روسيا للتوغل العسكري في أوكرانيا اضطرت إسرائيل إلى مغادرة مربع الحياد، وأعلنت بوضوح إدانتها للغزو الروسي، ليتسق بذلك موقفها مع الموقف الأمريكي الداعم لأوكرانيا في مواجهة الخصم التقليدي الروسي، ويرجع ذلك إلى العلاقات الوثيقة بين الدولتين، والالتزام الأميركي الواضح بأمن إسرائيل؛ لكن دون الدخول في مواجهة واضحة وصريحة مع الطرف الروسي، للحفاظ بقدر الإمكان على قنوات الاتصال مع موسكو، من أجل مواصلة التنسيق المتعلق بالتهديدات الإيرانية ومنع أي احتكاك عسكري بينهما في سوريا.
وقد عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تدخّل إسرائيل كوسيط للسلام في الأزمة الأوكرانية بعد مطالبات رسمية أوكرانية، وتوافق ذلك مع إعلان بينيت أن إسرائيل مستعدة لتقديم المساعدة في الوصول لحل دبلوماسي للأزمة، لكن إسرائيل اضطرت مؤخراً لتكون أكثر وضوحاً واصطفافاً، بعد تأييدها لمشروع القرار الذي تقدم به الأوروبيون للجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا ومطالبة موسكو بالانسحاب الفوري من الأراضي الأوكرانية.
العلاقات الإسرائيلية الأوكرانية بدأت العلاقات الإسرائيلية الأوكرانية رسمياً بالتبلور منذ الاعتراف الإسرائيلي باستقلال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتي عام 1991م، ويروِّج الإسرائيليون للعلاقات التاريخية التي جمعتهم بأوكرانيا منذ عقود، إذ تشير الدعاية الإسرائيلية أن هناك عدداً من القواسم المشتركة التي تجمع الطرفين، أهمها التركيز على مبدأ الحق في إقامة دولة مستقلة، بعد حقبة من الشتات والاضطهاد الذي تعرّض له الأوكرانيون خلال عهد الزعيم السوفيتي الراحل "جوزيف ستالين"، حيث مات نحو أربعة ملايين أوكراني حين رفض المزارعون الأوكرانيون التخلي عن مزارعهم الفردية لصالح الانضمام إلى المزارع الجماعية الكبيرة.
من جهة أخرى، نجد أن عدداً من الشخصيات السياسية اليهودية ذات الأصول الأوكرانية، أسهمت في تأسيس إسرائيل وتطويرها وإرساء قواعد نظام الحكم فيها، مثل رئيسَي الوزراء السابِقَين "غولدامائير" و"لِفي أشكول"، ومنذ الاعتراف الإسرائيلي بسيادة الدولة الأوكرانية سعت تل أبيب لتعزيز التعاون التجاري والاقتصادي مع كييف، وذلك انسجاماً مع التوجهات الاستراتيجية للطرفين القائمة على التحالف وتعزيز التعاون مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لخدمة الأهداف السياسية والقومية لكلا الطرفين.
وقد وقَّع الطرفان اتفاقية للتجارة الحرة في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو مع الرئيس الأوكراني السابق بيترو بورشينكو في يناير 2019م، والتي دخلت حيّز التنفيذ مطلع عام 2021م في ظل ولاية الرئيس الأوكراني الحالي من أصول يهودية فولوديمير زيلينسكي، ما سيؤدي إلى زيادة حجم التجارة المتبادلة بين تل أبيب وكييف إلى ملياري دولار سنوياً، وسيسمح لإسرائيل التوجه بشكل حر إلى السوق الأوكراني ببضائع كبيرة كانت تخضع لضريبة الجمارك، مقابل منح إسرائيل لأوكرانيا امتيازات جمركية على منتجات كثيرة.
معضلة دبلوماسية لم تقف محاولات إسرائيل للحفاظ على موقف الحياد من الصراع الروسي الغربي المتعلّق بالقضية الأوكرانية عند الأزمة الحالية فحسب؛ فمنذ أن قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم عام 2014، واجهت إسرائيل نفس التحدّي السياسي والدبلوماسي الذي تواجهه اليوم إثر الغزو الروسي لأوكرانيا، حيثُ وجدت نفسها هذه المرة مطالبة بالاصطفاف الواضح والصريح إلى أحد طرفي الصراع، بخلاف التزامها الصمت وتجنَّبت التنديد العلني بالسياسات الروسية في شبه جزيرة القرم حينها، خشية إغضاب الطرف الروسي الذي قد يتجه -وفق التقديرات الإسرائيلية- إلى التوسع في بيع السلاح لأطراف تناصب إسرائيل العداء، سيما السلاح الذي يمكن أن يخل بميزان القوى القائم.
واليوم تجد إسرائيل نفسها أمام معضلة دبلوماسية جديدة في ملف العلاقة مع روسيا، بعد الاعتراف الروسي باستقلال جمهوريتي "لوهانسك ودونيستك"، ثم إرسال قواتها العسكرية لدعم الانفصاليين في إقليم دونباس وغزو الأراضي الأوكرانية، والذي ردّت عليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالإدانة الشديدة، وتقديم الدعم العسكري والاقتصادي اللامحدود للحكومة الأوكرانية للتصدي للغزو الروسي، لكن تل أبيب هذه المرة وعلى لسان وزير خارجيتها يائير لابيد أدانت التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، واعتبرته انتهاكاً خطيراً للنظام الدولي، ودعت إلى العودة إلى طاولة المفاوضات لتسوية الخلافات سلمياً.
بل إن إسرائيل ذهبت لاتخاذ موقف أبعد من ذلك حين أيدت مشروع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يهدف إلى عزل روسيا دولياً، عبر استنكار "عدوانها على أوكرانيا"، ومطالبة القوات الروسية بوقف القتال والانسحاب فوراً، إذ تشير التقديرات في إسرائيل إلى أن دعم مشروع القرار في الجمعية العامة لن يؤدي إلى مواجهة دبلوماسية مع روسيا، خصوصاً مع حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي على عدم إغضاب روسيا باتخاذ مواقف صارخة، وإيعازه للوزراء لتقليل التصريحات بشأن الأزمة في أوكرانيا.
الصراع مع إيران ثمة أسباب ومبررات تفسّر التوجهات الإسرائيلية للاهتمام بالحفاظ على علاقات متوازنة مع روسيا، بجانب الحرص الشديد على عدم اغضاب موسكو فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، فقد باتت روسيا الطرف الأهم والأكثر فاعلية في القضية السورية منذ تدخلها العسكري لإنقاذ النظام السوري من السقوط عام 2015م، وقد تعهدت روسيا لإسرائيل بأن لا تسمح لأي طرف كان -إيران والقوات الموالية لها ضمنياً- باستخدام الأراضي السورية لشن هجمات عسكرية ضدها، مقابل عدم إدانة إسرائيل للوجود الروسي في سوريا.
لكنّ موسكو أبدت تفهمًا لمخاوف إسرائيل الأمنية، وسمحت لها بتنفيذ المئات من الضربات الجوية داخل سوريا ضد القوات العسكرية لإيران وحزب الله، وقد نجح نتنياهو وبوتين في الوصول إلى تفاهمات لتجنب الصدام العسكري، أثناء قصف إسرائيل للقواعد العسكرية الإيرانية ومخازن السلاح في سوريا، وذلك فيما عُرف بـ "آلية منع التصادم"، والتي تهدف إلى تنسيق العمليات في الأجواء السورية التي تسيطر عليها روسيا، بما يمنع أي صدام عسكري أو سوء تقدير بين الجيش الروسي والإسرائيلي.
ومن ناحية أخرى، تخشى إسرائيل من أن تؤدي العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إلى حرف الأنظار عن التوصل لاتفاق أكثر تشدداً مع إيران في مفاوضات فيينا، وبهذا الصدد يقول يوناثان فريمان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العبرية أن الانشغال الأمريكي والدولي بالأزمة الأوكرانية قد يشجّع إيران على رفع الثمن الذي تريده مقابل الاتفاق، وأنه سيعزز من قناعتها بوجوب الحصول على سلاح نووي كنوع من الضمان، لأن أوكرانيا تنازلت في الماضي عن سلاحها النووي، ما سهّل على الجيش الروسي اجتياحها لعدم امتلاكها أياً من وسائل الردع العسكرية.
تخوفات إسرائيلية من الواضح أن إسرائيل لا يمكن أن تفرّط بخسارة التفاهمات الأمنية التي توصلت إليها مع روسيا في سوريا، لذلك تتخوّف من أن تؤدي إدانتها الصريحة للغزو الروسي لأوكرانيا، إلى تحرك روسيا نحو تقييد الأعمال العسكرية الإسرائيلية المستمرة ضد إيران وحزب الله في سوريا، ويعزز مثل هذه التخوّفات ما شهدته الساحة السورية مؤخراً من تحولات مهمة على السياسة الروسية، يتمثل في النشاط المتزايد وغير المعتاد للطيران الروسي والسوري المشترك على حدود الجولان دون إخطار تل أبيب بذلك، مروراً بإعادة موسكو التأكيد على موقفها السابق بأنها لا تعترف بالقرار الأمريكي الذي يقر بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان، وصولاً لإدانة روسيا للغارات الإسرائيلية على سوريا، واعتبار أنها تشكل انتهاكاً للسيادة السورية.
وتثير المواقف الأخيرة لروسيا في الساحة السورية تخوّفات كبيرة لدى المستوى السياسي والأمني الإسرائيلي، فتل أبيب تخشى من أن تؤدي إدانتها الصريحة للغزو الروسي لأوكرانيا، إلى تحرك روسيا نحو تقييد الأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد إيران وحزب الله في سوريا، ويبدو أن إسرائيل استطاعت قراءة الغضب الروسي من مواقفها الأخيرة، فقامت بإرسال رسائل طمأنة للجانب الروسي من خلال رفض طلب أوكرانيا تزويدها بمنظومة "القبة الحديدية" المضادة للصواريخ، حتى لا تخاطر بخسارة التفاهمات مع روسيا حول المخاطر التي تهدد الأمن القومي الإسرائيلي.
الخلاصة: يمكننا القول أنّ المرحلة المقبلة قد تشهد المزيد من الخلافات بين روسيا وإسرائيل، والتي ستنعكس على شكل استفزازات عسكرية وتنصّل من بعض التفاهمات السابقة، وقد تصل إلى حد وقوع بعض الاشتباكات المحدودة، بسبب توتّر العلاقات بين الطرفين بناءً على اصطفاف تل أبيب إلى جانب الموقف الغربي من الأزمة الأوكرانية.
لكن من المتوقّع أن تلتقط إسرائيل الرسائل التحذيرية الروسية، وتقف عن حدود الإدانة الدبلوماسية للغزو الروسي دون أن تنخرط في فرض عقوبات على روسيا أسوة بالولايات المتحدة وحلفائها، وذلك لإحداث نوع من التوازن في الموقف الدبلوماسي، بحيث تحافظ على علاقاتها الاستراتيجية مع الحليف التقليدي "الولايات المتحدة"، دون أن تخسر الطرف الروسي الذي يربطها به مصالح استراتيجية مشتركة في المنطقة.
لأن من شأن انحياز إسرائيل الصارخ للموقف الأمريكي الأوروبي، أن يكلّفها الكثير من المخاطر الأمنية على صعيد المواجهة المفتوحة مع إيران على جبهتي سوريا ولبنان، ويمكن أن ينعكس ذلك سلباً على استراتيجيتها العسكرية "المعركة بين الحروب"، إذا قررت روسيا تقييد حريتها في القصف الجوي ضد الأهداف العسكرية الإيرانية في سوريا.-"عكا للشؤون الاسرائيلية" |