|
موسكو والخيارات الصعبة في اوكرانيا ..
نشر بتاريخ: 09/03/2022 ( آخر تحديث: 09/03/2022 الساعة: 20:07 )
حازم السويطي ينظر الى الصراع في اوكرانيا كواحد من اكثر الصراعات خطورة وتعقيدا ويعود السبب في ذلك الى تداخل العوامل المشكلة للصراع و تعدد الجهات الفاعلة والمؤثرة في مجريات الاحداث وعلى راسها القوى العظمى روسيا وامريكا ، بالإضافة الى كونه صراعا يجمع بين أشكال متعددة من الصراعات كالصراع على السلطة وصراعات الهوية الى جانب تعارض المصالح السياسية والاقتصادية , كما ويعتبر نموذجا للصراعات التي ظهرت في اعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة والتي امتازت بالتحول من صراع دولي واحد ( صراع القوى العظمى) إلى صراعات داخلية متعددة مدفوعة بنزعة الاستقلال نتج عنها صراعات متعددة حول السلطة والموارد واتسمت بالعنف واثرت بشكل مباشر على هياكل الدول واضعفت قدرتها على القيام بالدور الذي وجدت لأجله وكان لها انعكاس مباشر على الامن والاستقرار العالمي والنظام الدولي برمته. منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي في عام 1991 شهدت اوكرانيا سلسلة من الاضطرابات السياسية والازمات الاقتصادية كالأزمة التي عصفت باقتصادها في اعقاب الاستقلال واستمرت لنحو 8 سنوات والقت بظلالها على كافة مناحي الحياة ، وبلغت الاضطرابات السياسية ذروتها في عام 2004 مع اندلاع الثورة البرتقالية والتي جاءت على اثر الخلاف حول نتائج الانتخابات الرئاسية , وفي عام 2014 شهدت البلاد اخطر ازماتها السياسية في اعقاب اندلاع ثورة الميدان والتي اطاحت بالرئيس المقرب من موسكو فيكتور يانوكوفيتش وما تلا ذلك من اعلان كل من القرم ولوغانسك ودونتيسك انفصالها عن اوكرانيا وتوغل لقوات الروسية في الأراضي الأوكرانية تحديدا المناطق الشرقية من البلاد على اثر الاشتباكات بين القوات الموالية لروسيا في المناطق الانفصالية والقوات الاوكرانية , ومنذ ذلك الحين دخلت البلاد في حالة اقرب ما تكون الى الحرب الاهلية وأصبحت مسرحًا لمعارك دامية وتدخلات عسكرية أجنبية مستمرة وحروب بالوكالة و بلغ عدد الضحايا نحو 14000 قتيل واضحى الصراع في اوكرانيا نموذجا جديدا للنزاع بين القوى العظمى واعاد المشهد للأذهان شبح الحرب الباردة التي خيمت على العالم وعلى النظام الدولي لنحو 50 عاما وتجاوزت الحالة ذلك لتشكل تهديدا بصدام مباشر بين القوى العظمى لاسيما بعد بدء العملية العسكرية الروسية في الاراضي الاوكرانية والمعارك التي شهدتها اجزاء كبيرة من البلاد مؤخرا. يمثل الصراع في أوكرانيا نموذجا للحرب الهجينة والتي ارتبطت بشكل مباشر بالنزاعات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال حقبة الحرب الباردة حيث كان للقوتان العظميان دورا مباشرا في توجيه اطراف الصراع والتأثير على مجريات الأحداث, وتجمع الحرب الهجينة بين العمليات الحركية والتخريبية وتتماهى مع الديناميكيات المرنة والمعقدة لساحة المعركة التي تتطلب استجابة سريعة وقابلة للتكيف ، بالمجمل هي نظرية استراتيجية عسكرية تمزج بين الحرب السياسية والحرب التقليدية والحرب غير النظامية بالإضافة الى الحرب الإلكترونية وغيرها من وسائل الحرب الغير تقليدية , ويرى البعض بان اصول الحرب الهجينة تعود الى الافكار التي قدمها الجنرال الصيني "سون تزو" في كتابه "فن الحرب" والذي يعتبر من اقدم الكتب التي تناولت استراتيجيات الحرب وادارة المعركة ويعود الى القرن الخامس قبل الميلاد حيث يرى "تزو" بان ذروة المهارة العسكرية تكمن في القدرة على اخضاع العدو دون قتال مباشر وباستخدام الوسائل البديلة , و منذ البداية كان لموسكو نهج شبيه في التعامل مع الحالة في اوكرانيا الا ان ما يجري الان يعكس تحول في استراتيجية موسكو تمثل في الانتقال من استراتيجية ادارة الصراع بشكل غير مباشر الى استراتيجية الغزو المباشر للأراضي الاوكرانية على الرغم من ادراكها المسبق للكلفة العسكرية والسياسية والاقتصادية التي تترتب على ذلك . يجادل البعض بأن ما يحدث الآن في أوكرانيا يثير قضية الألمان العرقيين في منطقة "سوديتنلاند" في تشيكوسلوفاكيا في عام 1938 ومطالبتهم بالانضمام إلى ألمانيا النازية الامر الذي شكل ذريعة لتدخل برلين في الاحداث و ادى لاحقا الى سيطرة النازيون وحلفاؤهم بشكل كامل على تشيكوسلوفاكيا ، بينما قاد غزو بولندا في عام 1939 إلى الحرب العالمية الثانية , و يبدو أن الرواية التي قدمها الانفصاليون في تشيكوسلوفاكيا تشبه إلى حد بعيد الرواية التي يقدمها الانفصاليون في أوكرانيا من حيث العرق واللغة والهوية وما إلى ذلك وبالمقابل أدى تجاهل الدول الغربية لمصالح ألمانيا النازية وسعيها الى تجاوز الاثار السلبية لهزيمتها في الحرب العالمية الاولى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية وهو الحال ذاته في طريقة تعامل الغرب مصالح موسكو التي تسعى ايضا للتعافي من الاثار السلبية لانهيار الاتحاد السوفييتي و خاصة فيما يتعلق بهواجسها الامنية حيال توسع الناتو والتهديد المتزايد على حدودها الغربية , علاوة على ذلك تجاوزت الدول الغربية مطالب موسكو ودفعتها إلى تبني استراتيجية أكثر صرامة في التعامل مع الازمة في أوكرانيا من خلال الاستمرار في السياسة التوسعية للناتو تجاه دول الاتحاد السوفيتي السابق ففي عام 2004 انضمت كل من بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا لحلف الناتو و مؤخرا بدا الحديث بشكل جدي حول انضمام كل من جورجيا واوكرانيا للحلف علما ان الاخيرة اصبحت جزء من برنامج الفرص المعززة التابع لحلف الناتو والذي يعتبر خطوة على طريق انضمامها رسميا للحلف الى جانب المساعي الحثيثة التي تبذلها كييف للتقارب مع دول الاتحاد الاوروبي بهدف الانضمام للاتحاد, الامر الذي فسرته موسكو على أنه صراع تنافسي جديد مع الغرب كونها ترى في الناتو تهديدًا توسعيًا تجاه الدول التي كانت ذات يوم جزءًا من الإمبراطورية السوفيتية ، وخاصة أوكرانيا والتي تعتبر من اولويات الامن القومي الروسي وترتبط بشكل مباشر بالعقيدة السياسية والامنية للقادة الروس و يجب على الغرب ادراك ذلك لمنع مواجهة شاملة لا مفر منها مع روسيا. من وجهة نظر روسيا تتجاوز اهمية اوكرانيا الجوانب السياسية والاقتصادية إلى الأهمية الرمزية فهي بوابة الغرب والعمق الاستراتيجي لروسيا ومرسى أسطولها البحري في البحر الأسود والممر المباشر للغاز المُصدَّر إلى الأسواق الأوروبية والذي يشكل عماد الاقتصاد الروسي الصاعد ناهيك عن الاستثمار الروسي الكبير في الأسواق الأوكرانية في مجال تكرير النفط وغيرها من المجالات الحيوية الاخرى , حيث وجدت موسكو بان كل ذلك بات مهددا مع تنامي تيار سياسي قوي مدعوم من المنظومة الغربية يسعى للانفكاك عنها ويتبنى سياسات واضحة للانضمام للاتحاد الاوروبي وحلف النانو بهدف قطع الطريق على اي محاولة جادة للتأثير في المشهد السياسي والاقتصادي الاوكراني , وبالتالي وجدت موسكو نفسها ولأول مره منذ عقود مهددة امنيا واقتصاديا وهو ما يفسر خطواتها التصعيدية وهوسها المستمر حول قضية الضمانات الامنية وهي بالمناسبة قضية قديمة حديثة حيث كانت محورا رئيسيا في نقاشات القادة الروس مع القادة الغربيين منذ عهد الرئيس الروسي ميخائيل جورباتشوف والرئيس الامريكي جورج بوش الاب الا انها لم تطرح بقوة من قبل موسكو في اي حدث سابق مثلما نجدها الان حتى عندما ضم الناتو عدد من دول الاتحاد السوفييتي سابقا الى عضويته , الا ان الامر مختلف كليا بالنسبة لأوكرانيا والتي اعتبرتها موسكو خطا احمر لا يمكن تجاوزه او القبول باي تنازل حيال خسارته , ففي مقال له نشر في العام الماضي بعنوان " عن الوحدة التاريخية بين الروس والأوكرانيين " ، يشير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى أن الروس والأوكرانيين شعب وان أن ما يحدث الآن هو نتيجة جهود مدروسة تهدف إلى تقويض وحدة الشعبين في إطار سياسة فرق تسد , ويضيف أن أوكرانيا دخلت في لعبة جيوسياسية خطيرة تهدف الى تحويلها كحاجز بين أوروبا وروسيا ونقطة انطلاق ضد روسيا مقابل تقديم جملة من الوعود والاغراءات من قبل الدول الغربية ومع ذلك لم تكن النتائج في صالح أوكرانيا حيث تراجع الاقتصاد وضعف الإنتاج ، مؤكداً أن الهدف الأساسي هو استبعاد روسيا من خلال شيطنة الدور الروسي ، وتصويرها كعدو وتشجيع جماعات المعارضة على بناء دولة أوكرانية نقية عرقياً والتغيير القسري للهوية وممارسة سياسة الاقصاء و الارهاب ضد المعارضين لهذه السياسات , ويختم بوتين بالتأكيد على ضرورة احترام توجهات و رغبات المواطنين الأوكرانيين وان روسيا سيكون لها دور في حمايتهم إذا لزم الأمر. في الصراع على السلطة في النظام الدولي تسعى الدول التي تشعر بالخطر إلى حماية وتقوية نفسها من وجهة نظر دفاعية من خلال تشكيل تحالفات تضمن لها القوة أو التوازن او القيام بخطوات تهدف الى اظهار قوتها لتحقيق عامل الردع حيال القوى الاخرى وبالتالي فان بوتين يرى بان التدخل العسكري في اوكرانيا هو اجراء دفاعي واستباقي لابد منه لتحصين نفسه ومنع توسع الناتو نحو أوكرانيا او انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وفي الوقت ذاته كرد متأخر نوعا ما على التدخل الغربي في اوكرانيا في عام 2014 والتهديد اللاحق للمواطنين الروس في أوكرانيا والمصالح القومية لموسكو وعلى راسها القرم وقاعدة اسطولها البحري في سيفاستبول , الى جانب السعي للحد من تأثير الجهات المدعومة من واشنطن على الحكومة الأوكرانية التي تبنت جملة من القرارات بهدف الحد من النفوذ الروسي والتي كان اخرها قانون اعتماد اللغة الاوكرانية كلغة رئيسية في البلاد والذي اقرته الحكومة الاوكرانية في عام 2019 , ويتهم بوتين بشكل مستمر هذه القوى بانها سعت لإفشال المحاولات الهادفة للحد من التصعيد من خلال اتفاقيات وقف إطلاق النار والسعي إلى التوصل الى حل سلمي عبر اتفاقيات مينسك 1 و2 . مما لاشك فيه ان هناك تناقضًا كبيرًا بين رؤية موسكو ورؤية الغرب للأزمة في أوكرانيا ففي حين أن الغرب يعتبر الأزمة شكلاً من أشكال المنافسة الدولية وفرصة للحد من نفوذ روسيا وفرض هيمنتها على دول الجوار خاصة دول الاتحاد السوفييتي سابقا وعزلها دوليا وخلق فجوة بينها وبين الدول الاوروبية الى جانب اضعاف الاقتصاد الروسي الصاعد , ترى موسكو أن التدخل الغربي في أوكرانيا يمثل تهديدًا حقيقيًا لهويتها ومجتمعها بالإضافة إلى مصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية حيث انها تنظر الى أوكرانيا تاريخيًا على انها جزء لا يتجزأ من روسيا معللة ذلك بالترابط الكبير من حيث الهوية واللغة والثقافة والمجتمع الى جانب عامل الجغرافيا وأثره على التفكير الروسي وبالتالي فإن الأمر لا يقتصر على عامل المنافسة الدولية بل يتعدى ذلك إلى تهديد للوطن و حدوده ، وهو ما يفسر سياسات موسكو المتشددة و تحركها عسكريا ضد كييف على الرغم من ادراكها المسبق للكلفة الاقتصادية لمثل هذه الخطوة نتيجة للعقوبات الاقتصادية المتوقعة مسبقا والعزلة الدولية وما سيترتب عليها من اضعاف للدور الروسي في العديد المناطق التي تلعب فيها ادوارا مختلفة الا ان موسكو ذهبت للخيار الاصعب , وعلى الرغم من استمرار المعارك على الارض الا ان هدف العمليات العسكرية تجاوز السيناريوهات المتوقعة لمفهوم الغزو المحدود الهادف الى ضم الجمهوريات الانفصالية الثلاث والدفع بالقوات الاوكرانية شرقا الى محاصرة العاصمة كييف والسيطرة على مساحات شاسعة من الاراضي الاوكرانية , وعلى الرغم من ما يتم تقديمة في وسائل الاعلام حول الخسائر الكبيرة للجيش الروسي والمشكوك في صحتها كونها تعتمد على الرواية الاوكرنية المدعومه من الغرب الا ان العمليات العسكرية على الارض لا تشكل مؤشرا على انخراط حقيقي للجيش الروسي بثقله المعروف في المعركة لعدة اسباب ابرزها رغبة موسكو في اضعاف كييف اكثر وتشديد الخناق عليها للوصول الى الاستجابة لكافة مطالبها التي قدمتها مؤخرا خلال المحادثات بين الطرفين في بيلاروسيا الى جانب سعيها لتجنب احداث خسائر كبيرة في ارواح المدنيين لضمان استمرار الدعم الشعبي لها في داخل روسيا وكذلك من بعض الاوكرانيين الموالين لروسيا. بالمحصلة النهائية يظهر الصراع في أوكرانيا فشل النظام الدولي العالمي في تحقيق السلام والاستقرار ووقف حالة الاصطفاف الدولي والاستقطاب نتيجة العداء بين القوى العظمى والتي غالبًا ما تكون على حساب الدول الأقل قوة وقدرة, ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى هيمنة القوى العظمى نفسها على الهيئات والمنظمات الدولية ، فضلاً عن استخدامها لخدمة مصالحها وأهدافها ، مما أدى إلى عدم قدرتها على معالجة القضايا التي قد تؤدي إلى الصراعات والحروب, ولتجاوز الازمة الحالية فأن الحل في أوكرانيا يجب أن يقوم على أساس مراعاة المخاوف الروسية من التوسع الغربي والتوصل إلى تفاهمات بين موسكو وواشنطن لإنهاء التوتر و خلق بيئة تسمح لأوكرانيا بإصلاح نظامها السياسي والاقتصادي المتدهور والعمل على تحقيق نوع من المصالحة الوطنية في أوكرانيا تشمل كافة الاطراف .
|