وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

التَّأويل والتَّلقي في (بين قوسين ونجمة)للكاتبة يسرا الخطيب

نشر بتاريخ: 14/03/2022 ( آخر تحديث: 14/03/2022 الساعة: 13:33 )
التَّأويل والتَّلقي في (بين قوسين ونجمة)للكاتبة يسرا الخطيب

محمد جلال عيسى

الحياة بكلِّ ما فيها من أخلاقٍ وسياساتٍ وتقاليدَ كلُّها عبارة عن قصصٍ وحكايات تروى، حيث كان الإنسان ينقل أخباره وأخبار من سبقه عن طريق القصِّ، وأخذت القصة تتطور بتطور الإنسان، كاستجابةٍ طبيعيةٍ لمتطلبات الحياة خاصة في العصر الحالي.

ويمكن القول بأنَّ القصة القصيرة في أبسط تعريف لها: هي سردٌ لغوي يصور فكرةً أو يعالج قضيةً، وتقوم بشكلٍ أساسي على الوحدة الموضوعية، وفي هذا العصر الحديث (عصر السُّرعة) ظهرت تقنياتٌ حداثية تناسب عصر وحال المتلقي صاحب الوقت الضَّيق والخيال الواسع، عرفت بالأقصوصة أو القصة القصيرة جداً([1])، وتعدُّ الكاتبة يسرا الخطيب رائدةً من أهم رواد هذا النوع الأدبي، فهي حداثيةٌ من الدرجة الأولى لما لها من إطلاعٍ ومعرفة بالآداب الحديث وتقنيات الهايكو الياباني ونظرية التلقي حيث وظَّفت هذه التقنيات والرؤية الحداثية في أدبنا العربي بتقنياتٍ وأشكالٍ حداثيةٍ جديدة، دون أن تخرج نصوصها من ثوبها العربي ما أثار حولها الجدل والحوار، كما في مجموعتها القصصية (بين قوسين ونجمة)، وهي عبارة عن قصصٍ قصيرةٍ جداً تحاول من خلالها الكاتبة استخراج ذخيرة المتلقي الثَّقافية والمعرفية؛ ليسهم في بناء مضمون النَّصِّ أو تحليل الغاية منه، وذلك دون أن تتملص الكاتبة من عناصر القصة الممثلة بالشُّخوص -سواء كانت شخصيات حقيقية أو مجازية- والمكان والزمان والعقدة والذروة غيرها، وتقدمها كاتبتنا بشكلٍ حداثي، ومن ذلك توظيف الكاتبة للعناوين، فالعنوان الذي تشهر به المجموعة القصصية (بين قوسين ونجمة) يثير عديداً من التَّساؤلات في ذهن المتلقي، منها ماذا تعني الكاتبة بالقوسين؟ هل هما قوسين لكلام بينهما؟ هل المقصود بالنَّجمة النَّجمة السَّاطعة في السَّماء؟ هل الكاتبة تقصد بالنَّجمة نجمةٌ معينة؟ هل ترمز الكاتبة بالنَّجمة لشيء معين؟ ماذا تمثلان القوسين للكاتبة؟ وما قيمة هذين القوسين؟ هل هناك علاقة بين القوسين والنَّجمة؟ قبل الإجابة على جميع هذه التَّساؤلات لابد من التَّطرق إلى المعنى اللغوي لهذا العنوان، فنجد أنّ المعاجم اللغوية تجمع على أنّ القوس في اللغة هو الانحناء، ويحمل القوس أيضاً دلالة جمالية طبيعية، كما في قوس قزح الذي يتشكل من مسقط ماء أو شلال، ويكون في ناحية الأفق المقابلة للشمس، أما النَّجمة فهي علامة إيضاح في الطباعة تدلّ على إحالة أو نقص، وهي كلُّ نبات ليس له ساق قائمة، والنَّجمة هي النجمة الموجودة في السماء، وهي شكل يستخدم عادة كرمْز مَرْتبة أو مزيَّة نجمة مُذهَّبة، والنَّجمة تحمل معنى المعاناة كما في قولنا: (رأى نجومَ السَّماء في عِزّ الظُّهر)، وعليه فالمعنى اللغوي للعنوان يحمل بعدين: الجمالية المتمثلة في النجمة والقوس، والقلق المتمثل في معنى الانحاء الذي يحمله معنى القوس، والمعاناة التي تشير إليها دلالة النجمة، والقارئ للمجموعة القصصية (بين قوسين ونجمة) يجد أن كلمة القوس والنّجمة يخرجان عن مدلولهما اللفظي المعجمي، ويتحولان إلى تعبيرٍ عن الواقع العام الذي تعيشه الكاتبة وما يحيط بها من توتر وضجر مصاحب لحالات شعورية تعبر عن مشاعر فياضة بالحنين، ذلك المضمون الذي سيجد القارئ من خلاله جميع الإجابات على تساؤلاته التي دارت في ذهنه عند إقباله على قراءة العنوان بعد أن يكون قد إتطلع على ما به من نصوص.

حيث أنّ هذه المجموعة تتكون من ثلاثة أبواب تحمل دالة لغوية مشتركة وهي (أَبْجَدِيَّات)، وأبجديات مصدر صناعيّ من أَبْجَد، أي: بدء ومُفتتَح، مقدمة، والأَبْجَدِيَّة: حروف اللُّغة العربيّة مرتَّبة وفقًا للتَّرتيب الأبْجَدِيّ وهي تستعمل للترقيم، هنا تمنح الكاتبة للعنوان بعداً فنياً يحيل إلى دلالة رامز لتعقيب أو ترتيب أحداث يُفصِح عنها استنطاق القصص التي جاءت مقسمة حسب أبواب المجموعة القصية، ولكل باب عنوان بحيث أن الباب الأول وسِمَ بــ (أبجديات خرساء) يتكون الباب الأول من خمسةٍ وأربعين قصةٍ قصيرة جداً ولكلِّ قصة فيه عنوان، وجاء الباب الثاني بعنوان (أبجديات مرتبكة)، ويتكون من سبعةٍ وأربعين قصةٍ ولكلِّ قصة فيه عنوان، ويحمل الباب الثالث عنوان (أبجديات عنكبوتية) ويتكون من سبعة عشرة قصةٍ لكلِّ قصة فيه عنوان، تصارع فيها الكاتبة أدبيتها بطاقاتها الحداثية، لإنتاج لون أدبي بتقنيات حداثية قادرة على إعمال ذهن المتلقي وإبعاد الملل عنه بحيث يكون مشاركاً للكاتبة في صنع الأحداث وتأويلها، فتقوم بتوسيع فضاء الأفق لدى المتلقي، فتكاد هذه التقنيات تشكل ثورة تدعو الكاتبة من خلالها للاهتمام بالمتلقي.

هذا وتمثل عناوين القصص في المجموعة القصصية (بين قوسين ونجمة) نقطة الانطلاق الرئيسة في تأويل النص والوصول إلى دلالاتها، حيث تنقل ما بداخل النص إلى أعلاه؛ فتكون العناوين كنداء للنصوص، وجاءت عناوين القصص في معظمها عناوينَ مفردةً تنفتح على تأويلات مفتوحة، وفي الوقت ذاته تشير إلى شيء من مضمون القصة؛ لسهولة استنباط معناه المعجمي والدلالي، إذا نظرنا إلى الدوال العنوانية المفردة في الصفحة الواحدة فنجد أنفسنا أمام مقاطع تتقارب كثيراً من تقنيات الهايكو التي تحتاج إلى قراءة أخرى كما في الدوال:

(شموخ ... سمو...زيتونة)، (كذبة... لعنة...حاوية)، (عقوق... اشتياق... يتيم)، (أمل ... عزيمة..رحيل .. أمنية مستحيلة)، (الرهان... بقاء)، (الأحمر.. خراب)، (صورة... حنين)، (صمود... ميلاد)، (عبث... وهم... جبن)، (تناقض... سبات... خيانة)، (حيٌ يرزق ... مرابطون.. منتهى الحبِّ)

حيث إن في تعميم الدلالة العنوانية وتخصيصها عن طريق البقاء على بعض الدلالات واستبعاد بعضها باعتبار العنوان يختزن الفكرة، ويبعث الدلالة، فإن هذا يكسب الدوال السابقة مجتمعة لوناً أدبياً جديداً.

هذا وتتجلى جمالية القصص القصيرة داخل المجموعة القصصية (بين قوسين ونجمة) بالإيجاز والتكثيف القائم على التأويل والمرتبط باستخدام اللغة بميزات جمالية بحيث تؤدي دلالاتٍ ومعانٍ تزيد النص قوة وجمالاً، كما في قصة (بقاء)، والتي تتميز بالارتكان إلى الإضمار والحذف من أجل تنشيط ذاكرة المتلقي واستحضار خياله ومخيلته، فالنص هنا يقوم على ومضات تخيلية درامية وقصصية تحتاج إلى تأويل وتفسير واستنتاج واستنباط؛ لذا نلاحظ في هذه المجموعة اجتناب الحشو والرَّصد السَّردي في تشبيك الأحداث كما في قصة (إدراك) التي تمتاز بالإيقاع القصصي المتسارع، والإضمار الموحي والحذف الشديد مع الاحتفاظ بالأركان الأساسية للعناصر القصصية كالحدث والشخصية والمكان والسرد، والكاتبة هنا تجعل من الخطاب أشبه بالحوار الصَّامت بين السَّارد والشَّخصية حيث تجرد من نفسها شخصاً آخراً تتوجه إليه بالخطاب بضمير المتكلم ما يجعل القارئ يعتقد أن خطاب السَّارد موجه إليه بشكل مباشر. فهي تستند إلى الخاصية القصصية التي تتجسد في المقومات السردية الأساسية كالأحداث والشخصيات والفضاء والمنظور السردي وصيغ الأسلوب، بشكل موجز ومكثف بالإيحاء والانزياح، ومنه ما جاء في قصة (تحدٍّ) التي تعمد فيها الكاتبة إلى التّلميح والسّخرية عن طريق اللاشعور الذي يبرزه الحوار في الشخصية أكثر من السّرد؛ لذا جاءت هذه القصة عند طريق الحوار كما عند (كارلوس سيجونيو)، كما ويتجسد في الحوار داخل قصة (منتهى الحبِّ) طابعا رومانسياً وواقعياً يساهم في خلق شاعرية النص عبر مجموعة من الروابط التي تضفي على النص الطابع القصصي والترتيب المنطقي للأحداث بخاصية الاختزال والتوازي في البناء القصصي، وكذلك في قصة (شوق مختزل) والتي تهدف الكاتبة من خلالها إلى إيصال رسالة طافحة بالواقعية الدرامية المتأزمة التي يعاني منها الفلسطيني، كما أيضاً في قصة (كأنه حرٌّ) التي تصور ما يحلُّ بهذا الفلسطيني من نكسات متتالية تجعله يتلذذ بالفشل والخيبة خوفاً من تآكل الذات فبطل القصة ظنَّ أنَّه استطاع الإفلات بما حصل عليه من هواء، ما يجعل القارئ حائراً أمام شاعرية النَّصِّ المختزل إيجازا واختصارا يسبح في عالم التخييل والتأويل، وفي قصة (تمنِ) استطاعت الكاتبة تليين الحوار حتى يتماشى ليس على حسب شكلها ومضمونها فقط بل على حسب المغزى الذي كتبت من أجله القصة أيضاً لتجعل من القصة نصاً مفتوحاً تفاعلياً يحتاج إلى قراءات عديدة وتأويلات مختلفة تختلف باختلاف القُراء والسياقات الظرفية.

ومن المواضيع التي اهتمت بها يسرا الخطيب في مجموعتها القصصية (بين قوسين ونجمة) تصوير الذات في صراعها مع كينونتها الداخلية وصراعها مع الواقع المتردي، ورصد الأبعاد الوطنية والقومية والإنسانية، كما في القصص: (فراغ، أم، اغتصاب، صورة، حنين) من خلال منظورات ووجهات مختلفة كالاغتراب والهزيمة والحنين والضياع الوجودي، أما في القصص: (مئذنة، كسرة خبز، نصف حي) فتصور الكاتبة في هذه القصص القصيرة جداً حدث الحرب بخاصية انتقادية ترنو من خلالها إلى التهكم والتهجين فهي تستهجن هذه الحرب وهذا العنف وما يلحق بهذا الشاب الذي حولته الحرب إلى عاجز، وتصور الكاتبة أحداث قصتها بخاصية السخرية والتلوين الأسلوبي الكاريكاتيري كما في قصة (هبوط) والتي تحوِّل فيها الحدث إلى لوحة تشكيلية كما عند (فاطمة بوزيان)، وعلى الرغم من هذا القصر الموجز، فالقصص تحتوي على كل مقومات الحبكة السردية من أحداث وشخصيات وفضاء ومنظور سردي وكتابة أسلوبية متنوعة. فالقصّة القصيرة جدًا، هي قصّة أولًا، وقصيرةٌ بعد ذلك، لذا نجد أنّ جميع القصص في المجموعة موضوع الدِّراسة قائمة على القصصيّة والتّكثيف والوحدة، وتأتي المفارقة والتّناص من الأركان الأساسيّة المتمّمة لعناصرها، ومن ذلك قصة (قلم، خسارة، انسحاب، وجبن) والتي تتمثل المفارقة فيها بأنها تمدّ النّصّ بالحيويّة والاختلاف والضّدّيّة، لتحقيق الكفاءة النّصّيّة، أمّا التّناص فيتمثل في كلِّ قراءة جديدة للنص، وهنا يدخل عنصر التّخييل الذي يتموضع في قوة الكلمة والمعنى الكامن، والتّجريدية والعصف الذهني لتوليد النص الجيد في كل قراءة.

[1] للمزيد ينظر: الفن القصصي في النثر العربي حتى مطلع القرن الخامس هجري, ركان الصفدي, منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب, طـ 1, دمشق 2011م, ص: 235 -238.