نشر بتاريخ: 21/03/2022 ( آخر تحديث: 21/03/2022 الساعة: 17:07 )
حظوظ وأقدار جعلت مني واحدا من مئات الطلاب العرب والعجم، الذين توفرت لهم فرصة الدراسة في تونس مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وان تصير تونس من أخصب فصول حياتهم، وأكثرها تأثيرا في وعيهم ووجدانهم وذاكرتهم.
هناك أيام تتشكل كعلامات فارقة في حياة الأشخاص ، ويوم 04/10/1980 الذي هو تاريخ أول دخول لي لبر تونس، أصبح نقطة تحول في حياتي، وقد كان لآخرين تواريخهم الخاصة التي أسست لسردياتهم الخاصة مع تونس.وهذا التحول لم ينتهي لأنه يتصاعد في حياتنا حتى يوم الناس هذا .
على مدار ستة عشر عاما من الإقامة في تونس،أطعمتنا من رغيفها وعلمتنا وربتنا وجعلتنا أكثر عقلا ، وأحيانا أخذتنا بقسوة كي نسلم على الحياة كما هي وليس كما نبنيها في تصوراتنا.في تلك الحقبة تمت إعادة هيكلة شاملة لوعينا ومدركاتنا بتأثير عبقرية المكان وخصائصه. وكلنا تقريبا تواطئنا على أنفسنا وأحيانا على مصالح كانت توجد في مكان أخر بيسر وبسهولة، على تمديد الإقامة فيها أكثر مما يحتاج الأمر، وبعضنا حسم أمر بقاءه هناك، إلى أن يأتي أمر الله.ولما غادرناها صارت جذرا للتذكر والحنين بما هي وطن أول ، وبما هي تجربة مستدامة في تأثيراتها وما تثيره من عواطف وألفة وذكريات.ولم نشاء أن نتوب أو أن نكف عن العودة إليها، حقيقة ما كان بوسع الطرقات أن تمتد بالخطوات، وأن نعود مجازا في كل حين.
*
في تجربة الناس الحقيقية مع الأمكنة تتكون عشرة وعادات وتأثيرات، وكل الأمكنة تنطوي على مزايا وعلى صعوبات،لكن الذاكرة المتشكلة تجعل من الأمكنة المألوفة بصعوباتها وكأنها رفيقة ، ينام الناس في كنفها مجازا وهم أمنين بما يكفي ، وتنام الأمكنة في وجدانهم مرتاحة الخاطر، وقدما مع العشرة والزمن ،تقوم تسوية يتراضى عليها الجميع: الناس والأمكنة والزمن والعواطف والخواطر وشاهد الأزمنة وغيبها. لقد كا لكل منا سردية الخاصة مع تونس وأسرارها. وأسرارها المتاحة لمن شاء التورط فيها، لا تتطلب الكثير، فقط أن تجتاز الظاهر فيها قليلا ، وأما عبقريتها فتتمثل في أن لديها قدرة على الترويض والتعليم وتربية الوعي والذائقة باللين وبالقسوة معا، تعلمك كيف تكون أكثر عقلا، وتعيد ترتيب الوعي والمدركات بصورة أخرى.
وفي تونس تجد تجليا قويا لقول محمود درويش الذي عاش فيها، وقال خطاب الوداع المهيب على مسامعها عام 1993:"هناك ما يكفي من اللاوعي كي نجرد الأشياء من تاريخها، وهناك ما يكفي من التاريخ كي نجرد اللاوعي من معراجه".
*
في لحظة مركبة تمر بها تونس، انقلب فيها حابل الأشياء ونابلها رأسا على عقب، تتاح لنا العودة إليها عبر الكتابة والكلام، فوق فرص الزيارة وعودات المجاز،من خلال جريدة الشروق التي كانت من بين أهم المنابر في أزمنة مضت، التي احتضنت تلمسنا للكتابة وتشكلنا ككتاب لا زلنا مبتدئين.
..ومن تخوم معاني تونس العميقة وقيم الإجماع التي شكلتها كبلاد وكحالة وكمجتمع،التي لا يفترض أن يختلف عليها أو بشأنها احد ، وإعادة إنتاجها كأمل وكحاجة وكضرورة،نعود لتونس- وان لم نولد من رحمها – بشغف وبرهان كأي واحد من أبناء معانيها.نعود إليها وتستعيدنا كما فعلت دائما، بكل السبل الممكنة وما استطعنا لذلك سبيلا.
*كاتب وأكاديمي من فلسطين