|
أحمد مناصرة: الطفل الذي ودّع طفولته مكبلاً
نشر بتاريخ: 16/04/2022 ( آخر تحديث: 16/04/2022 الساعة: 17:44 )
يعود أصل الحكاية إلى 12 تشرين الأول/أكتوبر 2015، بعد أيام قليلة من اندلاع "انتفاضة القدس"، حين أطلق جنود الاحتلال الإسرائيلي نيران أسلحتهم الرشاشة باتجاه الطفلين المقدسيين أحمد وحسن مناصرة في مستوطنة "بسغات زئيف" في القدس المحتلة، بحجة محاولتهما تنفيذ عملية طعن، من دون مراعاة لصغر سنّهما وبراءة طفولتهما، فأصيبا بجروح وتُركا ينزفان دماً في الشارع، من دون تقديم الرعاية الطبية اللازمة لهما، ثم تعرّض جسداهما لهجوم بشع من المستوطنين بـ"الدعس" والضرب المبرح والتنكيل والشتائم، على الرغم من معرفتهم بإصابة كلّ منهما بجروح بالغة الخطورة، فارتقى حسن شهيداً. أمّا أحمد، الذي لم يكن قد بلغ الرابعة عشرة من عمره، فأصيب إصابات بالغة، وتم اعتقاله واستجوابه، قبل أن يُنقل إلى المستشفى مكبلاً بالسلاسل، ليمكث هناك في العناية المركزة. ولكن، بعدها بفترة وجيزة، وقبل أن يتم شفاؤه بالكامل، تم نقله إلى مراكز التحقيق.
ومن هناك، من حفرة ما يسمى "مراكز التحقيق"، جاء فيديو "مش متذكّر". وهو مقطع سرّبه الاحتلال الإسرائيلي ويظهر فيه الطفل المقدسي أحمد مناصرة، يجيب عن أسئلة ضابط التحقيق ويصرخ: "مش متذكّر". كان مشهداً صادماً ومؤلماً للغاية، وواحداً من أبرز مشاهد "انتفاضة القدس" التي أرشفَتها الذاكرة الفلسطينية، وما زال عالقاً في أذهان كل مَن رأى وتابع الحدث، وسيبقى عنصراً مهماً في الذاكرة الجماعية للفلسطينيين، ولدى كل المدافعين عن حقوق الطفل والأحرار في العالم أجمع، حتى تحول أحمد إلى أيقونة الانتفاضة وصار معلماً للطفولة الفلسطينية المعذبة. في سنة 2015، اندلعت ما اصطلح الفلسطينيون على تسميتها "انتفاضة القدس"، أو "انتفاضة السكاكين"، والتي جاءت رداً على انتهاكات وجرائم الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه المتصاعدة تجاه المسجد الأقصى، وكان أبطالها أطفالاً. ومنذ اندلاعها، سعت سلطات الاحتلال جاهدةً لإخماد بذور المواجهة وإعادة بسط سيطرتها بالعنف وقوة السلاح، فصعّدت اعتداءاتها الوحشية وجرائم حربها ضد المدنيين الفلسطينيين، وبصورة خاصة في القدس، وهو ما أسفر عن سقوط المئات من الشهداء والجرحى، وارتفاع أعداد الأسرى والمعتقلين، ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً، بشكل لافت وكبير. ويأبى الفلسطينيون الذين تابعوا أحداثها وشاهدوا صورها الفظيعة، محو تلك التفاصيل من ذاكرتهم. بل حرصوا على توثيقها واستعادة مشاهدها المؤلمة بين الحين والآخر. وفيديو "مش متذكّر" كان واحداً من أبرز تلك المشاهد.
أظهر الحدث فظاعة الاستهداف الإسرائيلي المتصاعد للأطفال الفلسطينيين، وخصوصاً أطفال القدس، وبشاعة التعامل الإسرائيلي معهم. وكشف المقطع المرئي، وبصورة جلية وواضحة، ما يمارسه المحققون الإسرائيليون من ضغط وتعذيب نفسي بحق المعتقلين من الأطفال. كما عكس أجزاء من تفاصيل مروعة لِما تعرض له الطفل أحمد مناصرة الذي ما زال يعاني آثار الحدث وتداعيات الإصابة وتأثير الصدمات النفسية حتى الآن. حينها، كان أحمد طالباً في الصف الثامن في مدرسة الجيل الجديد في القدس، وفي عمر 13عاماً و9 أشهر، فهو من مواليد 22 كانون الثاني/يناير 2002، ومنذ ذلك الوقت، وهو أسير لدى الاحتلال الإسرائيلي، يكبر بين جدران السجن، وقد أصبح اليوم شاباً في عمر العشرين. ولا يزال أسيراً هناك خلف الشمس في زنزانة ضيقة في سجن "إيشل" في بئر السبع، في حالة صعبة جسدياً ونفسياً، يواجه بطش السجّان الإسرائيلي ويعاني جرّاء التعذيب والضغط والترهيب النفسي والحرمان من النوم والراحة والإهمال الطبي وسوء المعاملة والعزل الانفرادي، إلخ. بعد أن أصدرت محكمة الاحتلال المركزية في القدس في 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 بحقه حكماً بالسجن الفعلي لمدة 12 عاماً، وبعد أقل من عام، خُفّض الحكم، ليصبح 9 أعوام ونصف العام، بالإضافة إلى فرض غرامة مالية قدرها 180 ألف شيكل، وما يعادل قرابة ( 56000 دولار). إن حجم ما تعرّض له الطفل أحمد مناصرة على مدار قرابة سبعة أعوام مضت منذ اعتقاله، يفوق قدرته وقدرة أي طفل على التحمل. الأمر الذي تسبب له بالكثير من الأمراض والصدمات النفسية التي تركت تأثيرات في صحته النفسية، فبات يعاني، باستمرار، اضطرابات نفسية خطِرة تحتاج إلى علاج واحتضان، وليس إلى زنزانة وحرمان.
كانت عائلته، التي تقيم ببلدة بيت حنينا في القدس المحتلة، قد أصدرت، مؤخراً، بياناً قالت فيه: إن ابنها أحمد تعرّض لضرب مبرح أدى إلى كسر في الجمجمة وتسبب بورم دموي فيها، كما تعرّض لأقسى أنواع التعذيب الجسدي والترهيب النفسي واستخدام أسلوب التحقيق الطويل من دون توقف، والحرمان من النوم والراحة. وتعرّض أيضاً لضغوط نفسية كبيرة. ونتيجة التعذيب الجسدي والتنكيل النفسي، عانى أحمد، وما زال يعاني جرّاء صداع شديد وآلام مزمنة وحادة في الرأس تلازمه حتى اللحظة، من دون تقديم العلاج المناسب الكفيل بتخفيف آلامه، الأمر الذي أدى إلى ظهور اضطرابات نفسية لديه تفاقمت مع استمرار عزله الانفرادي وعدم السماح له بالاختلاط بباقي الأسرى، ليبقى وحده يحاكي نفسه، ويعاني ويتألم ويصرخ من دون حاضنة اجتماعية. وتابعت العائلة: وبعد جهود قانونية وحقوقية ومهنية حثيثة من أخصائيين نفسيين واجتماعيين، زارته أخصائية في الطب النفسي، وأفادت بأن أحمد يعاني اضطراباً نفسياً، وأن الأدوية التي يتناولها غير مناسبة وتزيد في تفاقم حالته النفسية، وأنه بحاجة إلى تشخيص مهني سليم ومعالجته بأدوية مناسبة وإنهاء عزله، وأن العلاج الأمثل له هو وجود حاضنة اجتماعية في غرف السجن، أو في الفضاء الخارجي، تساعده على تجاوُز الأزمة النفسية التي ساعد الاحتلال، بل عمل على تفاقمها بالعزل والعلاج غير المناسب والإفراط في تناول الأدوية المخدرة والمنومة. وأضافت عائلة مناصرة أنها حاولت مع الطاقم القانوني والطبي والنفسي والاجتماعي تنفيذ توصيات الأخصائية النفسية بعد زيارتها الوحيدة واليتيمة، لكن من دون أي استجابة من سلطات الاحتلال! وفي الثالث عشر من نيسان/أبريل الجاري، عقدت المحكمة المركزية الإسرائيلية في بئر السبع جلسة للنظر في الاستئناف المقدم من موكله لقرار لجنة الثلث الأولى التي رفضت طلب الإفراج المبكر عنه بعد قضائه ثلثي مدة محكوميته، وقررت المحكمة إبطال قرار لجنة الثلث الخاصة الذي اعتبر ملف مناصرة "إرهاباً"، وإعادة الملف مرة أُخرى إلى اللجنة للنظر فيه، كونها لم تستمع في المرة الأولى إلى الطاقم القانوني الموكل للدفاع عن أحمد مناصرة، وهو ما يفتح آفاقاً جديدة أمام محامي الدفاع ويجعل كل الاحتمالات ممكنة، لكننا نخشى أن تكون محاولة إسرائيلية ترمي إلى المماطلة والتسويف وذرّ الرماد في العيون. وفي الوقت الذي لا نعوّل على المحاكم الإسرائيلية، ولم نكن متفائلين بما يمكن أن يصدر عن تلك المحاكم من قرارات تفضي إلى الإفراج عن أحمد مناصرة، إلا أننا لا نقلل من أهمية استمرار الضغط وطرق أبواب القضاء الإسرائيلي، ولم نفقد الأمل بالجهود القانونية والإعلامية والشعبية التي من الممكن أن تؤثر، لاحقاً، في صناع القرار الإسرائيلي. وهو ما يدعونا إلى المناداة بأهمية مضاعفة الجهود المبذولة وتكثيف التفاعل مع الحملات المساندة لأطفال فلسطين.
أحمد مناصرة.. لم يكن الطفل الفلسطيني الأول الذي يتم تكبيل يديه واقتياده إلى السجن الإسرائيلي، فقد سبقه خمسون ألفاً من الأطفال الفلسطينيين. وكذلك هو ليس الطفل الفلسطيني الأخير الذي مرّ بتجربة الاعتقال وتعرّض للتعذيب على يد محققّي الاحتلال الإسرائيلي، فالإحصائيات الرسمية الفلسطينية تفيد بأن نحو تسعة آلاف طفل فلسطيني لحقوا به، قسراً، إلى السجون الإسرائيلية، وتعرضوا جميعهم للتعذيب الجسدي أو النفسي، أو الإيذاء المعنوي، وفقاً لما هو موثّق لدينا في هيئة الأسرى. بينما دأبت المحاكم العسكرية الإسرائيلية على تعمُّد إهمال النظر في الظروف التي انتُزعت فيها الاعترافات من الأطفال، ففرضت عليهم أحكاماً قاسية -في الغالب- وصلت أحياناً إلى السجن المؤبد (مدى الحياة). ونكاد نجزم هنا أن الأحكام الصادرة بحق الأطفال تكون دائماً مقرونة بفرض غرامة مالية باهظة. وعلى الرغم من تجريم اعتقال الأطفال وتعذيبهم ومحاكمتهم، فإن عمليات استهداف الأطفال الفلسطينيين واعتقالهم تبدو سياسة إسرائيلية ثابتة منذ بدايات الاحتلال الإسرائيلي، بهدف الانتقام منهم وتشويه واقعهم وتدمير مستقبلهم والتأثير في توجهاتهم المستقبلية بصورة سلبية، وكذلك ردع أبناء جيلهم ومَن يلحق بهم. بينما صعّدت سلطات الاحتلال استهدافها للأطفال، وبصورة خاصة المقدسيين منذ اندلاع "انتفاضة القدس" التي سُميت أيضاً "انتفاضة السكاكين"، ناقش الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) وأقرّ العديد من القوانين، بغية تسهيل إجراءات اعتقالهم ومحاكمتهم وتغليظ الأحكام الصادرة بحقهم، ظناً خاطئاً منه أنه يمكن أن يحفظ أمنه وسلامة مواطنيه ويحمي مستقبله من خطرهم ما بعد البلوغ. ومن أبرز تلك القوانين، بحسب ما جاء في وكالة وفا: "قانون محاكمة وسجن الأطفال من هم دون 14 عاماً، والذي أقرته الكنيست يوم 25 نوفمبر2015. وقانون رفع الأحكام بحق الأطفال راشقي الحجارة، وقد صادقت عليه الكنيست الإسرائيلية في القراءة الثالثة يوم 21 تموز2015 و ينص على إمكانية فرض عقوبة السجن لمدة عشر سنوات على راشقي الحجارة، دون إثبات نية إلحاق الضرر؛ حيث وصف القانون رشق الحجارة بالجريمة، وقسمها إلى مستويين: الحكم على راشقي الحجارة لمدة أقصاها 10 سنوات، دون الحاجة إلى إثبات نية القتل؛ والمستوى الثاني جريمة رشق الحجارة مع إثبات نية القتل، وعقوبتها القصوى عشرون عاماً. وصادقت الحكومة الإسرائيلية على القانون يوم 11 أكتوبر2015 ."[1] إن الحقيقة تفيد بأن الأطفال لا ينسون، وأن السنين لا تمحو الصور المؤلمة التي طُبعت في أذهانهم، وأن ما تقترفه دولة الاحتلال بحق أطفال فلسطين لم يحقق لها الأمن والسلام، ولن يحفظ مستقبلها من حقد دفين لدى الأطفال، ومؤجل الانفجار إلى حين البلوغ. وهذا لا يقود إلى أي نوع من السلام المنشود. وفي ضوء خشيتنا على واقع ومستقبل الطفولة الفلسطينية، فإننا نطالب المجتمع الدولي بتحمُّل المسؤولية، عبر الضغط على الاحتلال لوقف استهداف الأطفال الفلسطينيين، وإطلاق سراح المعتقلين منهم، واحترام حقوقهم، وتوفير الحماية الدولية لهم، بموجب الاتفاقيات الدولية، وبصورة خاصة اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، والإفراج الفوري عن الأسير أحمد مناصرة، الطفل الذي ودع طفولته مكبلاً بالأصفاد خلف القضبان، وشبّ في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
|