رمضان زمان.. وزامور قلقيلية
نشر بتاريخ: 20/04/2022 ( آخر تحديث: 20/04/2022 الساعة: 00:04 )
..وأتذكّر رمضان زمان، الذي لم يتبقَ منه شيء !
كانت أُمّي ، رحمها الله تعالى، وفور أن تضيء "النيون" الذي تم تركيبه في "العقد" حديثاً، نصحو من النوم ونطلّ برؤوسنا مثل الفِراخ .
كُنّا سبعة ننام تحت لحاف واحد في عقد حجري قديم، هو بيت ذو رواق أو "مسطبة أمامية"، وبجانبه عقد حجري آخر، لأبي وأُمّي ، وهو البيت ذو الأعمدة، أو الغرفة التي كانت تحتوي على خزانة بنيّة ثقيلة ذات بابين، ومكتبة احتلّت "الحامِل" أو ركسة الفِراش، برفوف خشبية سميكة.
كان علينا نحن الصغار، الذين لم يبلغوا الحُلم، أن يظلّو مخمودين تحت اللحاف ! ولا يحقّ لهم الالتحاق بالسحور، فهو للكبار الذين يصومون رمضان.
كنّا ننام متأخّرين، إذ نقضي ثلث الليل الأول في اللعب بالحارة، وكنّا أوّل ليلة في رمضان نحمل الفوانيس ونطوف على البيوت نبشّرهم بحلول الشهر الفضيل. ولمّا لم يتوفّر فانوس لكل واحد، كُنّا ننسج من أسلاك معدنية رفيعة ما يشبه الفانوس ونضع بداخله شمعة، أو كنا نقحف قلب البطيخة كله، ثم نُحدث فتحات في محيطها ونعلّقها بخيط ونضع في داخلها شمعة.. وندور.
كانت البيوت تعطينا "ملبّس" أو "حلقوم" أو حبّة مربّى "سكاكر".. ونادراً ما نقدنا أحدهم "تعريفة" أو "قرش" ..
كان بيتنا بمحاذاة مسجد السوق وسط البلدة مباشرة، فكنّا نستيقظ فور أن يبدأ الشيخ ب "التذكير" وقراءة القرآن الكريم أو ترتيل الأناشيد والأذكار الدينية..عدا عن أن عدداً من فتيان الحارة يدورون بالطبلة "المسحّراتي" يوقظون النائمين للسحور وصلاة الفجر.
وكنّا نستيقظ على صوت"البابور" حينما "تدكّ" أُمي فتحته الجانبية ليزداد اشتعالاً.
أو كنا نستيقظ على رائحة السحور من مقالٍ وألبانٍ .. وفَوْح الشاي بالميرمّية..
ولكن، لا يحقّ لنا أن نشارك الكبار السحور ! كُنّا ندّعي أننا سنصوم، ليفسحوا لنا المجال ..لكنهم يردّوننا خائبين..وفور أن ينتهوا من المائدة.. نهبّ على الصحون..
وعند الغروب، أو قبل الأفطار بقليل، كان أشقائي الكبار الصائمون يأمروننا لأن نبقى في الدكان. كان لأبي دكان تجاري على الشارع الرئيسي، هو بقالة وحبوب وتمور وسكاكر وشاي وقهوة وعِطارة..الخ..
كانت الشوارع تخلو من الجميع، ونسمع "الراديو" وهو يجيش عاطفةً بصوت "النقشبندي"، وهو يناجي ويبكي ويتوسّل السماء ! وعندما "يَزْمُرْ" يفطر أهل بلدنا.
*
الزامور:
منذ أكثر من سبعين عاماً، اعتاد أهالي مدينة قلقيلية على سماع صوت كصفارات الإنذار، تزامناً مع أذان المغرب في شهر رمضان المبارك، كمؤشر لحلول وقت الإفطار.
زامور رمضان أصبح شعيرة ثابتة من شعائر شهر رمضان لدى أهالي قلقيلية، ما ميزها عن المدن الفلسطينية الأخرى، وأصبح إرثاً يتغنّى به المواطنون، عبر سنوات طويلة.
يقول شيخٌ قلقيليّ "اعتدنا على سماع صوت الزامور منذ الصغر، وعندما أسمعه تعود بيّ الذاكرة لطفولتي مع أطفال الحارة قبل الخمسينيات ، ويضيف: كنا نفرح عند سماعه ونردّد: زمِّرها يا أبو ياسين بَجِبْلَك رطلين طحين.. وأحيانا أخرى نردّد: أزمرها يا أبو ياسين بدنا نوكل جوعانين .
أبو ياسين كان أول من تولّى مهمة تشغيل الزامور في قلقيلية، في حين اليوم يقوم بتشغيله موظف تابع للبلدية .
ويتابع؛ "في البداية مهمة الزامور لم تكن تنبيه الصائمين، فكانت الفكرة عام 1942، أن يذهب مواطن ويشتري زامور من مصر، لإطلاقه وتنبيه المجاهدين والثوار أثناء الاعتداءات اليهودية الصهيونية بالجوار، فيهرعون لتجهيز معداتهم والتصدي لهم. ويوضح: بعد النكبة تحول استخدام الزامور لتنبيه الصائمين بموعدي الإفطار والإمساك، في شهر رمضان المبارك.
وبعد توصيل المدينة بالكهرباء بداية الستينيات تم نقله فوق مئذنة المسجد القديم (مسجد عمر بن الخطاب)، وعلى مرّ السنوات كبرت المدينة وأصبح صوته لا يدوّي في جميع أنحاء المدينة، فتمّ نقله إلى مسجد السوق (مسجد علي بن أبي طالب)، ثم مسجد أبو بكر الصديق ثم إلى مشروع توليد الكهرباء في البلدية .
وبعد عمل مشروع توليد الكهرباء في قلقيلية تم تركيب موتور للزامور ليدار بقوة الكهرباء، وأصبح يعمل بمجرد الضغط على مفتاح الكهرباء من غرفة المؤذن أسفل المئذنة.
قصة استهداف الزامور ومنعه من قبل الاحتلال ما زالت حاضرة في ذاكرة المدينة، حيث تم منع تشغيل الزامور لمرات عدة، كما يقول رئيس بلدية قلقيلية الصديق د. هاشم المصري.
يشار إلى أن مدينة قلقيلية تنفرد بزامورها الرمضاني الذي يعتبره الأهالي إرثاً تاريخياً حضارياً عريقاً، وبديلاً لمدفع رمضان في بعض من محافظات الوطن .
.. وما أن ينتهي الكبار من إفطارهم حتى نطير لنتناول حصّتنا من الطعام، أو مما تبقّى منه !
كانت "شوربة العدس" قدراً يومياً، وبجانبها طبخة واحدة يتم سكبها في "دبْسِيّة" كبيرة، أشبه بِجاط معدني مدوّر ومسَطَّح، وقلّما توفّرت السَلَطات والمُقبِّلات. أما الحلوى، فكان الناس يشترون"العوّامة" أو ما يسموّنها الزلابية أو حبّة القاضي. وأحياناً يحصل الواحد منّا على قُرص "قطايف"، أو صحن صغير من "الشعيرية" التي كانوا يخلطونها بالسُّكّر وبقليلٍ من مبروش جوز الهند أو ببضع حبّات من الزبيب. أما "البحتيّة" رزّ مع حليب، أو "الحمرا والبيضة" نشا مع سُكّر مع معقود ربّ الخرّوب، فهي من حلويات ليالي رمضان.
كان الرجال، بعد التراويح في الجامع، يقصدون "الديوان" وهو مبنى للعشيرة، لأفراحها وأتراحها، يسهرون، مع الشاي والقهوة السّادة، وكنّا نتحلّق حولهم، يتناقشون ويتحاورون أو يلعبون"الخرُق" الفناجين المقلوبة، أو "الضاما".. وأحياناً يحضر "أبو عبدالله" الحكواتي الذي يتخّذ مسندين من القشّ مجلساً له، ويروح يقصّ حكايات الزّير وذات الهمّة وعنترة. كان هذا حتى العام 1967.
أما بعد نكسة حزيران، ومع مطلع السبعينيات بدأنا نتطاول وتخضرّ شواربنا.. ونصوم.
كان لدى دار عميّ، جيراننا مباشرة، تلفزيون أسود وأبيض، يفتحونه على قناة التلفزيون الأردني وكان صوته مرتفعاً، يُسْمِع الحارةَ بأكملها، ثم يرفع أذان المغرب، مع تواشيح دينية وأدعية..ثم يبدأ مسلسل غوّار الطوشة"صحّ النوم"..فنبقى أمامة إلى أن ينتهي البث على العاشرة ليلاً.
وقد تحوّل "بابور الكاز" وأصبح غاز بثلاث عيون، وصرنا ننام منفصلين، أو كل اثنين تحت غطاء واحد، ودخلت الحداثة، قليلاً، على المطبخ القلقيليّ، وازداد تنوّعاً ودسماً.
ورمضان اليوم حمل الأقمار الصناعية ،التي وفّرت لنا وسائل التواصل الافتراضي، وفضائيات ومحطات تبث على مدار الساعة، وفيها من البرامج ما لا يُحصى ولا يُعدّ .. ولكن دون طَعْم، أو نكهة، أو لذعة تبقى في الأصابع أو الروح.
*
وأحمدُ اللهَ تعالى أن"الحداثة" لم تصب أهل قلقيلية في مقتل الاستهلاك، فما زال الناس في البلدة على سجيّتهم وتلقائيتهم حتى اللحظة.
وعلى الرغم من أن الاحتلال وسور الفصل العنصري قد أتى على أكثر من تسعين بالمئة من أراضيها الزراعية، إلّا أن المواطنين ما زالوا يحرصون على تحويط ما تبقّى لهم من أراضٍ وأشجار، يراعونها لتبقى مُمرعة نضرة، تفيض بخيراتها.
وفي قلب كل مزرعة أو بيّارة تجد عريشةً، صارت أقرب إلى البيت الرّيفي المتواضع، يحتوي على الحصير والفِراش الأراضي، وبعض الكراسي البلاستيكية، وربما يضعون تلفازاً .. وثمة موقدة دائمة، مثل نار العرب الأُولى، لا تكاد تنطفيء، لطبْخ "القلّايات" والمشاريب الساخنة . وفي الشتاء تتعالى ألسنتها ونلتصق بها . أما عندما "يسرح" الأهل نساءً وأطفالاً، فإن الموقدة تتحوّل إلى ما يشبه كانون الشواء، أو وجاق يُنضج الطناجر والقدور.
وبالتأكيد، فإن هذه "الحياة" هي ما يدفعني، أسبوعياً، نحو قلقيلية.
..وما زلنا نجتمع منذ عصر يوم الجمعة حتى ما بعد منتصف الليل ، أما ليلة الجمعة أي مساء الخميس، فمنذ المغرب حتى مطلع الفجر.
نلتقي قرابة العشرين وأكثر، ويبدأ "الخال رشيد" بإعداد العَشاء على نارٍ هادئة، ثم، بالضرورة، يُحضِر العديد منّا، ماجادت به زوجته من "كعك" أو "حلويات" أو يجلب المكسرات والفاكهة .. ويكون الشاي المنعنع والمزعتر والزهورات .. فوّاحة طيلة الليل .
أُحسّ أن أبناء الأرياف لهم ذاكرة ريّانة، مختلفة! لهذا أُشْفِق على الأجيال الطالعة الجديدة التي كبرت في المدن الحجرية ، مثل رام اللّه ، فهم محشورون في أبنية أشبه بالعلب المغلقة .. لا يسوحون في الجبال والأودية ، ولم يخوضوا في الجداول، ولم يلاحقوا العصافير، ولم يناموا تحت المندلينا، ولم يعودوا مدبّغين بالرّمان أو يفوحون بالجوافا العسليّة، ولم يتحلّقوا حول المواقد ويستمرئوا طعوم الطبيعة الطازجة، ولم يتقافزوا حول أفعى، أو يهربوا من كلب ليليّ، ولم يسمعوا قصص الكبار وذكريات السنين الخوالي، ولم يتماهوا في دبكة أو يترنّحوا مع الحادي في السامر، ولم يستيقظوا صباحات الأعياد ليتناولوا إفطارهم المُعدّ المختلف، ولم يدوروا على الأخوال والخالات والعمّات ليلّموا العيديّة ، ولم يلعبوا على الحصى المسنّن وتنزّ أقدامهم الحافية بالدم المتخثّر ، ولم يعودوا من البيّارة في الشتاء وقد أدركتهم الغيمة الزاخرة،فامتلأوا ببخار المطر الساخن، وراحت قذلاتهم تنقط مثل أعراف الخيول، ولم يتعابثوا على التلال ويتراكضوا بين الصخور وحول القندول والبطم والسرّيس، ولم يتشاجروا على ما تبقّى في "السّدْر" من أرز وطبيخ، ولم يشدّوا الغطاء عليهم عند النوم ويبقى الآخر دون لحاف، ولم يتهاوش مع شقيقه لأنه لَبس قميصه الأثير، ولم يقف على ناصية الشارع، عند عودة البنات من المدرسة، ليغمز غزالاً نقع الجلّنارُ خدوده بالأرجوان، ولم يقطف "الزعمطوط" ولم يتذوّق "العكّوب" ولا يعرف طعم "المسلوعة" ، ولم يتسلّق الكينا والسّرو والصنوبر الدهري بحثاً عن الأعشاش، ولم يسقط فتنخلع كتفه ، ولم تأخذه أُمّه إلى" الشيخة" "لتخرّج" عنه، وتتمتم بالآيات الكريمة والأدعية على رأسه، ولم يتلمّظ بكأس"البرّاد" في الصيف أو بطعم "البليلة" في الشتاء، من عربة أمام المدرسة، ولا يذكر متى اشترى له أبوه أوّل "جرابات" أو "بيجامة" لأن لديه العديد منها ، ولم ينتظر فجر العيد ليرتدي القميص الجديد والسروال المغسول بلا رُقَع، ولم يذهب إلى السينما في المدينة القريبة ليشاهد المعجزة المُبهرة ، وأحياناً الأفلام التي توقظ رجولته المبكّرة، ولم يتشعلق جدران الجارة ، ليرى ابنتها الناهد وقد تخفّفت من ملابسها، ولم ينم في دار خالته بين أولادها .. ويختلقون سهرات وموائد وجلسات، ولم يكتب أوّل تأتآته على مجلّة الحائط في المدرسة، ولم يحرد ويغضب ويهدد بعدم الذهاب إلى المدرسة لأن أُمّه لم تُعطِه مصروفه اليومي"التعريفة" ، ولم يحصل إلا على تفاحة أو قرن موز.. عندما جاءهم ضيف أو سافرت أُمّه إلى المدينة، فأحضرت معها رطل فاكهة .. دون مناسبة، ولم يعْقص الجَمْرُ أصابعه وهو ينفخ لتتّقد النار أو وهو يقلّبها حتى تكون ، ولم يشارك في مواسم القطاف وأعراس الحقول ، ولم يشهد حفلة الحَمّام الأسبوعي ، هو وأخوته، في لَجَنٍ على البابور !
ولتسخين الماء قديماً، قصّة في بلادنا. كانت المرأة تضع القدْر أو اللّجن أو "قازان" التنك المليء بالماء على نار الحطب، ثم تطوّر الأمر وصارت النسوة يضعن لجن التنك "التنكة"على البابور، وثمة علبة أصغر حجماً من اللجن الكبير غالباً ما تكون علبة السمنة الفارغة ، تستخدمها النساء لتسخين الماء للوضوء او للاستنجاء أو لِ"قَرْص" الرأس أو لغسل اليدين في الشتاء ، ثم يتمّ تحويلها لسلق البيض ومعط ريش الدجاج والزغاليل.. وتبقى على هذه الحالة حتى تتثقّب وتتسرّب منها المياه ، فيتمّ تحويلها إلى أصيص "قوّار زريعة" ؛ وردة، شتلة نعنع، فلّه، أو زنبقة.. الخ.
وحينما يتهرّأ قاعها ويتآكل.. يتمّ تحويلها مدخنةً للصوبّة ، أو يتمّ وضعها على كومة الفحم ليزداد اشتعالاً وتوجهاً ، فوق كانون النار ..
إن الذاكرة التي يختزنها الصغار ستكون الآبار الجوفيّة التي سينهلون منها . أما الجيل الحالي في المدن الملفّقة ، التي هي تجمّعات وليس مجتمعات ، فإن ذاكرتهم ضحلة ومعدنيّة ودون خيال !