وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

عن الهوية والوطن والقدس

نشر بتاريخ: 06/05/2022 ( آخر تحديث: 06/05/2022 الساعة: 15:12 )
عن الهوية والوطن والقدس

نضال العيسة

في تاريخ القضية الفلسطينية الكثير من نقاط الالتقاء والأحداث الجامعة لشرائح المجتمع كافة. اكثر هذه النقاط ديمومة كانت ولازالت القدس. لا يحتاج الانسان إلى الكثير من الذكاء او حتى البحث التاريخي ليدرك ان قدسية المدينة واهميتها الدينية والتاريخية والرمزية كانت كافية لجعلها مركزا لأي صراع. في الاعوام الاخيرة، وخصوصا في مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية تبدلت او تقلصت او أختزلت مكانة العاصمة في رمزها الديني الأكبر بين الاغلبية الفلسطينية المسلمة وهو المسجد الأقصى وفي رمزها الديني الأكبر بين أبناء فلسطين المسيحيين أي كنيسة القيامة. في الخطاب الرسمي الفلسطيني وفي الخطاب المجتمعي الفلسطيني ارتبط اسم المدينة بقدسيتها وقللت من ارتباط هذا الخطاب بمكانة المدينة السياسية بل استبدلته لتحيد بذلك بعدا اساسيا من كينونة الصراع. فبعد ان كانت مؤسسات القدس العامة و الخاصة والوطنية قائدة الفكر والوعي السياسي والثقافي الفلسطيني تم تعويض هذا الدور وتقزيمه في جانب واحد. وبعد أن كانت القدس هي مركز الحياة السياسية و التجارية والعاصمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى أصبحت فقط موقعا دينيا على أهمية البعد الديني.

لعل الأسباب لهذا التحول التدريجي تكون واضحة للبعض ولكن ليكون الحوار على عينك يا تاجر فلنذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر:

أولاً الشارع الفلسطيني يفتقد للقوة الجامعة. مثلا - وبدون اسهاب في عرض الحالة- في الانتفاضة الأولى لعبت القوى الوطنية وخصوصا الحزبية منها دورا في تنظيم و تنسيق العمل الوطنية خصوصا الدور اللذي لعبته القيادة الوطنية الموحدة. كانت اللجنة حزبية سياسية علمانية في شكلها وتكوينها وخطابها وحتى في معظم مفرداتها. وكانت تساهم ليس فقط في قيادة احداث الانتفاضة بل كانت تساهم ايضا بالشراكة مع النخبة الفكرية والادبية الفلسطينية في تشكيل الوعي الفلسطيني السياسي ليكون اوسع من نطاق واحد بل شاملا لجوانب الصراع كافة وجوانب الهوية كافة (بما فيها الديني) ولادماج الفلسطينيين كافة. أما اليوم فقليلة هي الأمور التي يجمع عليها الفلسطينييون العاديون وقادتهم على حد سواء. وفي نفس السياق، فإن من طبيعة البشر ان يميلوا ليكونوا جزأ من مجموعة تضمهم وان يحددوا هويتهم الإجتماعية بناء على انتمائهم لعدد من المجموعات بل وان يعرفوا حدود هذه المجموعة بتعريف من لا ينتمي اليها. وفي سياقنا الفلسطيني فإن التعريف الديني – على اهميته الروحية والثقافية- طغا على التعريفات الاخرى.

بالإضافة الى ذلك فكان لتواجد قوى الإسلام السياسي الداخلية والخارجية اثر السحر على هذا التحول. بداية هذه القوة المدعومة من دول الخليج العربي او من تركيا أو حتى من رؤؤس الأموال الفلسطينية المتدينة مسيسة كانت او غير ذالك، محزبة كانت او غير ذالك، تمتلك القدرة على التصرف في مصادر مالية لم يستطع العمل الوطني غير المتديين واليساري منه على وجه الخصوص مجاراتها. كما أن انتصار قوة الإسلام السياسي في الانتخابات الفلسطينية في عام ٢٠٠٦ دفع القوى الفلسطينية العلمانية وعلى رأسها حركة فتح لإعتناق خطاب ديني لرأب الصدع بين شعبيتها بالمقارنة مع حماس. وبذلك تعلمت هذه القوى الدرس الخاطئ من الانتخابات. حيث فشلت هذه القوى بسبب تعثر فكرها التحرري وانفصالها عن الجمهور ورأي الناخب الفلسطيني السلبي تجاه السلطة الفلسطينية من جانب، وبسبب مشاريع القوى الإسلامية القاعدية الناجحة وتجربتها المسلحة في الانتفاضة الثانية التي عبرت عن امكانياتها لتصبح مكوناً من الجسد السياسي الفلسطيني المعاصر من جانب اخر.

وكذالك فإن نتائج ١١ سبتمبر طويلة الامد التي زادت التشرذم الطائفي في المجتمع العربي وصبغت الكثير من جوانب الحوار السياسي بصبغة دينية طائفية هيأت الفرصة لمن يريد استغلال ذلك من أجل تحقيق أهداف سياسية.

ولعل اكثر العوامل تأثيرا و اقلها ذكرا هو تقزيم الهوية الفلسطينية. ولا أعني هنا جعلها اقل قدرا من الهوية العربية او الدينية(بالأخص الإسلامية ) بل أعني اختصار معنى ان تكون فلسطينيا في مكان عبادتك. فعندما نسأل نفسنا ما معنى ان تكون فلسطينيا تكون الإجابة أكثر تعقيدا من الإجابة عن معنى ان تكون مسلما او مسيحيا. فنحن قليلا ما ننقاش على المستوى الفكري القضية والثقافة والتفاصيل التي تجمعنا باستقلالية عن الدين. هذا الغياب للنقاش والخطاب عن هذه الصفات والرموز والقضايا وليس غيابها او عدم وجودها جعل من الضروري تعويضها بأكثر الرموز سهولة.

من الواضح هنا أن الخطاب الفلسطيني يفتقد للكثير وخصوصا للتنوع والإبداع –أن جاز التعبير- في إيجاد الرموز وعرضها اواعادتها الى الواجهة. ومن الوضح أيضا خطورة هذا الاختزال للقدس وللقضية حيث أنه أقصى مشاركة شرائح المجتمع التي ترى في الدين جزءا من هويتها لا كلها. كما أن هذه العملية طبعت التعدي علي قيمة القدس غير الدينية، فأصبح الحدث الوحيد الذي يلهب وجدان الفلسطيني مرتبطه بموقع ديني.

فلسطين والقدس فكرة ومكانا يجب أن تكون أوسع من أهميتها الدينية. من غير ذلك لن نستطع أن نحرر ولا أن نبني اذا حررنا.