|
الموضوع الفلسطيني: في مسيرة الأدب الروسي
نشر بتاريخ: 10/06/2022 ( آخر تحديث: 10/06/2022 الساعة: 16:56 )
جهاد أحمد صالح في عهد الإمبراطور "بطرس الأكبر"، رمت روسيا إلى بسط نفوذها في الأماكن المقدسة كوسيلة أساسية لتنفيذ سياستها الدينية في حماية الأرثوذكسية ببلاد الدولة العثمانية، وكانت هذه السياسة الدينية وسيلة القياصرة إلى إثارة الشعوب البلقانية، والدعوة إلى تحريرها من ربقة الأتراك المسلمين، وتحقيق الوحدة السلافية، كذلك أصبحت هذه السياسة وسيلة للتوسع الروسي على حساب الدولة العثمانية، ليس في أوروبا السلافية فحسب، وإنما في بلاد تركيا الآسيوية كذلك، وبالأخص في فلسطين، وحقوق الأرثوذكس في الأماكن المقدسة. وظلّ الروس يتحيّنون الفرص لتوسيع تدخلهم في شؤون الدولة العثمانية عن طريق الكنيسة الأرثوذكسية في القدس، والتي كانت أرفع مرتبة من بقية الكنائس لأنها تمثل ما يقارب عشرة ملايين من الرعايا الأرثوذكس في البلاد العثمانية. وقد استغلّ الروس تلك الفرصة كي يقضوا على نفوذ فرنسا في الشرق، واحتالوا على الباب العالي، وأصدر السلطان أمراً بتدوين جميع حقوق الأرثوذكس في الأماكن المقدسة بسجلات محاكم المدينة، فهدد السفير الفرنسي بإلقاء الحصار على (الدردنيل) إذا نزلت الدولة عند إرادة الروس، ولكن الدولة العثمانية تجاهلت الإنذار، وأذعنت للمطالب الروسية. ونظراً لازدياد التنافس بين الكنائس والإرساليات التبشيرية "شاطر المجمع الروسي المقدّس المجمعين الإنطاكي والأورشليمي (القدس) مخاوفهما من اهتمام اللاتين بنصارى الشرق. فأوفد في 24 حزيران 1842 "الأرشمندريت يوريفيري أوسبينسكي إلى القدس لدراسة الموقف عن كثب (وكان واحداً من الأوائل، في تاريخ العلم، الذين وجهوا اهتمامهم إلى مصادر الآثار التاريخية المتعلقة بالآداب المسيحية العربية)، وقام "أوسبينسكي" بالمهمة الموكلة إليه خير قيام، وعاد في العام 1844، فأشار على المجمع الروسي بوجوب التدخل الفعلي، واقترح إرسال أسقف روسي إلى القدس، وعدد من الرهبان المثقفين للإقامة فيها، وإعطاء المثل الصالح في الحياة الرهبانية الحقة، ونقل الكتب الدينية وغيرها إلى العربية، وتوزيعها في الأوساط الأرثوذكسية المحلية. وراح يطالب الحكومة بتأسيس بعثة تبشيرية رسمية، وأكد على ضرورة إقامة قنصلية لروسيا في المنطقة. فقبل المجمع، وكذلك الحكومة، اقتراحات "أوسبينسكي" وأمره بتنفيذها، وفي العام 1847 عاد إلى فلسطين، كأول رئيس للبعثة التبشيرية الروسية. وفي سبيل تحقيق سياستها في بلاد الشام، والأماكن المقدسة "أخذت روسيا القيصرية في عهد إسكندر الأول تدفع بالحجاج الروس أفواجاً إلى الأراضي المقدّسة، وتُكثر من إرسال العطايا إلى البطريركية الأرثوذكسية للروم في القدس، وتقوم على تشجيع طائفة الأرثوذكس الوطنيين من أبناء البلاد في صراعهم المعروف ضد البطريرك اليوناني، كما تقوم بتشجيع بطاركة اليونان الأرثوذكس للانفصال عن كنيسة القسطنطينية، وتأسيس بطريركية مستقلة، حتى أصبحت طائفة الأرثوذكس كلّها في بلاد الدولة العثمانية، والأماكن المقدسة بصفة خاصة، تتجه بقلوبها نحو زعامة كنيسة موسكو، وحمايتها من اللاتين الكاثوليك، والحماية الفرنسية، ونشأ عن ذلك أن انتقل بطريرك الأرثوذكس في عهد "نيكولا الأول" إلى القدس بعد أن كانت القسطنطينية مقراً له. ومن هنا نلاحظ أن الحكومة الروسية أرادات من وراء هذه السياسة (الدينية) التوفيق بين أهدافها السياسية (التوسيعية) ومبررات تحقيق هذه الأهداف، سواء في مواجهة الإمبراطوريات الأوروبية الأخرى، وعدم إثارة حساسياتها، أم في تجنيد الأرثوذكس عموماً داخل روسيا وخارجها لتحقيق هذه الأهداف السياسية، بحجة الواجب الديني تجاه حماية الأرثوذكس في الأماكن المقدسة. وهكذا "اتفق هذا التخطيط الذي ألقى على عاتق روسيا القيام بدور حماية الأرثوذكس وحقوقهم، والانتقام لسقوط القسطنطينية، وانهيار كنيستها من الأتراك العثمانيين، وقد اتفق مع السياسة الزمنية لبطرس الأكبر في القرن الثامن عشر، بوصول روسيا إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط، والقبض على مضيقي الدردنيل والبسفور، وبمعنى أصح: إن السياسة الدينية والعسكرية والسلافية التي اتبعتها روسيا تجاه الدولة العثمانية لم تهدف في مضمونها إلى غير هدف سياسي أساسي، هو الإبقاء على الدولة العثمانية ضعيفة خائرة القوى تحت رحمة روسيا القيصرية، بقصد هضمها رويداً رويداً دون التعرّض لمنافسة الدول الأخرى، التي تريد الإبقاء عليها في وجه التوسع الروسي، ولهذا وجب على روسيا أن تكون دائماً على أهبة الاستعداد إذا حدث وانهارت الدولة العثمانية فجأة أمام دسائس إنجلترا وفرنسا في الأستانة. ونتيجة لذلك، فقد بدأ الصراع على أشدّه بين الإمبراطوريات الروسية والإنجليزية والفرنسية (والألمانية فيما بعد) في الأماكن المقدسة خصوصاً، وبلاد الشام عموماً، تحت شعار حماية المسيحيين في المناطق الخاضعة للدولة العثمانية المسلمة، فالروس أصبحوا حماة الطائفة الأرثوذكسية، والفرنسيون حماة الكاثوليك، والإنجليز حماة البروتستانت. وقد اعترفت الدولة العثمانية بهذه الحمايات، ضمن معاهدات متعددة كان يحدد الدور الأكبر فيها لكل طائفة، وبالتالي لكل إمبراطورية تحميها، ميزان القوى على أرضية الصراع، سواء بين الإمبراطوريات الأوروبية مع الدولة العثمانية أم صراع الإمبراطوريات الأوروبية فيما بينها. أما روسيا فكما أسلفنا فإنها كانت تشجع العرب من أبناء الطائفة الأرثوذكسية ضد البطريرك اليوناني وهيئة أساقفته، فقد شعر الروس بوجود روابط أخوّة وتعاطف بينهم وبين الأرثوذكس في سوريا وفلسطين، خاصة العرب منهم، إذ اعتقد الروس أن هؤلاء يقاسون الأمرين في ظل هيئة فاسدة من الأساقفة اليونانيين تستبدّ بهم وتضطهدهم". وتنفيذاً لهذه الغاية قررت تشكيل إرسالية روسية في القدس في العام 1847م. (وهذا التاريخ هو بداية التواجد الروسي الرسمي في فلسطين). ففي العام 1857 أرسلت الحكومة الروسية بعثة من المختصين، للإقامة في القدس وتقوي روح الأرثوذكس المقيمين فيها، وأقامت الإنشاءات والمباني للإرساليات والحجاج الروس. وفي العام 1858 أنشأت روسيا أول قنصلية لها في القدس. وتجدر الإشارة إلى أنه كان يطلق على الإرسالية الروسية (الجمعية الروسية لفلسطين) ويبدو أن الحكومة الروسية قد شعرت بأهمية هذه التسمية، فقامت بتأسيس جمعية في عاصمة روسيا بطرسبوغ. "وفي العام 1882 أطلق عليها اسم الجمعية الروسية الفلسطينية. لقد تميّزت مرحلة الصراع الأولى بين الإمبراطوريات المختلفة فوق الأراضي المقدسة (باسم الحماية الدينية) باتساع أملاك الكنائس المسيحية، وتعدد الغايات من هذه الأملاك. فمنذ العقد الرابع من القرن التاسع عشر، أخذت أملاك الكنائس في التوسع، وكان التنافس الروسي – الفرنسي – الإنجليزي من عوامل ذلك التوسع، إلاّ أن الكنيسة الأرثوذكسية ظلّت الأولى من حيث سعة أملاكها، وذلك لوجود أملاك قديمة تابعة لها، ولكثرة ما قدّم لها الروس من الدعم المادي، وقد كان للكنيسة الأرثوذكسية ستمائة وواحد وثلاثون عقاراً (في عهد الإدارة العسكرية البريطانية) مختلفة الأحجام داخل سور القدس، ومنها محلات تجارية وفنادق، كما كان لها أرض واسعة، وثمينة بجوار المدينة، وأملاك في يافا وفي مدن أخرى، ولها أرض زراعية خاصة بها في البريج. نتوقف هنا، لنشير إلى أن ما قدمناه يتطلب عرضاً مفصلاً لمراحل التطور التاريخي بين الشرق والغرب، على كافة المستويات: الدينية والسياسية والاقتصادية (ليست هذه الدراسة مجالها) ولكي نكون قد تناولنا الأدبيات الروسية إلى فلسطين والأماكن المقدسة في سياقه التاريخي، لا بد من إلقاء نظرة سريعة على تطور الرحلة الأوروبية إلى فلسطين وبلاد الشام، ومكانة الرحلة الروسية في خريطتها، خاصة أن هذه الرحلة هي الجذر الفعلي المتقدّم الذي انبثقت عنه فكرة الاستشراق الروسي بكل تداعياتها الروحية والثقافية والسياسية... بحسب المراحل الزمنية وما حملته من سمات، انعكست على أهداف الفكرة واتساعها، دون إسقاط الدوافع الشخصية الصرفة لأولئك الرحّالة وعمق ثقافتهم، والتي سجّلها الأدب الروسي المكتوب، وبقيت مرجعاً مهماً لأجيال الباحثين والدارسين. في علم الاستشراق والأدب المقارن، في ناحيتين مهمتين: الأولى: المؤثرات الحضارية العربية والإسلامية في الأدب الروسي. الثانية: في الرحلة الروسية ومكانتها في خريطة الرحلة الأوروبية إلى فلسطين والأماكن المقدسة. المؤثرات الحضارية العربية والإسلامية في الأدب الروسي تعدّ رواية "قصة السنوات الغابرة" من أقدم الأدبيات الروسية المكتوبة التي صدرت في روسيا حوالي 1113م، وفيها نتعرف "على قصة الأمير "فلاديمير" الذي اعتلى الحكم في روسيا في العام 980م، واعتنق الإسلام ثم ارتد عنه إلى المسيحية، التي صارت فيما بعد ديانة رسمية لروسيا". ويؤكد المؤرخ الأدبي الكبير د. ليخاتشوف" أن الحاكم فلاديمير اعتنق الديانة المسيحية فقط لأن الإمبراطور قد وافق على تزويج ابنته لفلاديمير بشرط واحد هو تعميد فلاديمير". إذن فالإسلام وقرآنه ونبيه شكلّا ينبوعاً خصباً للإلهام في روسيا. أما المعرفة الواسعة للشرق فترتبط بالقرن الثامن عشر، وبالصراع السياسي بين روسيا وتركيا حول مناطق النفوذ، وارتبطت بميلاد الاستشراق في بطرسبرغ في العام 1724م، حيث استمر تحقيق هذا الحلم مع بداية القرن التاسع عشر في العام 1804م، حين افتتح عهداً جديداً في حركة الاستشراق في روسيا. ويؤكد المستشرق الروسي "كراتشكوفسكي" على أن "القرآن الكريم" و "ألف ليلة وليلة" كانا الأثرين الكبيرين الوحيدين اللذين أمكن لأجدانا في القرن الثامن عشر التعرّف عليهما بالكامل". ظهرت أول ترجمة روسية كاملة للقرآن الكريم في العام 1716م في عهد بطرس الأكبر، وتتابعت ترجماته وازدهار طباعته في نهاية القرن التاسع عشر التي تعد من أكثر الفترات ثراء بالأبحاث المخصصة للإسلام والقرآن، وظهرت في روسيا ثماني مدن تستعمل الحروف العربية في الطباعة. أما "ألف ليلة وليلة" فقد تعرّفت عليها روسيا مترجمة عن الفرنسية (في اثني عشر جزءاً) في العام 1763م، وتوالت طباعتها مترجمة عن لغات لأخرى، من بينها العربية. ويؤكد "كراتشكوفسكي" أن "ألف ليلة وليلة" و "القصص الشرقية" كانت "أكثر الضروب الأدبية المحببة في أدبنا الروسي في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وقد ارتبط ذلك بموقع روسيا، فهي جارة الشرق والغرب معاً. فالثقافة الروسية قد نمت على السهول المتسعة المجاورة للشرق والغرب في الشمال والجنوب، ووجود شعوب شرقية في عداد روسيا، وقد صارت هذه الشعوب جزءاً لا يتجزأ من تاريخها، فلم يكن من قبيل الصدفة أن يكون عند صانعي الشعر الروسي وقارئيه استعداد نفسي كبير لفهم الشرق والغرب، لا كنمطين متعارضين؛ بل كوحدة واحدة. هكذا، ساهمت عدّة اتجاهات – بدرجات متفاوتة – في استقبال الثقافة الروسية العناصر العربية، التي اكتنزت على امتداد قرون، ووجدت تربة خصبة للتفاعل مع الثقافة الروسية بين نهاية القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، مما أذن بحدوث الأدب المقارن "التأثير والتأثر" الذي وجد أصدق تعبيراً له في فترة ازدهار الحركة الرومانتيكية التي تأثرت بشكل كبير بالشرق. في هذا المجال يقول الشاعر الروسي الكبير "الكسندر بوشكين": هناك عاملان كان لهما تأثير حاسم على روح الشعر الأوروبي هما: "غزو العرب والحروب الصليبية، فقد أوحى العرب إلى الشعر بالنشوة الروحية ورقّة الحب، والولع بالرائع والبلاغة الفخمة للشرق، وأكسبه الفرسان الشهامة وبساطة الروح ومفاهيم البطولة وحرية الشعوب... هكذا كانت البداية الرقيقة للشعر الرومانتيكي". ولا تزال "الرومانتيكية" تثير جدلاً حول تفسير مفهومها وحدودها الزمنية. ويرى بعض النقاد الروس أن منابع الحركة الرومانتيكية في الشرق العربي: "إن أول شعب كان لديه شعر رومانتيكي كان بلا شك العرب أو المغاربة"، فاتجه الرومانتيكيون الأوروبيون إلى الشرق، بدافع التحرر من التقاليد الكلاسيكية التي كانت تعلي نموذج أدب الإغريق واللاتين... وهو ما أشار إليه "فكتور هوجو" في مقدمة مجموعة قصائده "موتيفات شرقية" حين كتب يقول: "في قرن لويس الرابع عشر كنا هيلينيين، أما الآن فقد بتنا مستشرقين". وما أشار إليه أيضاً "هيجل" مؤكداً أن "الإيرانيين والعرب الذين يتسمون بفخامة الصور الشرقية والعنان الفريد (للفنتازيا) يقدمون نموذجاً للشعر الرومانتيكي". غير أن مهمة استلهام الشرق في نتاج الأدباء الروس لا تقف عند حد تمثل العالم "المثالي" الشرقي؛ بل تتعدى ذلك فتشمل مهمة تجسيد المُثُل والآمال القومية التي عبروا عنها من خلال استلهام العنصر الشرقي أي: تاريخ الشرق، وتراثه الروحي ورموزه وأساطيره، وهو العنصر الذي أمكن من خلاله تجسيد الأهداف القومية، والمُثُل العليا الذاتية، والتعبير عن الرفض للواقع". إن التعرّف إلى العلاقة الوثيقة بين الشرق والرومانتيكية الروسية يمكن بلوغه بصورة أكمل من خلال التحليل النصّي للعناصر الشرقية المختلفة في المؤلفات الروسية، وتحليل العناصر الشرقية العربية في إنتاج: بوشكين، ليرمونتوف، تولستوي، أكثر أدباء روسيا حباً للشرق العربي وتأثراً به حضارياً وتراثياً وروحياً. يعدّ "الموضوع الشرقي" في إنتاج بوشكين من الموضوعات الرائدة في إنتاجه، فمن الصعب تسمية كاتب روسي آخر كان اهتمامه الإبداعي بالشرق ثابتاً متنوعاً على هذا النحو.... ولا يبرز اهتمام بوشكين بالشرق العربي من فراغ أو كنتيجة لشطحات الخيال الإبداعية؛ بل تأتي كثمرة لقراءاته المتعمّقة في تاريخ الشرق العربي وحضارته وآثاره الأدبية وقرآنه، فضلاً عن الجذور الشرقية الإسلامية التي ربطت بين الشاعر بوشكين والشرق الإسلامي. ومن بين مؤلفاته المتأثرة بالشرق العربي يمكن الإشارة إلى محاور أساسية تمثّل الأركان الرئيسة في بناء "الموضوع العربي" في إنتاجه: "روسلان ولودميلا" و "القصائد العاطفية الغزلية"، "نافورة باختشي سراي" و "قبسات من القرآن". أما "ميخائيل ليرمنتوف" الذي يعد من أشهر شعراء روسيا، ويحتل مكانة تالية لبوشكين. وانجذابه تجاه الشرق العربي الإسلامي لم يكن فقط مظهراً من مظاهر الانبهار بالقدم؛ بل كانت وراء ذلك أسباب موضوعية عديدة، فمن جهة استشعر ليرمنتوف في القيم الدينية للشرق العربي الإسلامي معيناً روحياً وملاذاً لنفسه التي كانت تعيش تناقضاً بينها وبين الواقع... فاستلهم من القرآن صوراً، وموضوعات لإنتاجه، تلتقي بمعطيات واقعه... فخرجت بذلك تحمل في طياتها مغازي وطنية وأخلاقية. من جهة أخرى وعلى الرغم من انبهار خيال ليرمنتوف بالملامح العربية المميزة، فقد تبلور اهتمامه بحضارة الشرق العربي في نظرة موضوعية لمشكلاته المعاصرة، فأعطى في إنتاجه صورتين متقاطعتين للشرق العربي: الشرق العربي كمركز للإشعاع الحضاري، والشرق العربي الحديث الذي أصابه التأخر وبات مطمعاً للمستعمرين، وانعكس من خلال ذلك قلق الشاعر على مصير الشرق. أما أديب روسيا الكبير "ل.تولستوي" كأحد أعظم مشاهير الأدب العالمي الذين نالوا حب الملايين وتقديرهم، فقد تطرّق في فكره إلى العديد من القضايا الإنسانية العامة والخاصة. أيقن تولستوي منذ بداية طريقه الأدبية الأهمية الفريدة التي يحتلها التراث الروحي للشرق، فأقبل في نهم على دراسة فكره وفلسفاته التي كان يبحث فيها بشكل خاص عن مفهوم المفكرين لمغزى الحياة، فتبوّأ الإسلام مكانة مرموقة بين الأديان التي أقبل على دراستها. استحوذت معاني القرآن الكريم على اهتمام تولستوي، كما استأثرت أحاديث الرسول بحبه وعنايته، سيّما وأنه وجد فيها صدى للكثير من أفكاره التي كان يؤمن بها ويدعو إليها. ويتصدّر كتاب تولستوي عن الإسلام كتيّب بعنوان "أحاديث مأثورة لمحمد" وهو كتاب في ثلاث وثلاثين صفحة، صدر في العام 1910، ويجمع بين دفتيه أحاديث للرسول، انتقاها تولستوي بنفسه، وأشرف على ترجمتها إلى الروسية، ومراجعتها والتقديم لها بعناية فائقة، وبعد خمس سنوات من صدوره، ترجمها إلى اللغة العربية الفلسطيني "سليم قبعين" أحد خريجي المدارس الروسية في فلسطين. أما الأفكار الفلسفية التي توقف عندها تولستوي عن الإسلام وأحاديث الرسول فهي: أحاديث الإنسان والعمل، والقناعة والزهد، والعدالة، والمحبة والتكافل الاجتماعي، والسماحة في الإسلام، والمرأة الصالحة، والمذهب الصوفي، وحضارة الشرق وفن من أجل الطفل. وقد استفاد من هذه الفلسفة إلى أبعد الحدود في إنتاجه الأدبي بأسماء وروايات مختلفة. نتوقف هنا لنشير إلى أن حفظ الثقافة العربية في توجهات الكتّاب الروس، والشغف بمتابعتها في مختلف منابعها، ظلّ يتعاظم في كتابات الرحالة الروس عن الشرق العربي وفلسطين، وهذا ما يقودنا إلى متابعة هذه الرحلات وما كتب عنها. الرحلة الروسية إلى فلسطين وتشمل الذين كتبوا مؤلفات ودراسات عن رحلتهم وهم: رحلة الأسقف دانييل بالومنيك (1106-1108)، ومكث فيها ستة عشر شهراً وطبع كتاب "الرحلات" في بطرسبورغ في العام 1113، وطبع بعدها عدّة مرات. رحلة القدسية القديسة "أيو فروزين" (1162-1172)، زارت فلسطين، وتوفيت فيها ودفنت في مدينة القدس، وهي الأميرة الروسية من أصول أرستقراطية نبيلة، ويرجع نسبها إلى الأمير "فلاديمير" صاحب الدور المهم في تحويل روسيا الوثنية إلى المسيحية، وقد صيغت رحلتها بواسطة أحد المرافقين لها. رحلة الرحالة الروسي "فاسيلي" (1465-1466)، وقد استمرت ثمانية أشهر، وكتب عن المدن التي زارها في سوريا وفلسطين ووادي النيل. رحلة الحاج "أرسيتي سوخانوف" نشر انطباعات حول رحلته وأحضر إلى روسيا مجموعة من الدراسات عن الشرق والمخطوطات المهمة. رحلة الرحالة الأوكراني "فاسيلي بارسكي" إلى الشرق، وقد استمرت رحلته عشرين سنة (1724-1744) وتضمّنت ملاحظاته وكتاباته ومائه وسبعة وثلاثين رسماً بريشة، تجد فيها تصويراً مثيراً للمدن التي زارها، ساعده في ذلك أنه يتقن اللغة العربية، وطبعت مدوناته في الصحف، إلى أن طبعت بعد أربعين سنة بعنوان "رحلات بارسكي" جرى طبعها ست مرات متتالية. رحلة الكاتب والمؤرخ الروسي الشهير "أفرام نوروف" حيث قام في العام 1835 برحلة إلى الشرق. ووضع كتاباً في جزأين تحت عنوان "رحلة إلى الأراضي المقدسة" الذي صدر في بطرسبورغ في العام 1844م. بالإضافة إلى العديد من المقالات التي شغلت مكانة عالية في الأدب الروسي، وترجمت إلى لغات أوروبية مختلفة، وكان "نوروف" عضواً في أكاديمية العلوم الروسية وأصبح وزيراً للتعليم الشعبي. ونظراً لنجاح هذه الرحلة، فقد قام برحلة ثانية في العام 1861م إلى الشرق، زار خلالها الإسكندرية وسيناء والقدس واللد ويافا، وتعرّف شخصياً على "محمد علي" والي مصر. رحلة القنصل "قسطنطين بازيلي" خريج المدرسة الأوكرانية في معهد "ليسيه ريشيليه" في أوديسا، وأصبح مساهماً في حلقة غوغول الأدبية، وظهرت كتبه الأدبية في الفترة 1831-1836. وعيّن في العام 1838 في منصب أول قنصل روسي في مدينة يافا، وبدأ يجمع المعلومات والدراسات لمؤلفه الرئيس "سوريا وفلسطين تحت الحكم العثماني" الذي أنجزه في أواسط العام 1847م، لكنه لم يتمكن من نشره إلاّ في العام 1962م، وكانت الرقابة الروسية قد منعته لأسباب دبلوماسية، وكان الأديب والروائي غوغول قد اطّلع على مخطوط الكتاب فقال: "كتب بازيلي شيئاً مدهشاً بعنوان "سوريا وفلسطين" سيظهر لأوروبا بشكله الحقيقي، وهو ينطوي على معارف لا نهاية لعمقها، ويثير اهتماماً شديداً". رحلة المستشرق الروسي الأرشمندريت "ياريفيري أوسبينسكي" أحد الروّاد الأوائل في تاريخ العلم الروسي الذين وجهت اهتمامها إلى مصادر الآثار التاريخية المتعلقة بالآداب المسيحية العربية، وكانت أول زيارة قام بها إلى فلسطين في العام 1843، وراح يطالب بتأسيس بعثة تبشيرية دينية في فلسطين أصبح رئيسها في العام 1858. وقد وضع لنفسه ومعاونيه خطط العمل في ثلاث اتجاهات: تعريب الكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين، وجمع الكتب والدراسات والمخطوطات المتعلقة بفلسطين، وتأسيس جمعية روسية تهتم بذلك، وقد تضمن كتابه الذي وضعه في العام 1896 تحت عنوان: "كتاب عن حياتي" في هذه الاتجاهات الثلاثة. إضافة إلى ذلك تبقى هناك مأثرة علمية لا تقلّ أهمية، وهي إسهامه في كشف ودراسة محتويات مكتبة "دير سيناء" الذي أصبح محجاً لعلماء المعمورة لما يحويه من كتب ودراسات ومخطوطات نادرة حول الشرق. رحلة العقيد "نيقولاي أدليربيرغ" قام برحلتين إلى الشرق وفلسطين، الأولى في العام 1846م زار خلالها اليونان ومصر وفلسطين، والثانية في العام 1861 زار خلالها مصر ولبنان وسوريا والقسطنطينية. وقد وضع "أدليربيرغ" مدوناته ونتائج مشاهداته بعد زيارته الأولى في كتاب "من روما إلى فلسطين" صدر في بطرسبورغ في العام 1856م، كرّس فيه بعض الفصول عن فلسطين قدّم فيها معلومات قيمة، ودراسة وافية عن معالم المدن الحضارية وأبنيتها فاعتبرت رحلته ذات قيمة انتوغرافية للدارسين والباحثين عن تاريخ فلسطين في ذلك العهد. في العام 1848م، قام الكاتب والروائي الروسي العظيم "نيقولاي غوغول" صاحب الأعمال الأدبية الخالدة: "الأرواح الميتة" و "المفتش" و "تراس بولبا" برحلة خالدة إلى فلسطين، تركت في نفسه انطباعات مؤثرة، انعكست على كتاباته اللاحقة، خاصة الجزء الثاني من مؤلفه "الأرواح الميتة" الذي قام بحرقه بنفسه. وأرسل من فلسطين أربع رسائل إلى أصدقائه: رسالة إلى صديقه قسطنطينوفسكي، وإلى صديقه لاماتفيه، وإلى صديقه الشاعر جوكوفسكي، وإلى صديقته "ناديجدا نيقولا يفنا". وكانت مراسلاته مع الأصدقاء مشبعة بالروح المسيحية الأرثوذكسية، ومليئة بالنفحات الإيمانية بما يشبه التوبة عما مضى، خاصة عندما كتب عن القدس مدينة المسيح، الأمر الذي أثار أصدقاءه التقدميين، فتعرّض لحملة واسعة النطاق من قبلهم، فهاجموه في الصحافة والكتابة... ورغم كل ذلك، كتب غوغول مقالة رائعة في وصف فلسطين ضمّنها مشاهداته وانطباعاته فيها، ودافع فيها عن المسيح. بين العامين 1849- 1850 قام الشاعر والناقد "بيوتر فيازيمسكي" صديق الشاعر الروسي الكبير "بوشكين" برحلة إلى الشرق وفلسطين، سجّل خلالها انطباعاته ومشاهداته، ذاكراً بعض الحوادث التي حصلت في فلسطين في تلك المرحلة من بينها: تأييده لحملة "إبراهيم باشا" الذي كرّس الهدوء والأمان في فلسطين. توقف عند قسوة الإنجليز في تعاملهم مع العرب وتعاليهم عليهم. وصف حالة الفقر السائدة، وصفاً متعاطفاً. تجوّل في مدن: يافا والقدس وبيت لحم واللد والرملة، وعبّر عن حزنه لعدم تمكنه من زيارة الناصرة، تجدر الإشارة إلى أن أهمية هذه الزيارة كانت ملهمة لكتابة عدد من القصائد الجميلة التي استوحاها من طبيعة فلسطين، وقدسية أراضيها، وطيبة أهلها. رحلة الباحث "ديمتري سميشلايف" الذي قام برحلتين إلى الشرق وفلسطين، الأولى في العام 1861 زار خلالها الإسكندرية والقاهرة والقدس. والثانية في نهاية العام 1864 زار خلالها الإسكندرية وسيناء ويافا والقدس واللد والرملة. وقد نشر انطباعاته ومشاهداته في المجلات، ثم جمعها في كتابين، الأول أسماه "في الطريق إلى سيناء" والثاني أسماه "سيناء وفلسطين". وقد تميّزت كتاباته بعمقها التاريخي، خاصة عندما كتب عن تاريخ القدس ويافا، مؤكداً طابعها الكنعاني. رحلة الكاتب والشاعر الأوكراني "أ.ي. كريمسكي" الذي تخرّج في جامعة موسكو، حيث رحل إلى سوريا بعد تخرّجه مباشرة، وأقام فيها سنتين، واطّلع على المخطوطات العربية، وبعد عودته إلى روسيا عيّن أستاذاً للعربية وآدابها في كلية "لازاريف". وللغة العربية في "جامعة قازان" (1898-1918) وبعد ثورة أكتوبر الاشتراكية ترأس الدراسات العربية في جامعة "خاركوف". وكان من العلماء الروس القلائل الذين طالبوا بفصل السياسة عن الدين والثقافة، بمناهج التعليم في مدارس الجمعية الروسية – الفلسطينية، ووضع الكثير من الكتب في مختلف الاختصاصات. وتجدر الإشارة إلى أن أحد مؤلفاته المهمة وضعه بالتعاون مع العالم الفلسطيني "بندلي الجوزي" بعنوان "فقرات من البهائية". في العام 1887 قام الكاتب الروسي "أ.كوبتيف" برحلة إلى الشرق (القسطنطينية، القاهرة، القدس)، وتبنّت الجمعية الروسية إصدار هذا الكتاب بعنوان "مذكرات عن الرحلة إلى القسطنطينية والقاهرة والقدس)، فعن فلسطين كتب عن: يافا والقدس ونابلس والناصرة وجنين والبحر الميت وبحيرة طبريا، وقد تميّزت انطباعاته بأمرين: الأول، تعاطفه الكبير مع العرب في مواجهة الغطرسة الأجنبية. والثاني، إظهار روح التسامح والود التي تربط بين أبناء الطوائف المسيحية والمسلمين في فلسطين. وفي صباح 18 أكتوبر 1889 وصل الكاتب والصحفي الروسي المشهور "سوفورين" إلى شواطئ يافا، مبتدأ رحلته التاريخية إلى فلسطين، والتي نتج عنها أن وضع كتاباً ضخماً بعنوان "فلسطين" صدر في بطرسبورغ في العام 1898م، يحوي الكثير من الخرائط والصور، وتزيّنه اللوحات الفنية، من أعمال الرسامين "أ.ليفشينكو" و "ف. نانوزاف" اللذين استوحيا لوحاتهما من خلال زيارتهما فلسطين، واللذين يزدان متحف "الأرميتاج" بلوحاتهما حتى يومنا هذا. ولقد تناول سوفورين مختلف جوانب الحياة الفلسطينية التاريخية والحاضرة، بدأ كتاباته بأصل الفلسطينين ومروراً بحياتهم الحاضرة من الصناعة والزراعة حتى العادات وملابس النصراويات (نسبة إلى الناصرة). وقد ناقش في كتابه مسألتين: الأولى: تطوير أوضاع المدارس الروسية في فلسطين. الثانية: التنبيه إلى النشاطات الاستعمارية لبريطانيا وألمانيا في فلسطين. رحلة الشخصية الروسية البارزة، والأكثر تحمساً لموضوعه الاستشراق الروسي "فاسيلي خيتروفو" الذي قام بعدّة زيارات إلى فلسطين خلال القرن التاسع عشر، فكتب في أحد مؤلفاته "أسبوع في فلسطين"، وقد كرّس جهده خلال زياراته في اتجاهين: الأول: جمع المصادر والمعارف عن فلسطين ونشرها في مقالات وكتب. الثاني: الاتصال بأصدقائه العلماء، وموظفي الدولة الكبار، المهتمين بشؤون الشرق والبلاد المقدسة لإنشاء جمعية روسية فلسطينية. وكانت دراساته ومقالاته ونشره "البيبليوغرافيا" الروسية لجميع الأعمال حول فلسطين، المترجمة والروسية، أحد الدوافع التي جعلت القيصر الروسي يوافق على إقامة الجمعية الروسية الفلسطينية. وتقديراً لجهوده العظيمة، فقد أطلق اسمه "ف.ن.خيتروفو" على معهد المعلمين الذي أنشأته الجمعية في مدينة الناصرة. يعدّ الأكاديمي "أغناطيوس كراتشكوفسكي" (1883-1951) أحد مؤسسي الاتجاهات العديدة في الاستعراب الروسي، فهو: الذي وضع موضوع تعليم الأدب العربي المعاصر ضمن البرامج التعليمية في مدارس الجمعية الروسية – الفلسطينية، وفيما بعد في الكليات الشرقية في جامعات الاتحاد السوفياتي. نال وساماً ذهبياً (في العام 1905) على دراسته في رسالته عن: إدارة الخليفة المهدي"، شغل منصب رئيس الجمعية الروسية – الفلسطينية فترة طويلة من الزمن. أوفدته وزارة المعارف الروسية إلى الشرق، لتعلّم اللغة العربية العامية، فطاف في سوريا ولبنان وفلسطين ومصر، فتعرّف على أدباء وعلماء خزائن الكتب العربية: المكتبة الشرقية ببيروت، والظاهرية بدمشق، والمارونية بحلب، والخالدية بالقدس، والخديوية بالقاهرة، وجمع من هذه الخزائن معلومات وافرة، وطبعت مقالاته ومؤلفاته على صفحات "المجموعة الفلسطينية". أما آثاره المنشورة، فقد بلغت الأربعمائة وخمسين أثراً، بين مصنف ومترجم، وبين مفسّر ومنقود ورسالة، جاءت باللغات الروسية والفرنسية والألمانية والعربية، جميعها تخصصت في الأدب والتاريخ والحضارة العربية، ويمكننا القول إن كتابات "كراتشكوفسكي" قد تمحورت في ثلاث اتجاهات: تاريخ الشعر العربي ونقده منذ أقدم العصور إلى اليوم. الأدب العربي لدى الأدباء النصارى. الأدب العربي منذ بدء النهضة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر. ومن أعماله المشهورة عالمياً، نذكر: الأدب الجغرافي العربي، والشعر العربي، والأدب العربي في القرن العشرين، وابن المعتز، وفصول في تاريخ الاستعراب الروسي، ومع المخطوطات العربية، وهذا الأخير الذي صدر في العام 1945 نال عليه الكثير من الجوائز، وترجم إلى العديد من اللغات العالمية. وحول قبره، في مقبرة "فولكوفو" في لينينغراد (بطرسبورغ) كتب بخط عربي برونزي، شطر بيت من شعر "أبي العتاهية" هو: "الموت باب وكل الناس داخله" |