|
الطريدة
نشر بتاريخ: 17/06/2022 ( آخر تحديث: 17/06/2022 الساعة: 01:47 )
كتب الناطق الإعلامي باسم الشرطة العقيد لؤي ارزيقات .
طفل يصرخ هنا وآخر يتضور جوعاً وثالث غلبه النعاس ويحاول النوم هُنيهات على يدي أمه المرهقة تعباً بعد أيام من التنقل بين القرى والبلدات والجبال والصخور، ووصولها إلى تلك الأرض الجرداء بعد رحيلها من منزلها الواسع الرحب واستقرارها في زاوية ذاك الشارع المعتم المخيف، تفترش الأرض وتلتحف السماء وعين تنام وأخرى تحرس أطفالها من عقرب غادر أو أفعى قد تقترب منهم أو حيوان قد يخيفهم، يغلبها النعاس تارة وتفيق تارات لتبعد الخطر عنهم وتنظر إلى ذاك الطريق الطويل الذي قادها إلى هذا المكان المظلم تنتظر وصول زوجها الذي لا تعرف عن مكان وجوده شيئاً، متمسكة بالأمل وبدعواتها لله عز وجل بان يعيده إليها ليساعدها في حماية أطفالهم الثلاثة ومواجهة المصائب التي حلت عليها منذ أيام بعد تلك الحماقة التي ارتكبها احد أقاربهم فحولت حياتها الرغيدة لحياة الشقاء والتعب والتنقل والخوف والهرب من مكان لآخر، عندما اقبل ذاك المستهتر على قتل شخص في قريته بعد أن اختلف أطفالهم دون أن يراعي نتائج فعلته، فتُحرق البيوت، وتُشرد النساء والأطفال دون ذنب يرتكبوه سوى أنهم يحملون نفس اسم العائلة … الأم التي حل بها الحزن في لحظات تصفن وتسكت ويشرد بالها قليلا ثم تبكي بكاءً شديدا كلما تذكرت لحظات الرعب والخوف التي عاشتها بين الحياة والموت عندما اقترب عشرات الأشخاص لا تعرف منهم أحدا وبدأوا بإطلاق النار على منزلها وتكسيره وإشعال النار فيه، دون سابق إنذار ودون علمها أو معرفتها بما يجري، ولو لا عناية الله ثم تدخل بعض العقلاء الذين ساهموا في هروبها لكانت هي وأطفالها في عداد الموتى، وهذا ما كان يجبر صوابها على ما حل بها هي وأطفالها . ولكنها وبعد طول انتظار في تلك الزاوية المخيفة الخالية من مقومات الحياة والتي اجبرها الخوف على صغارها والأمل بلقاء زوجها على البقاء فيه لعدة أيام، تأكل من قِثّاء الأرض وعشبها وشجرها وحشائشها، ولكنها وبعد فقدانها للأمل بطول الانتظار أيقنت انه لن يأتي فانطلقت تكمل مسيرتها وهي مرتجفة خائفة تلتفت يمينا ويسارا لتتجنب لحظة تخشاها وتغلق التفكير بهذه اللحظة التي تخيلت بأنها قد تخسر فيها احدهم ...أخيرا سلّمت أمرها لله عز وجل وبدأت تشق طريقها من سفوح الجبال شديدة الانحدار التي تعلوها الصخور الشاهقة ومن الوديان والسهول التي تكسوها الأشواك المؤذية لتستقر بها الدنيا في قرية صغيرة، لا تعرف فيها أحدا ولا يعرفها احد ولا يعلم بقصتها أي منهم .
لكن قدرها قادها وكأن السماء تستغيث لتضرعها وابتهالاتها لله عز وجل لرجل قدير شيخ طاعن في السن ليعطف عليها ويمنحها بيتاً تعيش فيه وأطفالها الثلاثة لتختفي عن أنظار من يلاحقها ...وبعد عدة أيام من استقرارها في القرية، تبدأ بالبحث عن عمل لتعتاش هي وأطفالها لان عزة نفسها لا تسمح لها بقبول الصدقة، فتجد هذا العمل المناسب لتجد أبنائها مميزين في مستقرهم الجديد، وبدأت تجمع القرش والأخر من جهدها وتعبها وكدها في الليل والنهار فتعمل في الحقول تارة وفي المنازل تارة أخرى، وتضع نصب عينيها بأنها يجب أن تكون مميزة في جهد حياتها وثمرة عمرها وقررت الاستثمار في أطفالها الثلاثة وهم ما تبقى لها في هذه الدنيا وتصمم على تربيتهم التربية الأفضل، وتعلمهم التعليم المميز والمفيد ...وتمر الأيام والسنين ويكبر الأبناء وتتهالك الأم تعباً ويختفي جمالها وتكاثرت تجاعيد وجهها التي بانت فيه ملامحها ولكنها صابرة وبقيت قادرة على تقديم ما تستطيع منتظرة الفرحة بتخرجهم، فكان الأكبر فيهم قد أنهى دراسة الطب، والثاني تخرج من قسم الهندسة، والثالث يدرس الفيزياء، وقد قطعوا على أنفسهم وعوداً لامهم بتعويضها عن كل نقطة عرق سالت منها وعن كل جهد بذلته مما أشعرها بان نهاية تعبها وخوفها وإرهاقها على مر السنين والليالي الطويلة المعتمة تقترب يوما بعد يوم، وان حملها الثقيل سيحمله أبناؤها ولا سيما الكبير منهم والذي تتوقع له شهرة كبيرة في مجال الطب وخاصة انه أوشك على إنهاء تخصصه في جراحة الأعصاب والدماغ ...الأم الطريدة أنستها السنين الطويلة وحب الناس في القرية لها ولأبنائها، وتعب الحياة وكدها وانشغالها في متابعة أبنائها أنستها تلك الواقعة الأليمة في حياتها، ولم تفكر بالسؤال عما جرى وخاصة أنها لم تصل لمعلومة واحدة عن زوجها وأهله أو أنها في قرارة نفسها اتخذت قراراً بأنها لن تسال حرصا على أبنائها ولكي لا توقعهم في مصيبة الدم وويلات الثأر على ما اقترفه احد أقاربهم ..الساعات تقترب والأم تتحضر لاستقبال ابنها الطبيب، والقرية جميعها ستشاركهم هذه الفرحة بعد تلك الحياة التي اندمجت بها العائلة ذات الأخلاق العالية بأهلها وبعاداتهم وتقاليدهم وشاركوا في مناسباتهم، فجاءت اللحظة التي ستقف القرية كلها لتفرح بفرح الأم وتزينت شوارع وطرقات القرية بالأضواء وحبال الزينة والأم لبست الجديد وشعرت بفرحة غامرة غابت عنها منذ أن وقعت مصيبتها، وتوجهت للمنصة التي أقامها أهل القرية للاحتفال بطبيبها وقرة عينها، وبدأت باستقبال التهاني مع اقتراب الموعد الذي ستحتضن ابنها الطبيب وما هي إلا لحظات وتسمع الأصوات تتعالي بأنه قد وصل، ونزل من سيارته وعيناه تبحثان عن أمه الصابرة ليحضنها، ويبدأ بالهرولة متناسياً كل من حوله وقبل وصوله بأمتار قليليه وإذا برصاصة غادرة تنطلق من يد حاقد ظل يترقب هذا الوقت بالذات ليقتل أنسانا بريئاً لم يكن حين ارتكاب الجريمة إلا طفلاً صغيراً، لا يعرف من الدنيا إلا أمه وطعامه فتستقر الرصاصة في دماغه لينهي علمه وحياته وحلم والدته، ويعيد لها الحزن واليأس وعتمة الحياة وظلمها، فيقتل طبيباً كاد أن ينقذ الآلاف من الناس، في هزلية اسمها الثأر ويحرم الأم من فرحتها في قطف ثمار تعبها وجهدها وصبرها لتعود طريدة مرة أخرى، ولكن طريدة الحزن والحسرة ومر الحياة وفقدان فلذة الكبد وعدم الرغبة بالحياة . |