نشر بتاريخ: 21/06/2022 ( آخر تحديث: 21/06/2022 الساعة: 09:17 )
عاصف، واستثنائي، وغير عادي، كان تأبين شيرين في ذكراها الأربعين أمس الأول، تماما مثل رحيلها المفاجئ ، والصادم، الذي ما زالت ارتداداته تتدحرج بتحقيقات تؤكد ما كان يقينا منذ اللحظة الأولى لإعدامها؛ بأن جنود الاحتلال هم من غيبوا شاهدة الإثبات، وعين الحقيقة، برصاصة خارقة للدروع، ليتسنى لهم ارتكاب جريمتهم التي كانت مبيتة ضد أهلنا في جنين، في العتمة.
فكلمات الرثاء العادية لا تليق بالصحافية والإنسانة والراوية والحكاءة الوطنية، فصاحبة المسيرة المحفوفة بالمخاطر تحتاج إلى كتابة استثنائية وتأبين عاصف، يشبه تقاريرها التي أعدتها تحت أزيز الرصاص، وقصف المدافع، وهدير الدبابات، تأبين يشبه جنازتها المهيبة، وقصصها الانسانية التي حاكتها بصوتها ذي البصمة المتفردة؛ في هدوئه، وحزمه، وحزنه، على أوجاع الضحايا، وعذاباتهم، في القرى والبلدات والمخيمات والخرب؛ التي زارتها وارتبطت بصداقات مع سكانها.
عندما طلبت مني الأخت والصديقة د. أمال حمد وزيرة شؤون المرأة أن أتولى إدارة حفل التأبين في ذكرى الأربعين لإعدام شيرين، لم أتردد في قبول الطلب تقديراّ وتكريماّ للراحلة التي شاركتني وعدد من الزميلات والزملاء، متعهم الله بموفور الصحة والعافية، بتقديم برنامج "فلسطين صباح الخير" الذي كان لي شرف تقديمه في بواكير العمل الإذاعي، قبل أن ادعو الزميلات والزملاء دانييلا خلف، وشيرين أبو عاقلة، وريم أبو غزالة، وسحر منير، وعاصف حميدي، وسحر الترتير، لمشاركتي تقديم البرنامج الصباحي اليومي والتعاقب عليه، الذي كنا نطل من خلاله على أوجاع الناس وهمومهم، وأفراحهم وأتراحهم ، أحزانهم وأشجانهم، حتى بات البرنامج مقصد المحتاجين، وموئل المكروبين، وبريد الصامتين، إلى الوزراء والمسؤولين، كما أحرص على متابعته هذه الأيام والاستماع إلى إشارته الباقية منذ انطلاقته على أثير صوت فلسطين الذي يحرص الزملاء والزميلات مقدمو البرنامج على التواصل معي لمساعدتهم في حل بعض القضايا مع الزملاء في الوزارات والمؤسسات.
كانت شيرين تحب عملها حد العبادة، كما جميع الزميلات والزملاء الذين عملوا في البرنامج الأكثر شهرة وتأثيراّ في فلسطين، وكانت تسارع في الاستجابة لأسئلة المستمعين بنقلها مباشرة إلى الوزراء والمسؤولين، والحصول على الردود، إذ لم يكن المسؤولون يتوانوا في الرد على هاتف البرنامج وأسئلته الصعبة، حتى نال احترامهم بقدر ما أثار تحسبهم من نقده لأي تقصير، أو إهمال لقضايا الناس وحقوقهم.
شكل الغياب المفاجئ لشيرين صدمة لي، ولجميع زميلاتها، وزملائها في الإذاعة، حتى اننا عندما التقينا في بيت العزاء كان الوجوم يفترش الوجوه، وظلت العيون تغالب دمعها، وتسأل بألم من التالي بعدها؟ ذلك لأنه لم يكن يخطر على بالي، كما جميع زميلات وزملاء شيرين، ولا استقر يوماّ في وجداني، انني سأقف يوماّ هذا الموقف لوداع زميلة ظلت وفية لصداقتها، بنقاء سريرتها، ونبل أخلاقها ، وحسن أدائها، فرغم انشغالنا في العمل اليومي المرهق، كانت المناسبات تجمعنا لتتجاذب أطراف الحنين، ونستذكر بواكير الشغف رغم الشظف؛ من قلة المال، وتواضع الحال الذي كنا عليه في انطلاقة صوت فلسطين، وصورتها تحت شجرة نخيل على ضفاف النهر، وشجرة برتقال حزين على شاطئ البحر، ذات صيف قائظ من أيام تموز عام أربعة وتسعين من القرن الماضي.
فكان صعباّ علي أن أقف مؤبناّ صديقة كانت بكامل عافيتها، وذروة عطائها وتألقها، قبل أن تغيب عن مسرح الحياة بسرعة رصاصة خارقة للدروع؛ تاركة ألماّ عميقاّ، وحزناّ دفيناّ، في قلب كل من عرفها من زميلاتها وزملائها، ومشاهديها الذين طالما استضافوها في بيوتهم، حتى أصبحت واحدة منهم، تشبههم، ويشبهونها في فرحهم، وحزنهم، وألمهم، وأملهم، مثلما يشبهونها في ابتسامتها المضيافة، التي كانت تملأ وجهها، عندما تستقبلهم، وتحتفي بحضورهم وثنائهم على حسن أدائها وسحر إطلالتها.
بعد انتهاء التأبين، التقيت الزملاء وليد، والياس، وجيفارا، وغيرهم من أصدقاء وصديقات الراحلة الإنسانة ، وكأن وجع الفقد لم يبرح القلوب المكلومة، رغم مرور الأربعين، كان سؤالي لوليد مَن من الصحافيين والصحافيات الذي بوسعه أن يملأ الفراغ الذي تركته شيرين صاحبة الحضور الوارف، والهدوء الطافح، واللغة التي تتفرد بسكها كعملة نادرة، كأنها قطعة موسيقية تظل عالقة في الأذن كأغنية، لا يمل السامع من تكرارها.
فبين ولادتها المهنية البهيجة تحت شجرة نخيل تساقط رطباّ جنياّ على ضفاف النهر المقدس عام 94 من القرن الماضي، قبل ان تنتقل إلى قناة الجزيرة مالئة الدنيا وشاغلة الناس عام 97، وبين والغياب المفاجئ الصادم والحزين، تحت شجرة تظللها وهي منكفئة على وجهها في مخيم جنين، تنهض أسئلة، وتنبض ذكريات، هي مزيج بين الأبيض والأسود، من سيرة صحافية وإنسانة وحكاءة من طراز فريد، مارست السحر الحلال؛ سحر البيان، وطلاقة اللسان، بخطاب يلامس القلب، ويستقر في الوجدان، ويدخل الأفئدة كما يدخل الناس إلى المساجد والكنائس من دون استئذان.
فثمة فيض من الذكريات، الشخصية والوطنية، يكتنزها أرشيف أيقونة الإعلام، ما يجعلنا أمام تجربة مهنية وإنسانية شديدة الثراء والعطاء، تروي تاريخ وطن ما زال ينشد شعبه العظيم بلوغ قيم الحق والعدل والحرية التي دفعت الراحلة الكبيرة حياتها في سبيل بلوغها. كلماتها أقوى من الرصاصة التي قتلتها... ودمها سينتصر على سيف قاتلها!!
في التأبين الحاشد الذي أفردت له قناة فلسطين مساحة واسعة لنقله مثلما أفردت شبكة الجزيرة مساحة له على قنواتها، كان لافتاّ حضور كل مكونات الدولة ممثلة بممثل عن سيادة الرئيس، وحضور رئيس الوزراء، وتاكيدهم أن لا تراجع عن محاسبة الجناة، مجددين الرفض القاطع لتمكين الجاني من المشاركة في التحقيق بمقتل ضحيته.
وكان لافتاّ أيضا تكريم الشهيدة وقناة الجزيرة بلوحة تحتشد بكل المعاني والدلالات مهداة من الفنان الأسير جمال الهندي الذي وجد في الفن ملاذاّ وتسرية عن القلوب المتعبة من قسوة الأسر وتطاول الأيام خلف ستائر العتمة، وكذلك تكريم المرأة للشهيدة بدرع من الوزارة التي حشدت كل المتطلبات التي تليق بنجاح حفل التأبين ليكون لائقاّ بمن سارت على حواف الخطر، ونذرت نفسها لخدمة شعبها ووطنها، كما كان تكريم الشاب الشهم ابن مخيم جنين شريف العزب والشهيدة غفران وراسنة وجميع الشهداء من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال يعكس قدراّ عالياّ من الوفاء والتقدير لشهداء الصحافة بأعتبارهم فرسان الحقيقة وضمير الأمة.
فسلام عليك يا شيرين في ذكرى الأربعين لرحيلك المفاجئ والصادم والمؤلم والحزين.
سلام على الراحلين من قبل ومن بعد من النساء والشباب والكهول والأطفال الذين لم يحصد اليأس من عزيمتهم شيئاّ، بل حصدوا باستشهادهم خرافة أن الفلسطيني طفل يولد وليس له وطن وأنه يفقد ذاكرته إذ يكبر، وأن الكبار يموتون والصغار ينسون.
سلام على الأطفال عودة وزيد وثائر وغيث ومحمد وشادي ويامن والرضيعة سارة ومحمد ونادر وسند وقصي وشوكت وحنان ومحمد واحمد ومعتصم وأمجد، والشهداء نبيل سليم وبراء لحلوح ويوسف صلاح وليث ابو سرور والصحافية غفران، وجميع الأسماء الحسنى التي اغتيلت برصاص الحقد والكراهية والطغيان.
سلام عليك يا شيرين وقد اخترت المسير حباّ وطواعية، جهراّ وعلانية، في طريق الآلام، في مهنة البحث عن المتاعب مع المنخرطين في المهمات الصعبة واللاعبين على حواف الخطر.
سلام عليك أيتها الراهبة المتعبدة في محراب الصحافة، يا لسان المعذبين وصوت الموجوعين وترانيم المؤمنين وأحلام السائرين على درب الجلجة الطويل.
سلام عليك وأنت تنالين كل هذا الحب والتقدير والإعجاب، وتخلبين العقول والألباب في الحضور وفي الغياب.
سلام عليك وأنت توقعين اسمك في خواتيم القصص والتقارير التي ترصد عذابات شعبك العظيم من رفح إلى جنين، ومن مسافر يطا حتى رحيلك الأخير.
سلام عليك وأنت ترفعين علم فلسطين ليعانق المجد على ذرى سارية أو يلامس الغيم على أجنحة طائرة مسيرة.
سلام عليك يا صاحبة الابتسامة المضيافة التي كانت تملأ وجهك، وأنت تنشغلين بحرارة السؤال كيف الصحة وكيف الحال عندما تلتقين بالأهل والأصدقاء والمحبين .. سلام عليك أيتها الصديقة الرقيقة الفراشة الرشيقة الأنيقة الحكاءة الصادقة الواثقة الموثوقة.
سلام عليك وأنت تحاصرين الجناة المجرمين، وتكشفين رطانة السياسيين، وتفضحين ازدواجية المعايير، ودعاة الحق والعدل وحرية الراي والتعبير.
سلام عليك وأنت تضعين بين قوسين كل قرارات ومواثيق الشرعية الدولية الممنوعة من الصرف منذ أربعة وسبعين عاماّ في فلسطين وتم إعرابها بجرة قلم عندما تعلق الأمر بالأوكرانيين.
سلام عليك وأنت ترافعين من مرقدك عن كل شهداء فلسطين بعد أن تحول إعدامك العلني إلى سؤال دولي كبير، واحتلت صورك عناوين الأخبار ومانشيتات الصحف لدى العالمين، وقرعت لك الأجراس في الكنائس، وأقيمت على روحك صلاة الغائب في المساجد.
سلام عليك وأنت تنهضين والناس نيام وتجولين بين المشردين على أنقاض البيوت المهدمة وأمام أصحاب المنازل المهددة بالتهجير تحت الخيام.
سلام عليك وقد بكتك الملايين وشيعتك كل حارات وشوارع فلسطين، حتى بات الكون كل الكون سرادق عزاء كبير.
سلام عليك يوم تزاحمت الأقدام وتدافعت الأكتاف تحت التابوت لنيل نصيبها من لسع سياط الحاقدين وهراوات الطارئين على أرض البرتقال الحزين.
سلام عليك وأنت تربكين حسابات المجرمين، وتردين كيد الكائدين، وتفضحين فبركات المزورين وأحقاد العنصريين التلموديين الذين صرخوا شامتين "ماتت ماتت شيرين".
سلام عليك أيتها الشاهدة والشهيدة، يا من كنت تتحرين دقة الاخبار حتى أصبحت أنت خبراّ عاجلاّ مفجعاّ يتحرى زملاؤك دقته ولا يريدون تصديقه، قبل أن تبتل الشاشات بالدموع وتختنق العبارات على وقع انهمار العبرات.
سلام عليك يا شيرين يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعثين.