هل نحن على أبواب هبة/ انتفاضة شاملة ؟
نشر بتاريخ: 16/08/2022 ( آخر تحديث: 16/08/2022 الساعة: 10:42 )
وقفة عاجلة أمام أسباب اندلاع الانتفاضة الكبرى ديسمبر 1987، وما يعرف بانتفاضة الأقصى الثانية سبتمبر 2000، يتضح لنا، وبغض النظر عن التباينات بينهما، بأن تمادي إسرائيل في محاولات شطب القضية الفلسطينية، الذي شكّل دوما بوصلة المشروع الصهيوني، وسعيها للالتفاف على حقوق الشعب الفلسطيني كان الدافع الأكبر وراء الانفجار الكبير في شتاء 1987، وهبة الأقصى "التي انزلقت لمواجهات عسكرية"خريف 2000. إلا أن اللافت والذي فجر كليهما هو تقاطع الدوافع الموضوعية المتمثلة بالسياسات الإسرائيلية وجرائمها اليومية ضد الأبرياء، مع لحظة نضج العامل الذاتي المتمثل بالجاهزية الشعبية وتوفر الإرادة السياسية مما ولّد آمالاً حقيقية بالتغيير، أو على الأقل، شعور الناس بأنه ليس هناك ما تخسره سوى قيدها.
ثورات الشعوب وانتفاضاتها وهبّاتها لا تأتي بقرار فوقي، بل تندلع عندما تفيض المعاناة بآخر نقطة للكأس الممتلئ قهراً وغطرسة، ولكنها، و كي تتواصل فهي تحتاج نضج العامل الذاتي ،ولو بالحدود الدنيا، الذي يطورها ، هذا ما حدث في الانتفاضة الكبرى، عندما تشكلت القيادة الموحدة للانتفاضة، التي رسخت دورها بالالتفاف الشعبي الواسع وطبيعته الديمقراطية العميق حول أهدافها العامة والمباشرة، وحول تكتيكاتها، التي اعتمدت أشكال من المواجهة، تتناسب مع طاقة وقدرة الفئات الاجتماعية المختلفة، حشرت العسكرتاريا الإسرائيلية في أتون انتفاضة شعبية نجحت في تحييد أقوى جيش في المنطقة، أما في انتفاضة الأقصى فقد كان للزعيم الراحل أبو عمار الدور المركزي في المواجهة رداً على انقلاب باراك على مسار التسوية، واندفاعه نحو مواجهة عسكرية بدأت في ساحات الأقصى لدفن أوسلو في أنفاق حرب ادعاء يهودية المكان، ثم يهودية إسرائيل التي لم تكن تفضى لشيء سوى لمزيد من العنصرية التي نراها في كل ما يجري من سياسات استراتيجية وممارسات يومية، وما يرافقها من حروب كبيرة وصغيرة على امتداد فلسطين المحتلة، ولم يعد يستثنى منها فلسطين داخل الداخل في ال48، التي تعيش حرب العنصرية بأشكال العنف الدموي تحت رعاية أجهزة الأمن التي طالما اعتبرت أن الوجود الفلسطيني يشكل قنبلة موقوتة لدولة إسرائيل ولطابعها العنصري الذي لم تعد تخفيه أو تتوارى منه.
والسؤال المباشر اليوم هل سياسات الاحتلال ومدى الاستقطاب الشعبي في مواجهة دمويتها ومخاطرها، توفر ظرفاً موضوعياً قابل للانفجار في وجه حكام تل أبيب؟ بالتأكيد أن إسرائيل التي نجحت في تحييد القوى المهيمنة على المشهد الانقسامي، وانزياح الواقع العربي نحو مشهدية التطبيع ليس فقط مع إسرائيل المنزاحة نحو العنصرية، بل ومع احتلالها الذي بات دموياً بصورة يومية، فلا يكاد يمر يوم دون اقتحامات وقتل واغتيالات واعتقال ومصادرة أراضي وهدم بيوت، وحصار مستمر يفتك بأبسط شروط الحياة الإنسانية في غزة، في محاولة منهجية لكي وعي الفلسطينيين، بأنهم الأيتام المعزولون دون من يوفر لهم الحماية وطنياً أو يساندهم عربياً، وما عليهم سوى الاستسلام لمخططات التوسعية العنصرية، الهادفة لتهويد القدس، وتحويل مدن الضفة الرئيسية لكانتونات طاردة للحياة ولسكانها، وتكييف حكام غزة تدريجياً للقبول بدور الشرطي في معادلة أمن مقابل إقتصاد، يتكامل مع روابط مدن وكانتونات الضفة، وهي، أي إسرائيل،تعتقد أن الطريق لهذا السيناريو باتت سالكة، فالمهيمنون على المشهد منشغلين بالصراع على خلافة حكم الكانتونات في بقايا الضفة، أو إظهار الجاهزية لذلك من قبل حكام كانتون غزة،حتى لو سُمي امبراطورية، وكلاهما يصارع الآخر على الوكالة الأمنية.
إذن العامل الموضوعي يفيض كأسه نضجاً في استدعاء الانفجار، إلا أن اسرائيل تكرس جل جهدها لاحتوائه وتفتيته ومنع حدوثه، فهي تتعامل مع نهوض جنين ونابلس، بالقطعة متجنبة المواجهة الشاملة، وتستخدم سياسة الجزرة والعصا في علاقتها مع كلٍ من حكام الضفة وحكام غزة، ومجدداً بين حكام غزة الطامحين لمجرد الحكم، وحلفائهم من الجهاد الإسلامي، وربما لاحقا مع باقي "فصائل المقاومة الأخرى". أي أن إسرائيل تسعى بالتوازي مع مخططات كي الوعي لتفكيك قنبلة الانفجار الشعبي الكبير في محاولة لمنع تبلور بديل وطني عريض يصوب المسار، ويستنهض طاقة الناس، وربما يفضى في النهاية لتهيئة الانفجار في وجه جنونها، فهل ستنجح إسرائيل في تمرير هذا السيناريو؟
المعطيات التي تتراكم بانفضاض أنوية المقاومة الشعبية المتنامية عن طوع وهيمنة المتنافسين على الوكالة الأمنية، وعدم قدرة كل منهما على احتوائها، منذ اندلاع ما سمي بعمليات "الذئاب المنفردة" خلال وبعد "هبة السكاكين"، وهبة البوابات الإلكترونية، وهبة الشيخ جراح، والتي اتسع نطاقها وتحولت لانتفاضة "محدودة" لمواجهة العنصرية على كامل فلسطين التاريخية آيار 2021، رغم محاولات حماس اختطافها، والتحكم بنتائجها خلال ما بات يعرف بسيف القدس، لإحكام سيطرتها الانقسامية والاندفاع بها نحو السيطرة على منظمة التحرير، يشجعها في ذلك تهاوى مكانة السلطة والمنظمة معاً بفعل فشل خياراتها، وأدائها المتهالك منذ اغتيال نزار بنات. وأخيراً مواجهة الجهاد للعدوان على غزة رغم صمت وحياد حماس التي انتقلت لدور الوسيط لإثبات الجدارة بالوكالة الأمنية، تمهيداً لدخول مناقصة المنافسة على التسهيلات المقدمة في الضفة الغربية ونيلهم لحصتهم منها، الأمر الذي يظهر تململاً ملموساً وعملياً إزاء الخراب والعطب الذي أصاب البنى الفوقية للحركة الوطنية بجناحيها الوطني والإسلامي.
هذا الواقع لطبيعة ما وصلت إليه الطبقة السياسية المهيمنة، يشكل العائق الأساسي لمنع توفر بيئة مساعدة لاندلاع هكذا هبة أو انتفاضة شعبية شاملة، إلا أن الوجه الآخر لهذا المشهد يتمثل في بدايات ما زالت جنينية لمقاومة شعبية تبدو منسقة وخارج العباية التقليدية، بالإضافة إلى نزوع نسبي في استقلالية دور حركة الجهاد، والتي بالمناسبة كانت قد انخرطت مبكراً في الانتفاضة الكبرى دون تردد منذ بدايتها ، ذلك كله يشير إلى ملامح أولية لنضج العامل الذاتي نحو الاعتماد على النفس، والخروج من ثوب المراهنة على إمكانية عودة "الآباء" الضالين، وهي تتراكم تدريجياً لتوليد حركة وطنية جديدة تستعيد زمام المبادرة، فما يجري يبدو وكأنه بروڤات للانفجار الكبير بكل شروطه، ولكن هذه المرة تنبثق من معمعان الميدان دون انتظار إملاءات فوقية، ولا وهم "البديل الإخواني" كما جرى في الانتفاضة الثانية، والتي أفضت لانقلاب حماس على السلطة والمنظمة.
هنا يكمن الرهان، وهذه المرة في ظل تضخم وهم إسرائيل إزاء ما يعرف بكي وعي الفلسطينيين، وهو الفشل الذي تجر من ورائه حكومة الاحتلال خيباتها مرة تلو الأخرى، ولكنه أيضاً بانتظار خطوة ملموسة نحو استعادة زمام المبادرة الشعبية من قبضة قوى الهيمنة الانقسامية. يبدو أن قدر الفلسطيني في الجولة القادمة أن يواجه معركة المستقبل ضد الاحتلال، وهو يخوض عملية جراحية معقدة لمعالجة أدران الماضي ومخاض الحاضر، والذي قد يشمل خطر انهيار "المؤسسة الرسمية"، في نفس الوقت. وهنا تكمن المعضلة، سواء في أولويات الصراع، أو مدى ترابط الوطني والديمقراطي بصورة لم يعد بالإمكان فصل أي منهما عن الآخر.