|
على حاجز الكونتينر في وادي النار
نشر بتاريخ: 30/08/2022 ( آخر تحديث: 30/08/2022 الساعة: 20:06 )
الكاتب: منجد صالح إستُشهد شابٌ فلسطيني على حاجز الكونتينر. يقطع هذا الحاجز الضفّة الغربيّة إلى نصفين: شمال وجنوب. كان الشابُ قادما من جهة الجنوب، من جهة مُنحدرات وادي النار. يقود سيّارة فورد بيضاء، أي باص صغير. دخل في إطار الحاجز، ببطئ، نتيجة سلسلة الأخاديد المتوازية والمُتلاحقة المحفورة بالاسفلت عمدا وقصدا ولدواعي أمنيّة من قبل قوّات الإحتلال في مدخل الحاجز. إجتاز "المطبّات" المذكورة ورأى على يساره جنديا إحتلاليّا من قوّات حرس الحدود "المشمار كفول"، واقفا على جزيرة منتصف الطريق داخل الحاجز، وهم، أي حرس الحدود، من أسوأ وأصلف وحدات الجيش الإسرائيلي القمعي، وتصرّفاتهم وأداؤهم وممارساتهم تجاه الفلسطينيين توحي وتوشي بأنّهم "خُلقوا ونُظّموا ودُرّبوا" من أجل قمع الفلسطينيين "ومرمرة" عيشتهم" وحياتهم، في "الطالع وفي النازل"!!!. إنحرف الشابُ بمركبته فجأة وداس على "دعّاسة" السرعة، دعّاسة البنزين، "على الصاجة"، ووجّه المركبة مباشرة نحو الجندي الواقف المتحفّز المُراقِب للداخلين إلى الحاجز. صدمه بقوةٍ بمقدّمة المركبة وحذفه "متكعبلا" على الطريق لمسافة نحو مترين، بعد أن كان طار قليلا من على مقدّمة المركبة وزجاجها الأمامي... وقفت السيّارة وعجلتاها الأماميّتان ومقدّمتها مرفوعة على باطون الجزيرة منتصف الطريق... قفز السائق الفلسطيني "كالفهد" من المركبة، بعد ان اوقفها، وهجم كالبرق على الجندي، الذي بالكاد إستوعب الصدمة والصدمة، الجسدية والنفسية،، شاهرا خنجره في قبضته اليمنى، وأمسك بتلابيب الجندي "المصفّح والمدرّع" بالسترة الواقية و"المدبوز" بالأجهزة والمعدّات الحربية على جنبيه وحول خصره، وغرز السكين في اعلى جسده، حسب ما سنحت وسمحت له اللحظة وهولها، ودفاع الجندي عن نفسه بيديه، وهروبه من أمام "الفهد"، ورشاشه يترنّح على جانبه. في تلك اللحظة،تحرّك ثلاثة جنود من ارجاء الحاجز مُشهرين رشّاشاتهم ومُطلقين النار بغزارة تجاه "الهدف"،"الفهد"، الذي ما زال يُطارد الجندي في "قرنة" من زوايا الحاجز، ويجرحه جراحا متوسّطة.... تكاثرت وتضاعفت زخّات الرصاص المنهمرة من رشّاشات الجنود المتحرّكين المُلاحقين للفهد حتى خرّ صريعا شهيدا مُلتحقا بركب شلال الشهداء الهادر من أترابه، مهند الحلبي واشرف نعالوه وفارس عوده وابراهيم النابلسي ورعد وثائر حمّاد ودلال المُغربي وعلي أبو طوق وعمر أبو ليلى، بهي الطلّة والطلعة دائما. والسؤال الذي يطرح نفسه بالحاح، من خلال هذه العملية، التي صوّرتها وسجّلتها كاميرات المراقبة الإحتلاليّة على الحاجز، ومن ثمّ بثّت شريطها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وكأنها فيلم سينمائي، من الصعب تصديقه، هو ما إذا كان منفّذ العملية ناويا مُصمّما ومخطّطا لها، أم أنها جاءت فجأة، صدفة، مستغّلا وقوف الجندي بجانب الطريق، فخرجت منه حمم بركان غضبه المتراكم خلال سنين عمره، ومقته وصبره على ممارسات وقمع جنود الإحتلال!!!. ضربٌ من ضروب الإنتقام وفورة حنين إلى شاطئ يافا المحروم منه، ومن بيّاراتها وبرتقالها، وربما إعتقادا منه بسهولة "صيده"؟؟!! من الصعب جدا الإجابة عن هذا السؤال لأنّه في علم الغيب وهو في العالم الآخر، ولأنّه الوحيد الذي كان من الممكن إعطاء إجابة على السؤال والتساؤل. ترقد روحه الآن بسلامٍ لدى باريها، إلى جانب الأنبياء والشهداء والصدّيقين. "ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربّهم يُرزقون"، صدق الله العظيم. أيّة بطولة هذه تصل حدّ الجنون. أيّ جنون هذا يصل حدّ البطولة. زنبقةٌ تتفتّق عن منجنيقٍ يُزهرُ خنجرا يُلعلع في فم الحوت، في فك التمساح. بركانٌ يُزهر اقحوانا يُزلزل "بيت العنكبوت"، زلزالٌ ينفث حمما من خناجر وسكاكين. نسمةٌ تهبُّ من جنبات جامع أحمد باشا الجزّار في عكّا فتسدّ الافق عن حصار جنود جيش نابليون بونابرت. ويبزغ نجم عيسى العوّام، أحد قوّاد جيش صلاح الدين الأيوبي، ويقطع بحر عكّا سباحة وينفذ إلى حصار الحصار. "حاصر حصارك لا مفرّ، إضرب عدوّك لا مفر، سقطت ذراعك فإلتقطها، وسقطت قربك فإلتقطني، وإضرب عدوّك بي، فأنت حرّ وحرّ وحرّ ... حاصر حصارك بالجنون وبالجنون، ذهب الذين تحبّهم .. ذهبوا، فإمّا أن تكون أو لا .. لا تكون". رحم الله شاعرنا الكبير محمود درويش. "كفٌ يُجابه المخرز"، كيف؟؟ يُلوّح بقبضة من ذرّات تراب جبال الكرمل وينثرها على بيوت وحواري جبال النار وجبال الخليل. وعلى الحواجز الطارئة القسرية التي "تفصّفص" عظام الوطن، حواجز الكونتينر وعصيون وزعترة وعنّاب، الثابتة، ومثيلاتها المُتحرّكة اليومية واللحظية التي تنخر في مسامات الوطن وتسدّ عنه الهواء النقي الآتي من عبق جبال شجر البلّوط، المحيطة بوادي قانا، التي تعلوها وتغتصبها مستوطنات الإحتلال. "شرُّ البلية ما يُضحك". لقد أقام الإحتلال هذه الحواجز الثابتة خلال إنتفاضة الأقصى التي إنفجرت في وجه المحتل الغاصب عام 2000 وإستمرّت خمس سنوات. أقحمها الإحتلال في الجسد الفلسطيني "المُحتل" لتقطيع أوصاله. حاجز الكونتينر يفصل الشمال والوسط عن الجنوب، وهو الشريان الحيوي الرئيس من جنين حتى الخليل. في البداية وضعوا في الموقع "كونتينرا" من الحديد، من مخلّفات إحدى الموانئ، من هنا جاءت التسمية والإسم. كونتينر على حافة المنحدر الذي يفضي لوادي النار، على طرف بلدة ابو ديس الجنوبي. وطريق وادي النار هذا إخترعوه لنا وأجبرونا عليه بالقوة وبالحديد والنار بعد أن سدّوا أمامنا مداخل مدينة القدس ومخارجها. فالطريق من رام الله عبر المدينة المقدسة، زهرة المدائن يا مدينة السلام، الى مدينة بيت لحم، مهد سيّدنا يسوع المسيح الفلسطيني الناصري، لا تأخذ قيادة بالسيّارة نصف ساعة على اكثر حال. طريق جميلة تشمّ فيها ومنها عبق التاريخ والقداسة والتوابل الشرقية ورائحة الكعك المقدسي بالسمسم. أمّا طريق وادي النار فهو جرف هاو يمتد من طرف بلدة أبو ديس هبوطا وصعودا في لفّات حادة وخطيرة إلى بلدة العبيدية، تشم في قعر الوادي رائحة مجاري ومخلفات المستوطنات النتنة التي تمتطي الجبال المحيطة. قذفونا قسرا وظلما من شمّ رائحة التوابل الشرقية عبر القدس الى شمّ رائحة المجاري النتنة عبر وادي النار. وكيف لا تشتعل النار في الصدر وتخرج حمما في الكونتينر؟؟!! وبعد عدّة سنوات من تمتّرس الكونتينر وحاجزه في موقعه جاء إعلان من قوّات الإحتلال بإزالة الكونتينر. فإستبشر الناس خيرا وأن الطريق على صعوبتها ستخلو من جنود الإحتلال وتبقى رائحة مستوطناتهم، لكن "شر البلية ما يضحك"، صحيح أن الإحتلال أزال الكونتينر لكن أقام مكانه بناء ومرافق وكأنها حدود دولية. ومثل هذه "الحدود الدولية" تكثر في بلادنا، فما بين محافظة ومحافظة أقام الإحتلال حواجز ثابتة بمواصفات حدود دولية. هذه الحدود التي رُفعت ما بين الدول نفسها. فإنّك تقطع دول أوروبا كلها بالمركبة دون أن تتوقّف على الحدود بين دولة وجارتها، فقد أزيلت الحدود منذ سنوات، أمّا في بلادنا فالحواجز تفرّخ حواجز أخرى، حواجز ثابتة وطيّارة. يبدو أنه في بلادنا المحتلة يوجد هناك مفاهيم وممارسات لا توجد مثيلاتها في دول العالم بأسره، فالحواجز حكر لممارسات الإحتلال، والإعتقال الإداري "إختراع" إحتلالي إسرائيلي لا يوجد له مثيل على الكرة الارضية. لكن الإحتلال حتما إلى زوال بفعل ضربات قبضات شبابنا. فاين هي الدولة العثمانية، وأين هي بريطانيا العظمى التي لم تكن الشمس تغيب عن مستعمراتها؟؟!! يقول المثل الإسباني الشهير: "لا يوجد سوء يستمر مئة عام ولا جسد يتحمّله". "فلسطين يحمي حماك الشباب وجلّ الفدائي والمفتدى"، "أخي جاوز الظالمون المدى وحقّ الجهاد وحقّ الفدا". كاتب ودبلوماسي فلسطيني
|