وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

عودة روسيا الكبرى امال وطموحات

نشر بتاريخ: 30/10/2022 ( آخر تحديث: 30/10/2022 الساعة: 14:42 )
عودة روسيا الكبرى امال وطموحات

بقلم الدكتور اسعد العويوي

عانت روسيا في بداية ظهورها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وظهور نظام عالمي أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية من عدة مشاكل، على مختلف الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والأمنية، بالإضافة إلى المشاكل الداخلية وضعف في سياستها الخارجية. إلا أنها لم تستسلم لتلك المشاكل والأزمات وعملت على استعادة هيبتها وقوتها عن طريق تبني استراتيجيات متعددة للحفاظ على أمنها وسيادتها. كما تمكنت خلال فترة حكم الرئيس بوتين وميدفيدف من تحسين أوضاعها الاقتصادية والسياسية وتعزيز مكانتها الدولية وتحسين أوضاعها على الصعيد العالمي.

المـذهب العسـكري الروسـي لمرحلـة ما بعـد الحـرب البـاردة فقـد أشـتمل علـى مجموعـة مـن المبــادئ الرئيســة ذات الأولوية في التفكــير العســكري الروسي ولعــل مــن أبرزها، تركيــز المــذهب العسكري الروسي على بناء قوات تكفي للتصدي للتهديدات المحتملة، وذلـك للتـأثير في مـدركات الخصـم الإسـتراتيجية (أي إن الـردع هنـا يسـتهدف عقـل الخصـم قبـل فعلـه) مـن خـلال زرع قناعـة لديه مفادها: إن الخسائر التي يمكن أن يحصـل عليهـا اكـبر مـن حجـم المكاسـب المتحققـة في حالـة الإقدام علـى عمـل مـا أو تبـني سياسـات عدائيـة إزاء الطـرف الأخر مـن المعادلـة الاسـتراتيجية، ممـا يؤشر لنا أن معادلة مبدأ الردع النووي التي اعتمدت في الحقبـة السـوفيتية لم تسـقط مـن الحسـابات الإستراتيجية الروسـية لمرحلـة ما بعـد الحـرب البـاردة، كمـا أن المـذهب العسـكري الروسـي قـد تضـمن اعتماد إستراتيجية الإعداد لحروب محلية أو إقليمية بعد أن كان الإعداد يتم لمواجهـة حـروب كونيـة واسـعة النطـاق ضـد المعسـكر الغـربي فضـلا عـن الواقعيـة في فـن الحـرب أي التركيـز علـى مزيـد مـن الواقعيـة في البحـث العلمـي، وتوجيـه الجهـود البحثيـة لمواكبـة الواقـع في حـدود المـوارد المتاحـة للدولـة الروسية.

أبعاد الصعود الروسي

تحدث الآن العديد من التحولات الجذرية في المجتمع والنظام الدولي بأكمله وترجع هذه التحولات بالأساس إلي التحولات مرت روسيا الامبراطورية ، فقد تم القضاء علي النظام متعدد الأقطاب بسبب الثورة البلشفية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين وبروز نظام أحادي القطبية بعد انهيار الإتحاد السوفيتي عام 1991، ولكن صعود روسيا الآن في القوة والدور الروسي يعتبر من أبرز محددات التحول في بيئة هذا النظام ، وقد كشفت التطورات التي شهدها العالم في العقد الأخير عن مجموعة من المؤشرات التي تشير إلي أن النظام الدولي يرفض هيمنة قوة واحدة عليه وبات الحديث الآن عن تحوله إلي نظام متعدد الأقطاب أو ما يطلق عليه ” نظام اللاقطبية ” ، حيث ستسيطر العديد من القوي على النظام ولن تعود لأمريكا الهيمنة علي مسار النظام كما كان في السابق.

وجاءت روسيا بعد انهيارها لتستغل التصدُّع الحاصل في النظام الدولي خاصة خلال فترة العشر سنوات الأخيرة والتي بدأت مع وصول فلاديمير بوتين إلي مقعد الرئاسة في روسيا (2000_2008) . فقد صعدت القوة الروسية في المجتمع الدولي سواء على مستوي السياسة الداخلية أو الخارجية حيث نجح بوتين في القيام بإعادة هيكلة سياسية واقتصادية وقد ترسخ هذا الوضع خاصة مع وصول رئيس الحكومة الحالي ديمتري ميدفيديف الذي أصدر ما يسمي بــــ ” مبدأ ميدفيديف ” ، وهو يتكون من خمسة مبادئ تنص : إعطاء الأولوية للمبادئ الأساسية للقانون الدولي والسعي إلى بناء عالم متعدد الأقطاب، وعدم السعي إلى المواجهة مع دول أخرى، وأن تحمي مواطنيها أينما كانوا، وتطوير روابط مع الأقاليم الصديقة، فضلاً عن خطة فلاديمير بوتين ” رئيس الجمهورية الحالي ورئيس الحكومة السابق” الإستراتيجية لإخراج روسيا من تحت الركام لتشكل ثقلا إقليمياً ودولياً وهو ما يمكن تحقيقه بطبيعة الحال خلال القيام بدور مؤثر وفعال

في نزع فتيل قضايا الشرق الأوسط وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي تمثل، وبحق، أهم قضايا الشرق الأوسط .

وصل بوتن إلى السلطة في عام 2000 ، وكان هدف السياسة الخارجية الروسية أن تتدرج في العمليات السياسية والاقتصادية والأمنية العالمية ، من خلال تطوير روسيا داخليا ومحاولة الاستفادة من العولمة ، حيث يري بوتين أن روسيا من المهم أن تكون قوى عظمي اقتصادياً ، وأن تتطور تقنياً واجتماعيا ، وأن تمتلك التأثير السياسي وبالتالي يجب أن تكون روسيا ” متكيفة مع اقتصاد العولمة ” وسوف يتم تحقيق ذل من خلال اعتماد سياسة خارجية فعالة من أجل تهيئة الظروف للنمو الاقتصادي وتشجيع نشاط رؤوس الأموال الروس، ومن ذلك دخول روسيا في منظمة التجارة العالمية. وأعطت الإدارة الروسية أولية للمصالح الاقتصادية على المصالح السياسية والسياسية- العسكرية.

لقد ساد الاعتقاد أن روسيا لن تحتل مكانة مرموقة في العالم ما لم تنتقل بسرعة إلى النمو الاقتصادي. لدى وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة في العام 2000 وضع هدفاً له الأولوية، هو جعل روسيا شريكاً لا غنى عنه للغرب في التوازنات الدولية. انطلق بوتين في رسم سياسته الخارجية من اعتباره أن لروسيا خصوصية في كونها قوة عالمية تستند تاريخياً إلى اتساع رقعتها الجغرافية كجسر بين القارة الأوروبية وقارة آسيا. ولهذا فإن التمدد الغربي في مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق يثير حساسية مفرطة عند النخبة الروسية، ويُعتبر بمثابة تدخل خارجي. فالسيطرة على هذه المناطق تهدد هوية روسيا الأورو آسيوية، وتقلص من دورها الإقليمي والعالمي. فلو عجزت روسيا عن تأكيد دورها في مجال الاتحاد السوفييتي السابق، لعجزت أيضاً عن تأكيد نفسها كقوة عالمية عظمى.

عندما تولى بوتين السلطة في روسيا ، كانت روسيا في ذلك الوقت تعيش أزمة اقتصادية ومنتشر فيها الفساد والفوضى وعدم الاستقرار حيث شهدت فترة الرئيس يلتسن العديد من السياسات الاقتصادية المضطربة وغير المحسوبة أدت إلي تزايد وخلق العديد من المشاكل الاقتصادية في الداخل وكان منها : سياسة الخصخصة المتسرعة وغير المدروسة التي تبنتها حكومة يلتسن حيث تم نهب العديد من الثروات والأصول الاقتصادية في روسيا لصالح قلة من رجال الأعمال الجدد تحت ستار ما يسمي بالخصخصة من خلال المزادات الوهمية محددة الأسعار مسبقاً بالإضافة إلي الرشاوي والعمولات غير المشروعة، وما يزيد الأمر سوءاً هو تهاون يلتسن فيما يخص تدخل الأجانب في أهم قطاعات الاقتصاد الروسي وهو النفط والغاز الطبيعي1.

وجملة القول إن بوتين قد ورث من يلتسين اقتصادا يفتقد الثقة، سواء من الشعب الروسي أو من العالم الخارجي، خاصة في ظل خفض قيمة الروبل بنحو 300%، وارتفاع التضخم لنحو 85% وعدم قدرة البنوك على الوفاء بالتزاماتها والمؤكد أن ذلك كانت له تداعيات على تراجع الدور الروسي في الاقتصاد العالمي وفى السياسة الدولية، حيث انشغلت روسيا بمشاكلها الداخلية، وتخلت عن دورها في الكثير من القضايا الدولية، وأوقفت دعمها للدول التي كانت طرفاً معها في الحرب الباردة ضد الولايات المتحدة الأمريكية. ففي عام 2001 أزداد الناتج الإجمالي الروسي إلى نحو 72% مقارنة بــ 1990 وتم حل المشاكل المتعلقة بتأخير الأجور والمعاشات حيث زادت العوائد بعد فرض ضريبة ثابتة على الدخل الشخصي. وفي 16 مايو 2003 قدم بوتين في الخطاب السنوي أمام المجلس الفيدرالي ثلاث أهداف رئيسة لسياسته الاقتصادية حتى عام 2010 وهي مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي، والتغلب على الفقر وتحديث قدرات الجيش. وكانت الخطوة الأولي في سياسات بوتين هي العمل على ترسيخ الاستقرار الداخلي وإعادة دور الدولة مرة أخري.

البعد العسكري

دخل الجيش الروسي في مرحلة كبيرة من التراجع الحاد بعد انهيار الإتحاد السوفيتي، حيث انخفضت الروح المعنوية للجنود الروس بالإضافة إلى تفاقم مشاكل التدريب والانضباط ونقص المعدات الحديثة وما يزيد الأمر سوءاً الفساد المستشري في الجيش الروسي. والمثال الواضح علي هذا التراجع في الجيش الروسي هو الهزيمة في اجتياح جورجيا 2008 فالبرغم من صغر حجم الخصم لم تستطع روسيا هزيمته وقد وصفت

هذا “خدمة أبحاث الكونغرس” في آب/أغسطس 2011 بأنه “الفشل العملياتي الواسع النطاق للجيش الروسي”. وكان من نتائج ذلك هو إعلان وزير الدفاع الروسي أناتولي سيرديوكوف في أكتوبر 2008 عن إصلاحات عسكرية كبري واسعة النطاق، كان الهدف منها هدفها إعادة تنظيم هيكلية الجيش وتسلسله القيادي، وتقليص حجمه، وإنشاء قوة متقدمة وعصرية وكفء وذلك بحلول عام 2020.

وابتدأت روسيا بأكبر عملية بناء لجيشها، والزيادة الهائلة في الإنفاق الدفاعي التي من المقرر أن تستمر حتى 2020 ووفقاً لمجلة “الإيكونيميست”، تتمثل التغييرات الأكثر جوهرية في إطلاق برنامج لتحديث الأسلحة في عام 2010، يمتد على عشر سنوات وتبلغ كلفته 720 مليار دولار.

قامت روسيا بإعادة النظر في سياستها وعقيدتها العسكرية، وتصدرت مسألة إعادة تسليح الجيش من أول أولويات بوتين حيث يري أن روسيا لن تستطع أن ترجع كقوة دولية إلا إذا امتلكت العناصر الثلاثة: الاقتصاد المتعافي، الجيش المتماسك، السياسة الحاسمة.

البعد السياسي

تغيرت السياسة الروسية بدرجة كبيرة، حيث تطورت سواء على المستوي الداخلي أو المستوي الخارجي خلال الآونة الأخيرة، فمثلاً على المستوي الداخلي تم إطلاق الحريات السياسية والدليل على ذلك إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بها قدر من المنافسة في ظل شعبية بوتين الكبيرة الساحقة، هذا بالإضافة إلى التطور والتقدم على المستوى الخارجي حيث سعت روسيا لاستعادة مكانتها في النظام الدولي وعودته بقوة وضرورة احترام روسيا كقوة كبيرة لها مكانتها ودورها العالمي.

وجاء بوتين بعد نجاحه في الانتخابات بتوجهات جديدة في السياسة الخارجية تعلن أن عصر روسيا المُنهارة الضعيفة وسنوات المهانة التي مرت بها قد انتهت، وطالب بوتين الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بالتعامل مع روسيا كدولة كبري توازيهم لها مكانتها واحترامها في النظام الدولي.

وكان من اهم محددات السياسة الروسية، الاستقلال عن النماذج الغربية في القوة والعمل على بناء القوة الروسية الذاتية حيث يتم النظر إلى هذه القوة على أنها المحدد الأساسي لوضع روسيا في السياسة الدولية.

وكان من ضمن سياسات فلاديمير بوتين في السياسة الخارجية هو تقوية دور روسيا في منطقة الشرق الأوسط لتقوم بدور فعال حيث تحتفظ روسيا بعلاقات قوية مع دول الشرق الأوسط ومن ثم تحول بوتين من سياسة الحياد السلبي إزاء قضايا المنطقة إلى سياسة المبادرات وروسيا في مبادراتها حاولت بكل الطرق أن تتجنب الصدام مع الولايات المتحدة.

لروسيا أهمية كبيرة، فهي ليست فقط قوة عالمية عظمى بسبب قدراتها العسكرية الكبيرة ولا مساحتها الشاسعة، ولا مواردها الاقتصادية، والقدرات العلمية والثقافية والتكنولوجية التي تمتلكها، ولكن تحتل هذه المكانة العظمى بسبب ما شهدته خلال العام 2000 منذ تولي الرئيس فلاديمير بوتين رئاستها حتى الآن من إستراتيجيات وخطوات متقدمة تجاه الإصلاح للعودة إلى مسرح السياسة العالمية السياسية بعد معاناتها من التفكك والانهيار لسنوات طويلة التي أضحت على حافة التجزئة والانقسام والانفصال بعدما كانت إمبراطورية كبري أثناء الإتحاد السوفيتي. وتتضاعف أهمية روسيا بالنظر إلى ميراثها من الإتحاد السوفيتي الذي كان يعتبر قطب عالمي في ظل الثنائية القطبية لعدة قرون، وحتى بالرغم من انتهاء صراع القطبية وظهور التعاون العالمي إلا أن ما زالت المواقف الروسية تلعب الكثير من التأثيرات على مجلس الأمن. وفي السنوات الأخيرة تبنت روسيا العديد من المواقف في السياسة الخارجية أدت إلى إحياء الآمال والتطلعات بعودة التوازن إلى قمة العالم.

ويعد الصعود الروسي من التطورات المهمة في تاريخ العلاقات الدولية ، فقد أدى هذا الصعود إلى قلب موازين القوي في العالم وتغيير نمط القطبية التي كانت تحتكرها الولايات المتحدة في القطبية الأحادية ، فالصعود الروسي أثبت أن الولايات ليست هي الدولة الرائدة الوحيدة في النظام الدولي سواء اقتصادياً أو عسكرياً ، إلا أن روسيا لم تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الانهيار وسعت بكل قوة إلى العودة لساحة التنافس الدولي من جديد وبدأت روسيا تفوق من كبوتها التي أصابتها منذ انهيار الإتحاد السوفيتي، مستغلة في ذلك حالة الانهيار التي يمر بها النظام والتفكك التدريجي للولايات المتحدة الأمريكية وضعف قبضتها على

العالم، وصعود قوى أخرى دولية (كالصين والهند والبرازيل وغيرها ) تأخذ من نصيب ومساحة الولايات المتحدة على أرضية ذلك النظام.

واهم تجليات عودة روسيا كقوة عظمى جاءت من خلال الحرب الروسية على أوكرانيا ، 2022، وسط صراع متعدد الجبهات عبر العديد من الأقاليم، سعت فيه روسيا إلى إعلان تحدي الغرب والتصدي لاستراتيجية الناتو في شرق أوروبا، ومحاولة فرض ذلك بالقوة العسكرية، لتعزيز مكانتها في ظل إعادة تموضع استراتيجي أميركي وانسحابات عسكرية أميركية من عدة مناطق، مقابل تمدد الصين التي باتت تمثِّل مركز الاهتمام الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أمام سعيها الحثيث خلال العقد الأخير نحو تحصين موقفها الدولي وتعزيز تحالفاتها ووضع أسس لنظام دولي جديد تكون لها فيه مساهمة أكبر في إدارة المشهد الدولي، وخاصة مع مركزية دور الصين في التحركات الروسية ضد الغرب.