وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

في الذكرى الخامسة بعد المئة لوعد بلفور

نشر بتاريخ: 02/11/2022 ( آخر تحديث: 02/11/2022 الساعة: 18:39 )
في الذكرى الخامسة بعد المئة لوعد بلفور

موقف الشريف الحسين بن علي من تصريح بلفور ومحاولة تهويد فلسطين بعد انكشاف الدور الكاذب والمُخادع للإمبراطورية البريطانية

انطلاق الثورة العربية الكبرى وانكشاف الخدعة

في العاشر من حزيران/يونيه من العام 1916 أطلق الشريف الحسين بن علي الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية، بعد أن تحالف مع بريطانيا العظمى مُقابل تعّهد الأخيرة بتحرير المشرق العربي ومنحه استقلاله وإقامة مملكة عربية موحدة تشمل شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب (سوريا الكبرى والعراق).

ولكن سرعان ما استوعب الحسين بن علي أن بريطانيا قد خدعته وبأنها لن تلتزم بالاتفاقيات المعقودة بينهما عام 1916 (والتي وقّعها وتعهّد بتنفيذها السير هنري مكماهون المندوب السامي البريطاني في مصر) ... ففي العام 1917 كشفت الثورة البلشفية في روسيا عن اتفاقية سرية عقدتها بريطانيا مع فرنسا في 1916 عُرفت باسم موقعيها – سايكس وبيكو – قُسّم فيها المشرق العربي إلى مناطق نفوذ (انتداب) بريطاني وفرنسي. وأتبعت بريطانيا تلك الاتفاقية السرية برسالة علنية إلى اللورد روثشايلد أحد قيادات الحركة الصهيونية في تشرين ثاني/نوفمبر من العام 1917، عُرفت بتصريح بلفور، تعهّدت بريطانيا من خلالها إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، والتي طالما اعتبرها الشريف الحسين أنها تُمثّل جزءاً هاماً من المملكة العربية المُنتظرة، ففيها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومنها عرج الرسول إلى السماء، وتبرع بماله الخاص لإعادة اعمار المسجد الأقصى المبارك في مطلع العشرينيات من القرن الماضي...

ومع أن الشريف الحسين – وقد أصبح ملكاً على الحجاز - كان مستاءً للغاية من نكث بريطانيا لوعودها له وتقسيمها لمملكته الموعودة، رغم أنها منحت عائلته حُكماً ذاتياً مُجزءاً ومُقيّداً بـ "انتدابات" في بعض الأراضي التي كانت قد وعدته بها، فسمحت له بإقامة مملكة الحجاز في جزء صغير من شبه الجزيرة العربية في العام 1916، وولّت ابنه فيصل ملكاً على سوريا ثم العراق (بعد طرده من سوريا من قبل الجيش الفرنسي) في العام 1920، ومنحت ابنه عبد الله الحكم في إمارة شرق الأردن عام 1921، إلا أن بعض مستشاري الشريف حاولوا إقناعه بأنه لا يجب معاداة بريطانيا العظمى تحت أي ظرف من الظروف، لأنها تستطيع أن تُنهي الحكم الهاشمي في الممالك الثلاث (الحجاز والعراق وشرق الأردن) بجرة قلم! وعلى هذا الأساس دخل ملك الحجاز – بصفته ملكاً لعرب المشرق وبالنيابة عنهم – في مفاوضات مع الحكومة البريطانية للوصول إلى معاهدة بين عرب المشرق والامبراطورية البريطانية.

كانت الحكومة البريطانية قد حاولت فرض سيطرتها على الحسين بن علي عن طريق ابرام مُعاهدة معه مرتين: الأولى في العام 1921، عندما أرادت الحكومة البريطانية تحديد علاقاتها مع الحكومة الهاشمية في الحجاز من خلال مُعاهدة شاملة، مُرفقة بتصريح يُقرّ فيه الحسين بن علي بالسياسة الانتدابية في المنطقة وبتصريح بلفور. وقد تولى مهمة التفاوض عن الجانب البريطاني الضابط الشهير لورنس العرب (Lawrence). وبعد أشهر طويلة من المفاوضات، وبسبب اختلاف الطرفين على حدود الانتداب واستقلال العرب وحدود الحجاز مع نجد وعسير، فشل الطرفان في توقيع معاهدة.

أما المحاولة الثانية، فكانت في العام 1923، حين دارت مباحثات بين ممثل ملك الحجاز الدكتور ناجي الأصيل واللورد كيرزون (Curzon) وزير الخارجية البريطاني خلال مؤتمر لوزان. وقد سلّم الدكتور ناجي اللورد كيرزون مذكرة من الحسين بن علي كرر فيها مطالبه الثابتة في تنفيذ الوعود المقطوعة للعرب. وعقد الأصيل وكيرزون عدة اجتماعات تمخّضت عن اتفاق مبدئي بين الطرفين بشأن عقد معاهدة جديدة تُنظِم علاقة الفريقين، وتُشير - في الوقت نفسه - إلى التزام ملك الحجاز (وعرب الهلال الخصيب) بتصريح بلفور.

الفلسطينيون يحتجون والملك يستجيب

وخلال المؤتمر الفلسطيني السادس، الذي انعقد في يافا في حزيران/يونيه 1923 وترأسه موسى كاظم الحسيني، ناقش المجتمعون ما تسرّب من نص مسودّة المعاهدة العربية – البريطانية المُقترحة التي كان الدكتور الأصيل قد وقعها بالأحرف الأولى، وأصدروا بياناً يرفضون فيه "كل مشروع لا يضمن لها [فلسطين] مطالبها العادلة المعلومة ... من استقلال البلاد وإلغاء السياسة الصهيونية الفاضحة". كما عارض أعضاء المؤتمر بعض البنود المقترحة في المعاهدة العربية – البريطانية بخصوص فلسطين، مُطالبين رفع برقية عاجلة الى جلالة الملك الحسين بن علي تناشده رفض مسودة المعاهدة، وعدم ابرامها قبل اخذ رأي الأمة فيها.

وعلى الفور، أبرق موسى كاظم باشا الحسيني – رئيس المؤتمر واللجنة التنفيذية المنبثقة عنه – للملك الحسين بن علي بما قرره المؤتمر، فجاء رد الملك كما يلي:

"... مولانا أؤكد لكم ... أن عزمنا الأساسي المُؤملين تأييده بقدرة الله لا يمكن أن نتأخر عن واجباته مقدار شعرة، واعلموا أنها حركة عليها نحيا وعليها نموت ... فكونوا واثقين بالله بأنه لا يعترينا فتر أو كسل في سبيل تلك الغاية الشريفة، التي لا نريد منها إلا خدمة بلادنا وأبنائها إخواننا..."

وبالفعل، أوعز الملك الحسين إلى الدكتور ناجي الأصيل الطلب من وزارة الخارجية البريطانية الموافقة على مقترحات جديدة في المعاهدة المقترحة بشأن كون فلسطين تمثل جزءاً من المملكة العربية التي حُددت في الاتفاق مع السير هنري مكماهون عام 1916. لكن بريطانيا بعثت بمُذكرة إلى الملك حسين ضمّنتها موقفها وإصرارها على تنفيذ تصريح بلفور، وانتهت المفاوضات بعدم إقرار الحسين بن علي المعاهدة بصيغتها البريطانية.

وفي كانون الثاني/يناير من العام 1924، خطب الملك الحسين خلال زيارة إلى عمّان أمام الوفود العربية التي جاءت للترحيب به ما يلي: "لا اتنازل عن مبدأ واحد من المبادئ التي هي اركان النهضة العربية، ولن أتنازل عن حق واحد من حقوق البلاد، ولا أقبل الا أن تكون فلسطين لأهلها العرب، لا أقبل بالتجزئة ولا الانتداب ولا أسكت وفي عروقي دم عربي، ولن اوقع معاهدة إذا رفضت مطالبي وهي استقلال كل الأقطار العربية، واني عامل دائما في سبيل الوحدة العربية والاستقلال التام، اقول الاستقلال التام للأقطار العربية كلها".

تدفيع الثمن وفرّق تسُد

نتيجة لموقف الحسين من تهويد فلسطين ورفضة الاعتراف بتصريح بلفور، قررت الحكومة البريطانية تدفيع ملك الحجاز ثمناً غالياً... فقد كان من المؤكد، لو وافق الملك على مُسودّة المعاهدة مع بريطانيا التي فرضت عليه القبول بتصريح بلفور، أن يقوم البريطانيون بتثبيت العرش الهاشمي في الحجاز وحمايته. ولكن ثمن رفض الحسين توقيع المعاهدة المقترحة عام 1923 كان إنهاء الوجود الهاشمي في مملكة الحجاز.

استخدمت الحكومة البريطانية أسلوبها "التحتاني" المُفضّل – فّرق تسُد – فأخذت بالتضييق على ملك الحجاز، والخفض التدريجي للمساعدة المالية التي كانت تقدمها لحكومته إلى النصف ثم إلى الربع ... وبالمقابل زادت من دعمها لحكومة نجد بقيادة الملك عبد العزيز ابن سعود الذي كان منافساً للملك الحسين بن علي على عرش شبه الجزيرة العربية، وسهّلت تحرّك جيش الأخير بإتجاه الحجاز. وكعادتها، وعند اشتداد الخلاف، تدخلّت الحكومة البريطانية على أساس أنها الوسيط النزيه وأنها ترغب في حل النزاع سلمياً ... مع أنها كانت قد قررت سحب البساط من تحت الحسين بن علي وتدفيعه ثمن رفضه المستمر الموافقة على وعد بلفور!

وفي شهر آذار/مارس 1924، وعند إعلان مصطفى كمال أتاتورك رئيس جمهورية تركيا إلغاء الخلافة الإسلامية، أعلن الملك الحسين نفسه خليفةً للمسلمين. فعارض الملك عبد العزيز بن سعود إعلان الخلافة، وقام بتحريك القوات النجدية بإتجاه الطائف في آب/أغسطس 1924، فسارع الملك الحسين – بعد سماعه بتلك الأخبار – إلى إرسال نجله الأمير علي مع عدد من قواته لدرء الخطر الذي يُهدد الطائف، إلا أن القوات الحجازية أخفقت في إيقافهم، فاقتحمت القوات النجدية الطائف التي سقطت في 3 أيلول/سبتمبر1924، ولم تحرك الحكومة البريطانية ساكناً مع أنها كانت قد عقدت معاهدة مع حكومة نجد منذ كانون أول/ديسمبر 1915، وتدفع لها أيضاً مخصصاً شهرياً.

بعد هزيمة القوات الحجازية في الطائف، انتشرت الفوضى في البلاد، واقتربت القوات النجدية من مكة، فارتأى أعيان جدة – بعد التشاور مع أعيان مكة – مُطالبة الملك الحسين بالتنازل عن العرش بهدف إيقاف القتال، فأبرقوا له – في 3 تشرين الأول/أكتوبر 1924 – يبلّغونه بإجماع أهل الحجاز على ضرورة تنازله لنجله الأمير علي، وبأن الملك الجديد سيكون ملكًا على الحجاز فقط وليس ملكاً للعرب كما كان والده.

أذعن الملك الحسين لرغبة أعيان الحجاز، ونُودي بالأمير عليّ ملكًا على الحجاز، وجرت له البيعة على أن يخضع لشروط دستورية، وأن يُشكّل مجلساً نيابياً يُنتخب أعضاؤه من المدن الحجازية. ولكن جيش نجد واصل تقدّمه نحو مكة عاصمة المملكة الحجازية - رغم تدخّل العرب والفلسطينيين في محاولة لرأب الصدع - فدخلها في تشرين الأول/أكتوبر 1924، ثم حاصر جدّة. وبعد أكثر من عام، في 22 كانون الأول/ديسمبر 1925، اضطر الملك علي (الذي رفض أيضاً توقيع المعاهدة العربية البريطانية) إلى تسليم جدّة والإبحار إلى عدن على متن باخرة بريطانية، مُتوجهاً الى البصرة ثم إلى بغداد، ليستقر إلى جانب أخيه الملك فيصل.

أما الحسين بن علي، فعند تنازله عن عرش الحجاز غادر مكّة متوجهاً إلى جدّة، فوصلها في 9 تشرين أول/أكتوبر 1924. ولم يمكث بجدّة سوى أيام، غادرها بعد ذلك على ظهر سفينة متجهاً إلى العقبة، الذي ارتأى الإقامة فيها كونها (ومعان) كانت ما تزال جزءاً من مملكة الحجاز.

النفي إلى قبرص

تسبّب وجود الحسين بن علي في العقبة إزعاجاً مستمراً للبريطانيين، الذين كانوا قد قرروا ضم العقبة ومعان – آخر مناطق مملكة الحجاز غير المحتلة من قبل جيش نجد - إلى امارة شرق الأردن، الأمر الذي رفضه الملك الحسين كونه آخر معقل له في مملكته المحاصرة. وبالمقابل تكررت الزيارات للملك من قبل الوطنيين من فلسطين وشرق الأردن وسوريا والحجاز نصرة له والتفافاً حوله ... وكان على رأس عُوّاده الفلسطينيين موسى كاظم الحسيني رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الفلسطيني الذي زاره أكثر من مرة.

وفي منتصف كانون ثاني/يناير من العام 1925 زار موسى كاظم الحسيني - ومعه وفد مؤلف من الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى والحاج محمد مراد مفتي حيفا والأستاذ عبد القادر المظفّر - الملك الحسين بن علي للمرة الأخيرة خلال إقامته في العقبة – لتأييده وشد أزره وشكره بعد رفضه المصادقة على وعد بلفور واضطراره للتخلّي عن عرش الحجاز ثمناً لذلك الرفض.

تبين الصورة المرفقة الملك الحسين بن علي (الذي يلبس العمّة) وإلى جانبه موسى كاظم الحسيني (بالطربوش)، كما يظهر في الصورة الأمير زيد (إلى جانب الحسيني) ومن خلفهم الأمير عبد الله بن الحسين.

وفي حزيران/يونيه 1925، أرسلت الحكومة البريطانية بارجتين إلى العقبة وانذرت الملك الحسين بالمغادرة خلال ثلاثة أسابيع بحجة أن وجوده يعرض المنطقة للهجوم من قبل جيش الملك ابن سعود، وإلا ستقوم باحتلال العقبة ومعان بالقوة وتقوم بضمها إلى امارة شرق الأردن. عندها ذهب الأمير عبد الله بن الحسين إلى العقبة لإقناع والده بالجنوح إلى الهدوء ... وبعد أن قبّل يده قال: "يا ولي النعم، إن سياسة العنف والشدة لا تُفيد تجاه القوة، وقد قُمتم بواجباتكم نحو أُمّتكم وأدّيتم رسالتكم، فعلى الأمة العربية أن تقوم بواجباتها"، فأجاب الحسين بلهجة زعيم أبى الركوع وفضّل النفي على الرضوخ: "إن الأمة العربية مغلوبة على أمرها" ... ولمّا لم يستجب الملك للإنذار، وضعته القوات البريطانية على أحد البارجتين ونفته الى جزيرة قبرص.

وفي حادثة تدل على إخلاص عميق ومحبة بالغة لفلسطين، طلب الملك الحسين من مرافقه جميل شاكر أن يأتيه بقطع حجارة من أرض فلسطين قبل أن يستقّل السفينة بإتجاه قبرص، فنفّذ أمره وعندما أمسك بها قال: "لقد تنازلتُ عن عرشي ومُلكي حتى لا أفرط بفلسطين ومُقدساتها وما بها من هذه الكنوز، ونصيحتي لأبناء هذه البلاد بالوحدة والاتحاد".

وفي قبرص، أقام الملك حسين برفقة ابنه الأمير زيد بن الحسين وحفيده الأمير طلال بن عبد الله تحت رقابة مشدّدة. وفي أحد التصريحات النادرة له لأحد الصحافيين الفلسطينيين في منفاه القبرصي عام 1929، قال الحسين أنه "سيأتي يوم تعرف فيه الامة العربية أنني قمت بكل ما أوحاه عليّ الضمير والاخلاص، وضحيت بكل عزيز وغال ... غير ان تخاذلنا وتفرّقنا هو الذي ضيّع الآمال"، كما عبّر في لقائه هذا أن نفيه إلى قبرص كان نتيجة تعلقه الشديد بالقضية الفلسطينية وبالأخص قضية القدس وعروبتها، لأن فلسطين شكلت له محوراً مهماً من محاور الثورة العربية الكبرى.

الوفاة والدفن في الحرم القدسي الشريف

بعد أن اشتد عليه المرض في تشرين ثاني/نوفمبر 1930، سمحت الحكومة البريطانية للملك الحسين بالعودة الى عمّان، فأقام هناك عند ابنه الأمير عبد الله الى أن توفي بعد بضعة أشهر ... في 3 حزيران/يونيه 1931.

ولتثبيت القدس والأقصى في قلوب مؤيدي الثورة العربية الكبرى، تقدّم موسى كاظم الحسيني – باسم رئاسة اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الفلسطيني، والحاج أمين الحسيني - باسم المجلس الإسلامي الأعلى – بطلب إلى الأمير عبد الله بن الحسين أن يُدفن والده في القدس التي أحب – بل وخسر مملكته الحجازية من أجل التمسك بعروبتها ... فكان لهما ذلك، ووُرِيَ جثمان الملك الحسين بن علي في الرواق الغربي من الحرم القدسي الشريف.

وبعد أقل من ثلاث سنوات، في آذار/مارس 1934، دُفن الزعيم الفلسطيني موسى كاظم الحسيني الى جانب الملك الحسين بن علي – بل في نفس الغرفة – في المسجد الأقصى، إثر تلقيه ضربة على الرأس من هراوة جندي بريطاني اثناء قيادته لتظاهرة كبرى في يافا، سببت له نزيفاً في الدماغ. (وقد انضم إليهما عبد القادر الحسيني ابن موسى كاظم، قائد الجهاد المقدس الذي استشهد في معركة القسطل قرب القدس في الثامن من نيسان 1948، وفيصل الحسيني ابن عبد القادر، مسؤول ملف القدس في منظمة التحرير الفلسطينية إثر وفاته غير المتوقعة خلال زيارة إلى دولة الكويت الشقيقة في أواخر أيار/مايو 2001).

كذب وخداع بريطاني قابله تحدّي وتضحية عربية

حكاية نفي الشريف الحسين بن علي بسبب رفضه وعد بلفور دفعتني إلى نبش التاريخ الأغبر للإمبراطورية البريطانية من جديد، وفتح ملف المؤامرات الخسيسة ضد العرب، وفي الوقت نفسه، مراجعة التاريخ المُشرّف المجبول بالوطنية والتضحية لشخصيتين قوميتين هما الملك الحسين بن علي وموسى كاظم الحسيني. فقد رفض الأول الاعتراف بوعد بلفور البريطاني فكان من نصيبه تدمير مملكته الحجازية ونفيه إلى قبرص عام 1925، حيث لم يُسُمح له بالعودة إلى شرق الأردن إلا بعد اشتداد مرضه وقبيل وفاته عام 1931. أما الثاني، فقد رفض كذلك الاعتراف بوعد بلفور فكان نصيبه الإقالة من رئاسة بلدية القدس عام 1920، ومن ثم وفاته عام 1934 بعد ضربه بالهراوات وكان قد تجاوز الثمانين من العمر.

ولكن لم يكن هذان الزعيمان آخر من تآمرت عليهم بريطانيا وربيبتها الصهيونية، فالمؤامرة الصهيونية الامبريالية ضد فلسطين التي بدأت منذ 1917 لم تنته بعد، بل ما تزال مستمرة اليوم – بعد أكثر من مئة عام – والسبب ... عدم رضوخ الشعب الفلسطيني وتشبته الأسطوري بأرضه ووطنه رغم كل المؤامرات والمناورات!

وكما يبدو، فإن لعنة القدس ستطارد كل من يجرم بحقها ولو بعد حين ... فبعد أن قام الرئيس الأمريكي ترمب بنقل سفارة الولايات المتحدة في إسرائيل إلى القدس عام 2017، كانت النتيجة ليس فقط خسارته الانتخابات الأمريكية في العام 2020، بل تحولّه إلى منبوذ في بلده ومتهم بمحاولة إسقاط النظام الديمقراطي الأمريكي بالقوة ... كما أن أياً من دول العالم لم تتبع ما فعل.

ومؤخراً نادت رئيسة الحكومة البريطانية ليز تراس بصهيونيتها وبنيتها نقل سفارة بلادها من تل أبيب إلى القدس، فكان نصيبها الفشل الذريع في الحكم، واضطرارها للاستقالة بعد أسابيع من تعيينها، فقُذف بها أيضاً إلى مزابل التاريخ.

لكن الذكرى العطرة للحسين بن علي وموسى كاظم الحسيني ظلت خالدة، خصوصاً بعد دفنهما جنباً إلى جنب - وفي غرفة واحدة - في الحرم القدسي الشريف، في المدينة التي ضحّيا بالغالي والنفيس من أجل حمايتها والحفاظ عليها ... والتي ما زالت صامدة بعد أكثر من مئة عام من التآمر الصهيوني البريطاني الأمريكي بسبب الصمود الأسطوري لشعب فلسطين ورفضه للخنوع أو الركوع، والذي رضعه من آبائه وأجداده.

وبرغم المحاولات المستمرة من قبل الحركة الصهيونية والامبريالية الغربية وعملائهما لتشويه التاريخ الفلسطيني واتهام قياداته الوطنية بالتقصير والضعف والتفرّق وتفويت الفرص، إلا أن الشعب – وحتى يومنا هذا - لم يحد عن الموقف الوطني لقياداته التاريخية، ولم يقبل بوعد بلفور وما زال يضحي كل يوم بالغالي والنفيس كما فعل الحسين بن علي وموسى كاظم الحسيني وغيرهم من شرفاء الأمة العربية من أجل التحرر من نير الاحتلال واعادة القدس وفلسطين إلى أهلها وإقامة الدولة المستقلة ... وحتى يأتي التحرير فقد أقسم الشعب الفلسطيني على رفض وعد بلفور بكل ما يتضمن ذلك من معاني، مُصرّاً على أنه لا ركوع، ولا خنوع ولا استسلام تحت أي ظرف من الظروف.