|
النفايات الطبية...الخطر الصامت في المستشفيات
نشر بتاريخ: 03/11/2022 ( آخر تحديث: 03/11/2022 الساعة: 13:34 )
رام الله - تحقيق فراس الطويل - بقايا أعضاء بشرية، ومخلفات عمليات جراحية، مثل عمليات الولادة. حقن ودماء، وعبوات محاليل وأدوية. كلها مخلفات طبية تجمع في أكياس صفراء، كان من المفترض إرسالها إلى "المعالجة". لكنك تشاهدها في حاويات القمامة مختلطة مع النفايات العادية.
مشاهد يمكن رؤيتها في مجمع فلسطين الطبي برام الله (حكومي)، على بعد بضعة أمتار عن مقر وزارة الصحة - الجهة المخولة بالرقابة على إدارة النفايات الطبية في المرافق الصحية العامة والخاصة.
في هذا المجمع الذي يخدم مئات المواطنين يوميا، تتكدس النفايات داخل ثلاث حاويات في مساحة تقدر بـ 50 مترا مربعا في إحدى زوايا المجمع. بينها اثنتان مكشوفتان، والثالثة مغلقة مخصصة للنفايات الطبية.
المشهد يبدو "فوضويا"، فالنفايات تملأ الحاويات، بل وتملأ الأرضية المحيطة. لا فرز واضح للنفايات الطبية عن غيرها. أكياس صفراء مخصصة للنفايات الطبية، تختلط مع أكياس سوداء للنفايات الأخرى داخل الحاويات الثلاث. مشهد يبقى على حاله طيلة يوم من العمل لحين قدوم ناقلة النفايات في اليوم التالي.
وفي الليل، تصبح الزاوية نقطة جذب للقطط الباحثة عن الطعام. وأرضية المكان تتحول تدريجيا إلى اللون الأسود بسبب عصارة النفايات المتسربة، والروائح تزكم الأنوف خصوصا في الأيام التي يشهد فيها المجمع إقبالا أكثر من قبل المرضى.
العشوائية والفوضى في إدارة النفايات الطبية، ليست مقتصرة على مجمع فلسطين الطبي. إذ يوثق هذا التحقيق مشاهد مشابهة، وأخرى أكثر "فوضوية" في ستة مستشفيات (حكومية وخاصة) في وسط وشمال وجنوب الضفة الغربية. تحدث الفوضى والعشوائية في ظل رقابة "هشة" من قبل وزارة الصحة.
رحلة النفايات الطبية.. فوضى وعشوائية
تلتزم كل مؤسسة طبية عامة أو خاصة مرخصة قانوناً لممارسة المهن الطبية أو استقبال المرضى والمصابين وعلاجهم، بإدارة النفايات الناتجة عنها بفصل وفرز النفايات وتحديد أنواعها بدقة. واتباع الأساليب المختلفة -قدر الإمكان- لتقليل النفايات مثل الإعادة إلى المصدر، أو إعادة الاستعمال، أو التدوير، أو غيرها. والتحكم في كمية النفايات بالحد من خطورتها.
لكن هذا الالتزام المنصوص عليه في قرار مجلس الوزراء رقم (10) لسنة 2012 بنظام إدارة النفايات الطبية وتداولها، غير مطبق في كثير من جوانبه، على ما يكشف هذا التحقيق.
على مدار خمسة أيام متفرقة خلال شهري آب/ أغسطس وأيلول/ سبتمبر، وثق معد التحقيق، حالة النفايات الصادرة عن مجمع فلسطين الطبي.
يتم تجميع النفايات على اختلافها داخل الأقسام من دون مراعاة ما ورد في قرار مجلس الوزراء. تجمع بشكل عشوائي في غالب الأحيان. أظهرت صور ومقاطع فيديو وثقها التحقيق، إلقاء مخلفات طبية متنوعة داخل أحد ممرات المستشفى، لدرجة أن الحاويات الصغيرة امتلأت عن بكرة أبيها، وفاضت المخلفات على الأرض، فيما يبدو أن عمال النظافة تأخروا في نقلها إلى الخارج.
وفق النظام المعمول به، يجب أن تفرز النفايات ابتداء من داخل الأقسام، لكن الصور أظهرت عكس ذلك.
هذه الآلية "العشوائية" ليست حالة استثنائية، فقد أكد ممرض طلب عدم كشف اسمه، أن الفوضى "أكبر مما نتخيل، وأفظع مما نقلته الصور". يشير الموظف إلى أن الأقسام تحاول القيام بالفرز الأولي، لكن مع "ضغط العمل" خصوصا يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع، تغلب الفوضى. وأكد على حالة الفوضى هذه، موظف آخر يعمل في قطاع النظافة: "زي ما أنت شايف، بنجمع كل شي في هذه الحاويات".
بعد التجميع داخل الأقسام، ترسل النفايات كما هي بلا فرز إلى نقطة التجميع الخارجية، قرب استراحة المجمع "الكافيتريا" التي يرتادها العشرات يوميا. يجمع موظفون يتبعون شركة خاصة، النفايات في حاويات صغيرة (خضراء وصفراء)، ويلقون بها في الحاويات.
في الساحة المخصصة، تمتلئ حاوية النفايات الطبية المغلقة في الساعات الأولى من النهار. وتظهر من نوافذها عبوات محاليل طبية، وفي الأسفل توجد أكياس صفراء (مخصصة للنفايات الطبية).
بعد ذلك، يبدأ عمال النظافة بطرح النفايات -طبية وعادية- داخل الحاويتين المجاورتين. ما أن يهبط الليل، حتى تمتلئ الحاويات تماما، لتلقى الأكياس المجمعة من الأقسام على الأرض، وتبقى على حالها حتى صباح اليوم التالي؛ موعد قدوم شاحنة النفايات "الضاغطة" التابعة لبلدية رام الله، لتفريغ الحاويات، ونقل حمولتها إلى محطة الترحيل في المنطقة الصناعية بالمدينة. هذه الشاحنة غير مخصصة لنقل النفايات الطبية، خلافا لما نص عليه نظام إدارة هذه النفايات وتداولها. وهناك تشحن إلى مكب زهرة الفنجان، في شمال الضفة، نظرا لعدم توفر مكب صحي في منطقة الوسط.
ويتوفر في محطة الترحيل، جهاز صغير (سعته 50 كيلو غرام) لحرق النفايات الطبية، التي تجمعها البلدية من مستشفيات متعاقدة معها، مثل "الاستشاري العربي".
في المقابل، توجد في المشفى وحدة لمعالجة (تعقيم) النفايات الطبية قبل التخلص منها، ونقلها إلى مكب بلدية رام الله (محطة الترحيل). توضع عند باب الغرفة بضعة أكياس ورقية مغلفة بالبلاستيك بداخلها نفايات معالَجة. لاحظ معد التحقيق وجودها في الأيام الخمسة التي تجول فيها داخل المجمع. هذه الأكياس تدلل على أن جزءا من النفايات الطبية يخضع للمعالجة. لكن الجزء الآخر يخلط مع النفايات العادية. جزء لا يخلو من نفايات قد تكون مسببة للعدوى، مثل الحقن، و"البرابيش" الطبية الخاصة بمرضى غسيل الكلى، وهذا ما أظهرته الصور.
وإلى شمال الضفة، كان المسير نحو مشفى الشهيد ثابت ثابت الحكومي. في الركن الخلفي للمشفى، توجد حاوية مكشوفة، يلقي فيها موظفو شركة خاصة النفايات بغض النظر عن نوعها.
وخلال جولة في المشفى، كان صادما رؤية كيس أصفر (مخصص للنفايات الطبية)، وفوقه كفوف طبية، داخل أحد الممرات، فيما يبدو أن عاملا قد نسي أو تكاسل عن إرساله إلى الحاوية.
خلال ساعتين من المراقبة، بدأت الحاوية بالامتلاء رويدا رويدا. كل ربع ساعة تقريبا، يأتي موظف يجر عربة خضراء، ويفرغ حمولتها من الأكياس الصفراء والسوداء داخل الحاوية. وقبل أن يعاود أدراجه لتعبئة العربة، يفرغ ما بقي فيها من سوائل على الأرض، بمحاذاة الحاوية. أرض تحولت إلى الأسود، بسبب السوائل.
وفي طريق العودة في نفس اليوم، مررنا إلى مستشفى رفيديا الحكومي في نابلس. لم يكن المشهد مختلفا. لحظة الوصول هناك الساعة الخامسة مساء، كانت شاحنة مكشوفة تابعة لبلدية نابلس تهم بمغادرة ساحة المستشفى الخلفية، بعد أن انتهى موظفوها من جمع نفايات بأكياس صفراء، ما يؤشر إلى أن ما بداخلها عبارة عن نفايات طبية.
طريقة نقل النفايات من المشافي إلى المكبات من قبل الهيئات المحلية لا تتم ضمن المواصفات المنصوص عليها في النظام المذكور. تعتمد البلديات "غالباً" على سيارات النفايات العادية "الضاغطات"، مثل بلدية رام الله. أو سيارات عادية مكشوفة مثل بلدية نابلس. إجراءات لا تلبي الحد الأدنى المنصوص عليه في النظام، وفق ما يكشف التحقيق من خلال جولات ميدانية.
المادة (32) من قرار مجلس الوزراء رقم (10) لسنة 2012 بنظام إدارة النفايات الطبية وتداولها
يجب أن تتوفر في المركبة المخصصة لنقل النفايات خارج المؤسسة المواصفات الآتية:
1. أن تكون مخصصة لنقل النفايات فقط ويمنع استخدامها لأي أغراض أخرى، وأن يكتب على جسم المركبة الخارجي: أ. عبارة “نفايات طبية” مع الرموز المناسبة المتعارف عليها. ب. رقم هاتف الطوارئ للاتصال به في حالة حدوث طارئ. ج. اسم وعنوان الناقل ورقم هاتفه الأرضي والنقال.
2. أن تكون مزودة بغطاء محكم ويمنع استخدام المركبة المفتوحة والمزودة بضاغط.
3. أن تكون مقطورة النفايات منفصلة عن مقطورة السائق ومزودة بنظام لربط الحاوية داخل المقطورة لتثبيتها، ومصمماً بطريقة تمنع وصول الصدمات إلى النفايات أو تسربها أو انسكابها حتى عند وقوع الحوادث.
4. أن يكون السطح الداخلي للمركبة أملساً وخالياً من الزوايا، وسهلاً للغسل والتعقيم بعد كل نقل وتفريغ للنفايات.
5. أن تكون المادة المصنوعة منها المركبة قادرة على الصمود ضد التآكل بسبب المحاليل والمواد الكيميائية ومواد التنظيف.
6. ألا يقل ارتفاع الجسم الداخلي لمقطورة النفايات عن 1.85 متر.
7. أن تكون سعة المركبة مناسبة لكميات النفايات التي تقوم بنقلها وقابلة للتبريد في حال بقاء النفايات فيها لمدة تزيد عن ست ساعات.
وإلى جنوب الضفة الغربية، لم تكن الصورة أفضل حالا في مستشفى عالية الحكومي. هذا المكان الذي يخدم عشرات الآلاف من السكان، تتجمع في أحد زواياه النفايات مكشوفة بلا أي نوع من الفرز. على الأقل، كان ذلك في أحد الأيام الأخيرة من شهر أيلول/ سبتمبر. قد تعتقد أن الساحة عبارة عن مكب عشوائي، اختلط فيه ما هب ودب من مخلفات الرعاية الصحية والنفايات الأخرى. ولكن قد يقول قائل إن ذلك المشهد يمكن أن يكون حدثا عابرا نتيجة خلل ما في جمع النفايات. حصلنا على صور أخرى من نفس المكان في يوم آخر، وكانت النتيجة مشابهة.
هل المشافي الخاصة أفضل حالاً؟
ليس بعيدا عن مشفى رفيديا الحكومي، كانت الوجهة صوب المستشفى العربي التخصصي (خاص). هناك، على يسار بوابة قسم الطوارئ، حاوية مخصصة للنفايات الطبية، كانت ممتلئة بالأكياس الصفراء. وأظهرت الصور أن الحاوية استقبلت أكياسا أكثر من سعتها بكثير. وعلى بعد أمتار خارج أسوار المستشفى، كانت حاوية للنفايات العادية. بالاقتراب أكثر منها، التقطت عدسة الكاميرا أكياس صفراء داخلها.
وفي طولكرم، أمام مستشفى الإسراء التخصصي (تابع للجنة الزكاة في المدينة)، توجد ثلاث حاويات من الحجم الصغير أمام المبنى على رصيف الشارع. تجمع فيها النفايات من دون فرز، وتنقل في سيارات البلدية إلى مكب زهرة الفنجان.
مشهد آخر في مدينة البيرة. أمام مستشفى "إتش كلينك" التخصصي، تجمع النفايات في حاوية قرب المستشفى على الشارع بمحاذاة المارة والسيارات. أكوام من النفايات تملأ الحاوية يوميا. إذا ذهبت إلى هناك في ساعة باكرة، تستطيع رؤية "المفارش الطبية"، والعبوات و"البرابيش" متدلية من الحاوية، وأكياس صفراء من المؤكد أنها تحوي نفايات طبية. وتنقل بعد ذلك بشاحنة البلدية إلى محطة الترحيل، ومن ثم إلى زهرة الفنجان. هذه المشاهدات وثقها التحقيق على مدار خمسة أيام متفرقة في الأشهر الثلاثة الماضية.
عاملون بلا حماية
لا يقل التعامل مع العاملين في جمع النفايات الطبية داخل المشافي الحكومية على وجه الخصوص "عشوائية" عن طريقة جمع النفايات نفسها. ورغم أن النظام الخاص بإدارة النفايات الطبية وتداولها شدد على ضرورة توفير سبل الحماية، إلا أن كثيرا من هذه الإجراءات لم تُأخذ على محمل الجد.
تتعاقد المشافي الحكومية (من خلال وزارة الصحة)، مع شركات خاصة لتوريد عمال النظافة. ومن خلال التدقيق في طريقة عمل هؤلاء الموظفين، يتضح أنهم غير مؤهلين للتعامل مع النفايات الطبية. بل أن كثيرا منهم من الفئة البسيطة "غير الواعية" لخطورة العمل الذي يقومون به (هذا انطباع معد التحقيق بعد تحدثه مع عدد منهم في مستشفيات مختلفة).
هم بالأساس يقومون بأعمال تنظيف المرافق، وتوكل لهم مهمة جمع النفايات بشكل عام، دون تحديد الطبية منها، ما يعرضهم لمخاطر العدوى والأمراض.
المادة (6) من قرار مجلس الوزراء رقم (10) لسنة 2012 بنظام إدارة النفايات الطبية وتداولها
تلتزم المؤسسة بإجراءات لحماية موظفيها العاملين في إدارة النفايات على النحو الآتي:
1. تعيين موظفين مدربين ومؤهلين مسؤولين عن إدارة النفايات.
2. تدريب الموظفين المسؤولين عن إدارة النفايات وفق برنامج يتضمن ما يلي:
أ. التدريب الدوري على عمليات إدارة النفايات.
ب. توعية الموظفين حول أخطار النفايات وتزويدهم بمعلومات عن هذه الأخطار الناتجة عن الأقسام المختلفة والإجراءات الواجب اتباعها عند وقوع أي حادث.
3. وضع الموظفين بطاقات تعريف وارتداء القفازات والمعاطف الواقية منعاً لتعرضهم لأية أخطار، والتقيد بأحكام السلامة العامة.
4. إجراء فحوصات طبية دورية للموظفين بشكل عام ،وموظفي إدارة النفايات بشكل خاص وتطعيمهم.
5. التأمين لدى إحدى شركات التأمين المرخص لها العمل في فلسطين، ضد المخاطر المحتملة التي قد تترتب على عمليات إدارة النفايات.
6. إنشاء سجل خاص للموظفين الذين يتولون مهام إدارة النفايات.
الرقيب لا يُراقِب"
مهمة الرقابة على إدارة النفايات الطبية موكلة -بموجب النظام المذكور- إلى وزارة الصحة حصرا. وبموجب المادة (55)، تختص الوزارة بصلاحية الرقابة والإشراف على المؤسسات، وذلك من خلال "ضمان قيام المؤسسة بجميع المراحل الخاصة بإدارة النفايات منذ جمعها حتى تسليمها للناقل، واتخاذ التدابير العاجلة والوقائية اللازمة لتفادي الأخطار التي قد تنتج عن سوء التعامل مع النفايات والحيلولة دون تفاقمها واستمرارها. ومراقبة نشاط المؤسسة والتأكد من تطبيق أحكام اللوائح والأنظمة الداخلية للمؤسسة. واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لمتابعة المؤسسات المخالفة. وتقديم النصح والإرشاد للمؤسسات الطبية فيما يتعلق بتطبيق أحكام هذا النظام.
على أرض الواقع، لا تعكس أكوام النفايات الطبية في ساحة مجمع فلسطين الطبي وجود إجراءات من تلك التي نص عليها النظام. ولا حتى الإجراءات التي تسبق وصول النفايات إلى الساحة. وبالطبع، الصور تتحدث عن هذا الغياب الرقابي.
ويؤكد على هذه النتيجة، الممرض الذي تحدث لمعد التحقيق. لم يلاحظ الممرض (طلب عدم كشف هويته خوفا من الملاحقة)، قدوم أي طاقم رقابي للتفتيش على إدارة النفايات الطبية تحديدا: "لا، ولا مرة شفناهم.. ليش هو في رقابة". ولكن المصدر أشار إلى أن لجنة من الوزارة تزور المجمع مرة في السنة، مهمتها إصدار تقرير عن أداء المستشفى من جوانب عدة، من بينها "التأكد من النظافة قبل العمليات، ومتابعة عمال النظافة، والتأكد من الالتزام بالدوام".
حصل معد التحقيق على رسالة موجهة عبر تطبيق "واتس آب"، من مدير أحد الأقسام في المجمع الطبي، إلى موظفيه (عددهم 28)، تخبرهم فيها أن اللجنة الوزارية ستزور القسم غدا. كانت الرسالة في تاريخ 17 أيلول/ سبتمبر الماضي، أي قبل قدوم اللجنة بيوم. دعا المدير موظفيه إلى الالتزام بالدوام، والتأكد من تطبيق المعايير الأساسية "التي أكدنا عليها في اجتماعاتنا المتكررة".
"هناك من يخبر الأقسام في المجمع بمواعيد قدوم اللجنة"، يقول المصدر غير متأكد مما إذا كان تسريب الموعد قد حصل بشكل رسمي، أم من خلال موظفين في الوزارة.
يتغير كل شيء في القسم. تأتي أعداد مضاعفة من عمال النظافة لتنظيف كل شيء. وحينما جاءت اللجنة، "دخلت إلى مكتب المدير، وعملت لفة في القسم، وكتبوا تقريرهم على المطرح"، بتعبير الممرض.
وفق وزارة الصحة، بلغ عدد الأسرة في 89 مستشفى بالضفة الغربية وقطاع غزة 7769 سريراً في نهاية 2021. ويخلف كل سرير بالمعدل اليومي 1.28 كيلو من النفايات الطبية (وفق النظام الوطني المعتمد خلال العام 2012)، بواقع 300 طن تقريباً في الشهر، أي 3600 طن سنوياً (هذا الرقم لا يشمل النفايات الناتجة عن المراكز والعيادات الخاصة). وهذه الكمية معرضة للتضاعف أكثر من مرة، في حال اختلاطها بالنفايات العادية، وهو أمر يحدث في مشافي حكومية وخاصة.
تضارب صلاحيات
من غير المعقول أن تكون الجهة التي تقدم الخدمة الطبية، هي نفسها التي تراقب على جودة تقديم الخدمة. هذه مشكلة في القانون المقر عام 2012، تقول الخبيرة البيئية، أخصائية إدارة النفايات الصلبة د. ريم مصلح.
في ذلك العام، رفضت الوزارة أن يكون هناك شركاء في عملية الرقابة والتفتيش، خصوصا سلطة جودة البيئة. فالأخيرة -بحسب مصلح- لا تستطيع الدخول إلى المستشفيات للقيام بأي دور رقابي.
وتتابع: "وزارة الصحة تشرف على القانون ولا تنفذه، يعني الوزارة بدها تخالف حالها!"
وترى أن ملف النفايات الطبية "ولا مرة كان يحظى بأولوية لدى الوزارة، التي تركز على التحويلات الطبية، وتقديم الخدمات والتأمين الصحي، وإنشاء العيادات". وهذا يعني بنظرها، عدم الاهتمام بالجوانب التكميلية الأساسية للصحة العامة، مثل النفايات الطبية.
وتدلل مصلح على ذلك، بأن الجهة المخولة بالرقابة داخل الوزارة، عبارة عن قسم "صغير" تابع لدائرة صحة البيئة التابعة للإدارة العامة للرعاية الصحية الأولية، ليس بمقدوره متابعة ملف من هذا النوع، ما يعني وجود خلل بنيوي أدى إلى "فوضى" النفايات الطبية في المشافي الحكومية والخاصة على حد سواء.
ما تشترطه وزارة الصحة على المستشفيات والمراكز الخاصة في ملف النفايات الطبية (لمنحها الترخيص أو تجديده)، أن يكون لديها عقد مع شركة أو مجلس خدمات للتخلص من النفايات، وفي المقابل لا توجد شركات مؤهلة، وهذا الأمر لا يحقق إدارة متكاملة، وفق مصلح.
التحسن الذي طرأ في هذا الملف يقتصر على توفر أعداد كافية من أجهزة تعقيم النفايات الطبية، خصوصا في ظل جائحة كوفيد-19، لكن مصلح تقول، إن توفر الأجهزة لا يحقق إدارة متكاملة ما لم يقترن بتطبيق عمليات فرز وجمع وتعقيم فعالة، وطواقم مدربة، ورقابة دقيقة، وصيانة مستمرة للأجهزة.
وبعد إطلاعها على ما لدينا من صور وثقناها من مستشفيات حكومية وخاصة، خلصت مصلح إلى استنتاج مفاده: "يوجد سوء إدارة لملف النفايات الطبية، يؤدي إلى وضع غير مسؤول من ناحية الصحة العامة". مشيرة إلى أن هذا الواقع يسبب مشاكل خصوصا للأشخاص الذين يتعاملون مباشرة مع النفايات الطبية "أي شخص يلمس هذه النفايات معرض للمرض والعدوى". علاوة على ذلك، تؤثر النفايات الطبية الكيميائية غير المعالجة على المياه الجوفية، بفعل تسرب عصارتها بعد نقلها إلى المكبات، بحسب مصلح.
كيف ردت وزارة الصحة؟
جاء رد الوزارة مؤكدا على أن ملف إدارة النفايات الطبية شهد في الأعوام العشرة الأخيرة قفزة نوعية، من خلال توفير أجهزة للمعالجة. كما أن العام المقبل سيشهد اختلافا كبيرا في هذا الملف، بحيث لن يتم ترخيص أي منشأة تقدم خدمات طبية، إلا بعد توقيعها على عقد مع شركة لإدارة النفايات، وفق رئيس قسم الصرف الصحي والنفايات الصلبة، في دائرة صحة البيئة م. محمود عثمان. مشيرا إلى أنه "لدينا 70 - 80 بالمائة إدارة متكاملة للنفايات الطبية".
لكن المفاجأة بدت واضحة على وجه عثمان، بعد عرض صور تظهر عشوائية في جمع النفايات الطبية في عدد من المشافي ومن بينها مجمع فلسطين الطبي، خلال ندوة حوارية نظمها كل من مركز العمل التنموي/ معا، وشبكة المنظمات الأهلية البيئية الفلسطينية، الشهر الماضي.
اعترف عثمان بوجود المشكلة بسبب "نقص الكوادر والإمكانيات اللوجستية". وتابع مبررا: "كان لدينا في دائرة صحة البيئة قرابة 120 مفتش صحة قبل نحو أربعة أعوام، ومن تقاعد أو توفي لم يتم تعيين بديل له، واليوم تناقص العدد إلى 90 مفتشاً، فالعمل يتضاعف والكادر يتناقص".
وأضاف: "الطواقم لدينا أحيانا تقوم بفصل النفايات في الأقسام، وهم يعرفون أن لديهم حاوية واحدة سرعان ما تمتلئ، وبالتالي يتوقفون عن الفصل، لذلك مطلوب إدارة متكاملة".
وفيما يتعلق بالرقابة على مستشفيات القطاع الخاص والأهلي، قال عثمان إن وزارته لا تستطيع إلزام هذه المشافي بتطبيق النظام وهي نفسها لا تطبقه.
الأثر البيئي (منظمة الصحة العالمية) يمكن أن تشكل معالجة مخلفات الرعاية الصحية والتخلص منها مخاطر صحية غير مباشرة من خلال إطلاق مسببات الأمراض والملوثات السامة في البيئة.
يمكن أن تلوث مكبات القمامة مياه الشرب إذا لم تكن مبنية على نحو سليم. وتوجد مخاطر مهنية في مرافق التخلص من المخلفات التي لا تصمم أو تدار أو تتم صيانتها بشكل جيد. يتم حرق المخلفات على نطاق واسع، ولكن حرقها على نحو غير ملائم أو حرق المواد غير الملائمة يتسبب في إطلاق الملوثات في الهواء وإطلاق بقايا الرماد. ويمكن أن تولد المواد المحروقة المحتوية على الكلور ديوكسينات وفيورانات، وهي مواد مسرطنة للإنسان ووُجدت صلة بينها وبين مجموعة من الآثار الضارة للصحة. ويمكن أن يؤدي حرق الفلزات الثقيلة أو المواد المحتوية على نسبة عالية من الفلزات (وخصوصاً الرصاص والزئبق والكادميوم) إلى انتشار الفلزات السامة في البيئة. المحارق الحديثة التي تعمل عند درجات حرارة تتراوح بين 850 و1100 درجة مئوية والمزودة بمعدات خاصة للتخلص من الغازات هي فقط التي يمكن أن تمتثل للمعايير الدولية الخاصة بانبعاثات الديوكسينات والفيورانات. وتوجد الآن بدائل للحرق، مثل المعقمات العالية الضغط، ومعالجة البخار المتكاملة مع المزج الداخلي، والمعالجة الكيميائية
سلطة البيئة: ليس دورنا
صحيح أن نظام إدارة النفايات الطبية لم يمنح سلطة جودة البيئة صلاحية الدخول إلى المستشفيات للرقابة على مخلفات الرعاية الصحية، لكن المادة (58) أوكلت إليها صلاحية الرقابة والإشراف على عمليات نقل النفايات الطبية، ووحدة المعالجة، وأماكن التخزين المؤقت، ومكب النفايات. وهي أدوار لم تقم بها سلطة البيئة لأسباب أرجعها مدير دائرة النفايات الصلبة والخطرة إبراهيم عبسة إلى الأزمة المالية التي تواجه الحكومة، وما يترتب عليها من نقص في الكوادر والإمكانيات.
وفي تعليقه على صور النفايات في أماكن التجميع داخل المشافي ومحطات الترحيل، التي عرضت أثناء الندوة، قال عبسة: "أنا مشمئز من هذه المناظر، ودور كل الجهات يجب أن يكون أكبر للوقوف عند كل خطأ ومعالجته، لكن بموجب النظام هذا ليس دور سلطة جودة البيئة". ومع ذلك، قال عبسة إن سلطته ستحاول مع وزارة الصحة معالجة المشكلة في حال تلقيها شكاوى بالخصوص.
في المقابل، تتوقع وزارة الحكم المحلي أن تكون الأراضي الفلسطينية مغطاة بالكامل بنظام لمعالجة النفايات الطبية بحلول عام 2024، من خلال مشروع تطوير القدرات في إدارة النفايات الصلبة الممول من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي، بحسب م. يسرية رمضان، خبيرة نفايات صلبة في الإدارة العامة لمجالس الخدمات المشتركة بالوزارة. وبدأت أولى مراحل تطبيق النظام بشكل تجريبي في محافظة رام الله والبيرة من خلال مجلس الخدمات المشترك، عبر إقامة محطة لمعالجة النفايات الطبية، في قرية بيتين. ومن المقرر انتقال التجربة إلى بقية المحافظات ضمن المشروع.
وحتى إن توفرت الأجهزة اللازمة للمعالجة، ستبقى مشكلة النفايات الطبية قائمة، ما لم يتم اتباع إدارة متكاملة من لحظة صدور هذه المخلفات داخل الأقسام، وخروجها إلى أماكن التجميع، ومن ثم إلى المعالجة، وصولا إلى المكبات. وأي خلل في هذه السلسلة سيبقي الوضع على حاله، وستبقى أكوام النفايات الطبية متصدرة المشهد "الصحي". مشهد ينذر بمخاطر صحية وبيئية، إلا أنه في المقابل، يشكل "ملاذا" للقطط والكلاب الباحثة عن الطعام.
مجلة آفاق البيئة والتنمية |