وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

عرفات واللحظة الراهنة

نشر بتاريخ: 11/11/2022 ( آخر تحديث: 11/11/2022 الساعة: 17:07 )
عرفات واللحظة الراهنة

مصطفى بشارات

كما كان ياسر عرفات "رقما صعبا" في حياته، يستمر كـ "رقم صعب" بعد وفاته، هذا ما تؤكده المهرجانات وجملة الفعاليات التي ينظمها الفلسطينيون يوم الحادي عشر من تشرين الثاني من كل عام، وهو تاريخ استشهاد أبي عمار عام 2004.

لا أحد من الفلسطينيين يختلف على أهمية ورمزية استذكار عرفات في هذه المناسبة تماما كما حالهم في "عدم الاختلاف عليه" أثناء حياته وإن "اختلفوا معه" كما تنبئنا السردية الفلسطينية الدارجة.

التحولات الكبرى في تاريخ الشعوب لا تصنعها سوى الحروب، هكذا يقول (غاستون بوتول) الذي خلص في كتابه المعنون بـ (ظاهرة الحرب) إلى " أنه لمن المستبعد أن يستطيع التاريخ الكف كليا عن كونه «تاريخ الحروب»".

لا يمكننا الحديث في الحالة الفلسطينية عن حروب بالمعنى الكلاسيكي للكلمة لظروف وإمكانيات الشعب الفلسطيني التي لا تخفى على أحد وتفوق "إسرائيل" الذي مكنها من القيام بكل ما قامت به، بما في ذلك انتصارها على الجيوش العربية. بالطبع، الأمر مختلف بالنسبة للمقاومة؛ فمجرد صمودها وقدرتها على البقاء بعد أي عدوان إسرائيلي، وثبت ذلك في أكثر من محطة من التاريخ الفلسطيني المعاصر، يعد انتصارا لها.

المتتبع لمسيرة ياسر عرفات الكفاحية يمكنه الاستنتاج أن هذا التكتيك لم يغب يوما عن تفكير عرفات المعروف بـ "حنكته"؛ لذلك قرر المضي إلى أبعد مدى مع "إسرائيل" بعد أن اقتحم أرئيل شارون زعيم المعارضة الاسرائيلية صبيحة يوم الخميس 27 سبتمبر/أيلول 2000 باحات المسجد الأقصى المبارك بحماية نحو ألفين من الجنود والقوات الخاصة، وبموافقة من رئيس الوزراء الاسرائيلي حينها إيهود باراك.

ذلك الاقتحام الاسرائيلي العنيف والمسلح، وسالت بسببه دماء المصلين الفلسطينيين "كالشلال" وفق ناجح بكيرات نائب مدير الأوقاف الاسلامية في القدس، كان كفيلا باندلاع موجهة من العمليات المسلحة شاركت فيها معظم الفصائل الفلسطينية وفي مقدمتها حركة فتح التي يتزعمها ياسر عرفات.

اقتحام شارون لباحات الحرم القدسي الشريف، كان بمثابة الشرارة التي أشعلت هذه الموجة من المواجهات التي استمرت حتى عام 2004 وعرفت بـ "انتفاضة الأقصى"، إلا أن صاعق التفجير حمله معهم المفاوضون الاسرائيليون العائدون من كامب ديفيد بعد فشل بارك في انتزاع اعتراف من ياسر عرفات ينهي ملف الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي خلال القمة التي جمعتهما في الفترة من 11 إلى 25 يوليو 2000 برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون حينها.

عاد الراحل عرفات من كامب ديفيد ولم يكن يساوره أي شك بأن "إسرائيل" عازمة على التنكر للحقوق الفلسطينية بحدها الأدنى المتمثل بـ 22% من فلسطين الانتدابية حتى مع قبول الفلسطينيين لتبادل محدود ومتفق عليه للأراضي و" القبول بسيطرة وليس سيادة إسرائيلية على الحي اليهودي في القدس الشرقية وعلى الجدار الغربي للحرم القدسي الشريف".

]وفق ما نقل عن مجريات قمة كامب ديفيد التي كانت شفهية ولم يكن هناك سجل مكتوب للمحادثات فيها، فإن " باراك أصدر تعليماته إلى مندوبين له بالتعامل مع النزاع على أنه «القضية المركزية التي ستقرر مصير المفاوضات» في حين حذر عرفات وفده من «عدم التزحزح عن هذا الشيء الواحد: الحرم أغلى من كل شيء آخر». ومما نقل أيضا فإن الموقف الفلسطيني أكد على أنه: "يجب إعادة القدس الشرقية بالكامل إلى السيادة الفلسطينية. ولابد من وضع الحي اليهودي والجدار الغربي تحت السلطة الإسرائيلية، وليس تحت السيادة الإسرائيلية. بحيث تكون القدس مدينة مفتوحة ويتعاون الجانبين في الخدمات البلدية"، فيما " حذر باراك الأميركيين من أنه لا يستطيع قبول منح الفلسطينيين أكثر من مجرد سيادة رمزية محضة على أي جزء من القدس الشرقية".[

اتفاقية أوسلو الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" في 13 تموز 1993 حددت " فترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات، للوصول إلى تسوية دائمة بناء على قراري الأمم المتحدة 242 و338، بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية". وحين حسم الراحل ياسر عرفات أمره بالذهاب إلى أبعد مدى مع "إسرائيل" لم تغب عن ذهنه هذه الواقعة - انقضاء السنوات الخمسة كاملة وأكثر دون أي جديد - لكن لحظة الحقيقة باتت بالنسبة إليه ساطعة ليمضي قدما فيما عزم عليه حين أفضت قمة كامب ديفيد إلى "فشل مطبق" وكانت فعلة شارون الشنيعة باقتحام الحرم الشعرة التي قسمت ظهر البعير؛ فكان على عرفات الشروع بتنفيذ ما حسم أمره عليه، دون تردد أو إبطاء أو تأجيل!

بصرف النظر عن كل ما قيل، سلبا أو ايجابا، حول نتائج "انتفاضة الأقصى"، بما في ذلك الدوافع الأخرى المحتملة لاندلاعها، إلا أنها، في المحصلة، عطلت حصول "إسرائيل" على اعلان فلسطيني ينهي الصراع على أساس هزيل لا يلبي أدنى الحقوق الفلسطينية. بذلك كانت خطوة الرئيس الشهيد ياسر عرفات بمثابة خطوة اعتراضية في محلها تماما، خطوة "تشتري الوقت لمزيد من الصمود الفلسطيني حتى تأتي فرصة مواتية لحسم أفضل"، إن صح التعبير.

دون "كليشيهات عاطفية" تغفل "البدايات" التي هي دائما أساس "النهايات"، لم يغب ياسر عرفات يوما عن أذهان الفلسطينيين، ولعل ذكراه تملك عليهم كل قلوبهم وعقولهم اليوم، تحديدا في هذه اللحظة الراهنة التي تذهب فيها "إسرائيل" إلى آخر ما لديها من خيارات نحو شطب الحقوق الفلسطينية، أو ربما التخلص من الفلسطينيين أنفسهم: كيف لا وهم إزاء هذا التحالف اليميني واليميني المتطرف الذي بات قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى سدة "الحكم الاسرائيلي"؟!

رحم الله الفارس الشجاع والنبيل أبا فراس الحمداني وهو يقول:

سَيَـذْكُـرُنـي قـومــي إذا جَــــدَّ جِــدُّهُــمْ // وفـــي اللّـيـلـةِ الظَّـلْـمـاءِ يُـفْـتَـقَـدُ الــبَــدْرُ

وهل هناك ليل أحلك من هذا الليل الذي يحل اليوم بالقضية الفلسطينية ليتذكر فيه الفلسطينيون ياسر عرفات قائدهم والاسم الحركي لفسطينهم؟؟!!