وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

أين "عرين الأسود"؟

نشر بتاريخ: 13/11/2022 ( آخر تحديث: 13/11/2022 الساعة: 01:10 )
أين "عرين الأسود"؟

البعض يعتقد أن مجموعة "عرين الأسود" مجرد حالة نضالية اتسمت بالتسرع في الفعل، والسرعة في الانطفاء لعواملٍ ذاتية، واحتلالية، في حين أن فريقٌ آخر يرى أن هذه الحالة، وإن تعرضت إلى تحجيمٍ وقيود، ما زال رمادها يقوى على الاشتعال من جديد.

وبين من يذهب إلى سيناريو الانطفاء، في مقابل إمكانية الاشتعال من جديد، نؤكد، بداية، على أن فلسطين، ومنذ تاريخها العميق والعريق، أنجبت، ولا تزال، أحراراً وثوراً. هذه البلاد المقدسة المباركة التي تعرضت لأكثر من ثلاثين مستعمراً وغازياً على مر تاريخها الطويل لم تستسلم لقاتلٍ، ولن تتنازل لقويٍ، ولم تهادن، يوماً، سفاحاً أو ظالم.

هذه الأرض، بشعبها العظيم، ومنذ قرنٍ وأزيد تواجه أبشع حركة استئصالية عنصرية عرفها التاريخ البشري؛ إنها الحركة الصهيونية التي قذفت لنا مولوداً شيطانياً مشُوهاً؛ شيطاناً لا يُجيد إلا القتل والخراب، شيطاناً مشوهاً لقيطاً؛ جيء به من أصقاع الدنيا ليقيم دولته على جماجم الفلسطينيين بعد أن سلب وطنهم، وشتت أهلهم؛ ليغدوا بين عشية وضحاها لاجئين، مطاردين بين جغرافيا وأخرى؛ ليُستبدل مكانهم محتلاً تناسل من قتلة الأنبياء والمرسلين.

لقد أردت الاستهلال بالفقرة السابقة بهدف التمهيد للفقرة الأولى، ولكي أُكد، أيضاً، على أن القضية الفلسطينية، بشعبها وأرضها، لن تتهمش أو تتهشم أو تغيب، أبداً، عن المشهد النضالي والثوري التحرري. إن هؤلاء الثوار الجدد الذين توالدوا في مدينة نابلس سيتناسل منهم ثوار وثوار. من الواضح أن هذه المجموعة تعرضت إلى أشكال وصور عديدة من الاضعاف وعدم التمدد، والتضييق ومحاولة الاجتثاث؛ تلك الصور التي وراءها جملة عوامل، أهمها:

التسريع في الظهور ومحدودية الإمكانيات: يبدو أن ما بين التأسيس والانطلاقة لهذه المجموعة لم يكن وقتاً كافياً، وبالتالي؛ فإن قوة التأثير واستمرارها، مع مطلب حصانة التأمين والتغطية، قواعدٌ وأسس لم تتوافر، ولذلك، فإن الانكشاف التدريجي لقيادة وعناصر المجموعة أصبح سهلاً للاحتلال وسواه. إن هذا التسريع، أو فلنقل" التسرع"، ساهم، مع قلة الإمكانيات المادية واللوجستية والأمنية والعتاد وغير ذلك، في مسألتي الانكشاف والتراجع. كذلك، فإن استخدام الأجهزة الخلوية ووسائط التواصل الاجتماعي من قبل معظم عناصر المجموعة ساهم في الاختراق الأمني، وهذا ما سهل تصفية عديد قادتها.

العامل الجغرافي والديمغرافي: إن المنطقة الضيقة التي تأسست فيها، وانطلقت منها المجموعة، وهي ناحية من البلدة القديمة بنابلس، لم تكن مناسبة للمجموعة حتى تتمدد أو تدافع عن ذاتها بالشكل المطلوب. فضيق المكان " يحشر" المناضل في زاوية تتسلط عليه كل مكونات الضغط والاضعاف، وبالتالي؛ فإن المساحة الجغرافية المطلوبة للمرونة والتحرك والكر والفر وسواها تكون في أضيق حلقاتها، وأوسع ثغراتها. أما بخصوص الجانب الديمغرافي، فإن ضيق المكانة مع كثافة القاطنين لا تيسر أو تسهل لأفراد المجموعة التحرك وفق ما هو مطلوب، إذ أن تمركز مجموعة ثورية في حيز جغرافي ضيق يقطنه نسبة كبيرة من الناس تشكل كابحاً يحول دون تحقيق أهدافها، ونشاطاتها، فضلاً عما يسببه هذا التواجد البشري الكثيف من إمكانية اختراق المجموعة عبر الجواسيس، فضلاً عن التكلفة الباهظة التي تلحق بالسكان جراء الاعتداء والرد الاحتلالي.

الاحتلال الذي استطاع، من خلال ما يملكه من قوة أمنية وعسكرية وتقنية وبشرية متمثلة بالجواسيس، اضعاف هذه المجموعة عبر اغتيال وقتل خيرة قادتها. إن الاحتلال بما يملكه من أنظمة وبرامج تجسسية فائقة التصنيع، سيما البرنامج المعروف بـ " برنامج بيغاسوس" للتجسس، استطاع أن يكشف ويقتل العديد من هذه القيادات واعتقال غيرها. كذلك، فإن عدم التمدد الثوري في عموم مناطق الضفة الغربية ساهم في استقواء الاحتلال على هذه المجموعة، وتوظيف كافة أدواته وقوته لتحقيق هدفه. كذلك، فإن اغلاق الاحتلال لمدينة نابلس وفرض حصاراً محكماً عليها كان له أثر في ذلك الإضعاف.

الجواسيس: إن هذه النبتة الخبيثة والشيطانية ساهمت، ولا تزال، في استهداف مكونات واسعة للعمل الثوري والنضالي الفلسطيني. إن العملاء يشكلون الأداة الفاعلة وشبه المضمونة لتنفيذ سياسات الاحتلال وتحقيق أهدافه ونشاطاته الاجرامية. فلولا هؤلاء الخونة لما استطاع الاحتلال من اصطياد الكثير من المناضلين والقادة الكبار، وكذلك، لولا هذه الشرذمة النجسة لما تمكن الاحتلال من اضعاف وتدمير بنى عسكرية واسعة لفصائل وحركات فلسطينية ثورية. كما لا يمكن للمحتل، اطلاقاً، أن يحقق نجاحات عبر قدراته التسلحية والأمنية التكنولوجية الفائقة دون أن يكون لهم عين ويد في الميدان. والشواهد عديدة في حال تم تخصيص الحديث عن مجموعة " عرين الأسود"، وإن المشهد الأكثر وضوحاً في ذلك اغتيال القائد في المجموعة تامر الكيلاني عبر وضع متفجر في دراجته النارية التي كان يقودها. هل يمكن للمحتل أن يغتال الكيلاني لولا اليد المجرمة والخائنة؟؟!!

السلطة: إن القيود الأمنية المفروضة على السلطة وحكومتها من خلال الاتفاق الأمني المتعلق بأوسلو، وما ترتب على ذلك من تنسيق أمني بين الاحتلال والسلطة، ساهم بلا شك في اضعاف المجموعة، وإن لم يكن الأمر مباشراً. فالضغوطات الاحتلالية على السلطة تساهم في ضغط السلطة على قوى المقاومة عبر ذلك التنسيق. كما أن اعتقال بعض عناصر المجموعة من قبل السلطة زاد في ذلك الإضعاف والتحجيم. كذلك، فإن ما تم تداوله من تدخل بعض قيادات حركة فتح في الموضوع عبر " المقايضة" كان سبباً رئيساً في التراجع إلى حد الغياب لقوة وديمومة هذه المجموعة الشبابية الثورية.

أرى أن هذه العوامل الخمسة هي الرئيسة التي تشابكت معاً في النتيجة التي أدت إلى غياب أو تغييب مجموعة " عرين الأسود" عن المشهد الثوري والفعل المقاوم في مدينة نابلس وما يحيطها.

نعود إلى الفقرة الثانية من هذا المقال لنستل منه معنى هادف، ودلالة واضحة، مفادهما أن الاحتلال وقود الثورة، وطالما بقي المحتل في وطننا فلا هدوء إطلاقاً. فلا يمكن للشعب الذي أرضه تُصادر وأبنائه يقتلون ويعتقلون ويشردون، وبيوته تهدم، أن يظل صامتاً خانعاً. وقد يضعف الشعب دون أن يستكين. إنها استراحة المحارب. قد يرتق الكثير من الشهداء، لكن المقاومة تستمر، وإن سقط شهيد نبت مئة مقاوم. وعلى هذا الأساس، فإن مجموعة "عرين الأسود " تشابكت ضدها عوامل شتى ما أدى إلى إضعافها دون اماتتها، وقد تواصل عملها من جهة، وقد يقتدي بها الكثير هنا وهناك، وهذا بحد ذاته استمرار لفكرتها ونشاطها من جهة أخرى.

بقي أقول: لا تقنطوا من "خُفوت الشعلة"، بل عليكم تزويدها بوقود الاشتعال، ورعايتها بجمر المواجهة؛ لتمنحكم زاد التحرر وشُعاع الحرية.