وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

في الذكرى الـ39 لاستشهاد الأسير المقدسي إسحق مراغة

نشر بتاريخ: 16/11/2022 ( آخر تحديث: 16/11/2022 الساعة: 12:02 )
في الذكرى الـ39 لاستشهاد الأسير المقدسي إسحق مراغة

للقدس مكانة عظيمة ومتميزة في التاريخ وفي وجدان كافة المسلمين، فهي أولى القبلتين، وثالث المسجدين، وهي مهبط الأنبياء والرسل، وفيها مسرى الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وفي القدس أبرز معالم الحضارة الإسلامية.
ولا يمكن الحديث عن القدس ومكانتها وعظمتها، دون التطرق لدور المقدسيين وصمودهم ونضالاتهم من أجل حماية هويتها الفلسطينية، والحفاظ على تراثها وتاريخها العريق، ومازال لهم حضوراً لافتاً في مسيرة النضال الوطني ضد الاحتلال الصهيوني عموماً، وتهويد القدس خصوصاً.
وفي غياهب السجون، وأقبية التحقيق، ومعارك الأمعاء الخاوية سطروا تجارب تُحتذى، وقدموا نماذج تُقتدى.
وفي مدارس السجون وجامعاتها كان لهم بصمات لم ولن تُمحى، وأن قائمة شهداء الحركة الوطنية الأسيرة تضمنت أسماء قافلة طويلة من الأسرى المقدسيين، الذين قدموا أرواحهم قرباناً على مذبح الحرية داخل سجون الاحتلال، فكان أولهم الأسير "قاسم أبو عكر" الذي استشهد في الثالث والعشرين من مارس/ آذار عام 1969م، ولحق به الحاج رمضان ومراغة والقاسم وعكاوي والقافلة تطول، واليوم يقف أمامنا بشموخ أحد هؤلاء المقدسيين الذين ناضلوا واعتقلوا واستشهدوا داخل السجون الإسرائيلية قبل تسعة وثلاثين عاماً، إنه الشهيد الأسير "إسحق مراغة".
"إسحق مراغة" لم يكن بالنسبة لي مجرد مواطن مقدسي ومناضل عريق، أو كونه أسير استشهد داخل سجون الاحتلال فحسب، وإنما كان أكثر وأكبر من ذلك بكثير، إنه الصديق والرفيق لوالدي –رحمة الله عليه- في غرف وزنازين سجن بئر السبع لسنوات طويلة، قبل أن يستشهد ويعود محمولاً على الأكتاف في السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر عام1983م، وقبل أن يتحرر والدي في إطار صفقة التبادل عام 1985م وبحوزته "مشد الظهر" الخاص بالشهيد ومكتوب عليه اسمه بالخط العريض.
وهو الأسير الذي أتيحت لي فرصة لقائه مرات عدة على شبك الزيارة قبل استشهاده وهو يتكئ على عكازه من شدة الألم، وأثناء زيارتي لوالدي حيث كانت الزيارات منتظمة ومختلطة وموحدة، دون الفصل فيما بين الأسرى على أساس المناطق الجغرافية كما هو حاصل الآن.

وهو واحد من الأسرى القلائل الذين التقيت بهم في الصغر على شبك الزيارة، وكلماتهم لا تزال عالقة في ذهني، محفورة في ذاكرتي، لم تستطع ولن تستطع الأيام بهمومها وثقلها أن تمحوها، أو تقفز عنها، فهو من قال لي يوما: " قريباً ستزول هذه القضبان، وستُهدم السجون وسنتحرر أنا وأبوك". وكلما استحضرت تلك الكلمات، ازددت إصراراً على المضي قدماً صوب العمل والعطاء من أجل الأسرى وحريتهم، وازددت فخراً بذاك الشهيد. بل وازددت ألماً؛ لأن السجون لا تزال باقية ولم تهدم رغم مرور تسعة وثلاثين عاماً على رحيله، بل اتسعت مساحة، وامتدت جغرافية، وازدادت عدداً، وأصبحت أكثر سوءاً، والسجان غدى أكثر إجراماً وعنجهية .. وازددت حزناً، لأن "مراغة" كان يحلم بالعودة الى بيته سيراً على الأقدام، وازددت اصراراً صوب العمل من أجل من لا يزالون فيها ويحتجزون بداخلها في ظروف لربما هي الأقسى والأسوأ منذ عقود، وحتى لا يلقون ذات المصير، وليعودون لأسرهم وأحبتهم سيراً على الأقدام، كما كان يحلم الشهيد "إسحق مراغة".
" إسحق مراغة " مناضل مقدسي عريق، وأسير وقائد مؤثر ترك بصمات واضحة على مسيرة الحركة الأسيرة، وشهيد حي في قلوبنا وعقولنا لم ولن يموت أبداً، فالشهداء يرحلون ولا يغيبون.
ولد الشهيد الأسير عام 1942م في بلدة سلوان بالقدس، وللشهيد أربعة أبناء جمال وآمال وأمينة وأسماء، ولديه ثلاثة أشقاء أكبرهم العقيد أبو موسى أحد قادة الثورة الفلسطينية، والذي رحل عن الدنيا قبل بضع سنوات.
وانضم الشهيد أبو جمال لحركة القوميين العرب عام 1959م، ومن ثم انتقل للعمل العسكري في صفوفها، وتلقى تدريباً عسكرياً في مصر بعدما سافر إليها عام 1964م، ومن ثم التحق بالجـبهة الشـعـ بية لتحرير فلسـ طين فور انطلاقتها في كانون أول/ ديسمبر 1967م، وناضل ضد الاحتلال من خلالها بشكل دؤوب ومتميز، فاعتقلته قوات الاحتلال في آذار/مارس عام 1969م، ليمضي في السجن ثلاث سنوات ونصف ويطلق سراحه في آب/ أغسطس عام 1972م.
لم يكن السجن بالنسبة له سوى "استراحة مقاتل" ومحطة للإعداد والتقدم من جديد، فانتظم في العمل الحزبي لمنطقته فور تحرره مباشرة، وواصل عمله التعبوي والتحريضي والعسكري أيضاً، وخطط وشارك في العديد من العمليات العسكرية ضد الاحتلال.
وفي شباط/ فبراير 1975م اعتقل للمرة الثانية، وتعرض لتعذيب قاسي، وأصدرت بحقه إحدى المحاكم العسكرية حكماً بالسجن لمدة عشرين عاماً، بتهمة الانتماء لـ "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ومقاومة الاحتلال، وخلال فترة اعتقاله لم يكن هادئاً أو مهادناً، بل كان على الدوام بمثابة خلية نحل نشطة وفاعلة، كان قائداً مميزاً ومحبوباً من الجميع، ومحرضاً بارعاً، ومقاتلاً مقداماً، ومع الوقت أضحى أحد الأعمدة الأساسية للحركة الأسيرة، ورغم تردي حالته الصحية، وإصابته ببعض أمراض السجون، كان يرفض إعفائه من المشاركة في الإضرابات عن الطعام، فأدركت إدارة السجون دوره ومكانته، وقررت الانتقام منه وإعدامه بأساليبها المفضوحة، فكان الإهمال الطبي وسيلة للإعدام، وبديلاً عن أعواد المشنقة.
عام 1980م تمّ افتتاح سجن نفحة، الذي أريد منه أن يكون منفى ومقبرة لقيادات الحركة الأسيرة، فكان الشهيد من أوائل من نقلوا إليه، وفي نفس العام شارك إخوانه إضراب نفحة الشهير رغم سوء وضعه الصحي، وبعد سنوات محدودة رحل "أبو جمال" نتيجة الإهمال الطبي المتعمد، بينما السجون لم ترحل، وبقيت سياسة الإهمال قائمة، وكانت سبباً في رحيل العشرات من الأسرى من بعده.
" أبو جمال " وقبل استشهاده كان يعاني أمراض كثيرة خلفتها الإضرابات الطويلة، عن الطعام وخصوصاً إضراب سجن نفحة الشهير عام 1980م الذي استشهد فيه الأسيران راسم حلاوة وعلي الجعفري، وحاولت حينها إدارة السجون بقيادة وزير داخلية الاحتلال آنذاك "يوسف بورغ" فك الإضراب وكسره بالقوة، وقمع المعتقلين وإجبارهم على تناول الطعام، وسكب الحليب بالقوة في فم الأسير من خلال ما يُعرف بلغة السجون بـ"الزوندا" وهي كلمة عبرية تعني أنبوب مطاطي، حيث كان يقوم بهذه العملية كل من الممرض والسجان، ويتم إدخال الأنبوب للمعدة وسحبه بطريقة فظة ومؤلمة، فيضرب المعدة ويصيبها أو يصيب جدارها، وفي حالات كثيرة يدخل الأنبوب للقصبة الهوائية ومنها للرئتين، كحالة الشهيد اسحق مراغة لينزل الحليب في رئتيه، وفورا أدخل غرفة العناية المركزة في السجن، حيث كاد أن يفارق الحياة لولا أن طبيب السجن أقسم له أنه لن يتركه يموت، وسيبذل قصارى جهده لإنقاذ حياته، ليس حرصاً على حياته، بل وحسبما قال له بالحرف الواحد :"لن أتركهم يجعلوا منك بطلا قومياً".
وقدّر له أن يبقى على قيد الحياة، وأعيد بعدها إلى سجن بئر السبع، بينما أوضاعه الصحية تدهورت أكثر فأكثر دون تقديم العلاج، ودون توفر أدنى الرعاية الصحية، إلى أن فارق الحياة في السادس عشر من نوفمبر عام 1983م، ليلتحق بقافلة الشهداء الطويلة، شهداء الحركة الأسيرة، الشهود على جرائم الاحتلال وعنجهية سجانيه، وسيبقى يوم رحيله شاهداً على جريمة لن يسقط حق ملاحقة ومحاسبة مقترفيها بالتقادم مهما طال الزمن.
رحل الشهيد ولم ترحل ذكراه وبصماته، فهو قائد ومعلم، وعلم من أعلام الحركة الأسيرة، وإن استحضاره يشكل مفخرة لكل من عرفه وعايشه، أو سمع وقرأ عنه وعن حكايته مع الأسر، ومواجهاته مع السجان.
"اسحق" اسم لأسير أنجبته فلسطين، واحتضنته القدس، وأبى إلا أن يكون نداً للاحتلال وأدواته القمعية، فكان حقا نداً للاحتلال داخل السجون، وقبلها في ساحات النضال الأرحب، وها قد مضى تسعة وثلاثين عاماً على رحيله، و لا يزال حاضراً فينا وحياً بيننا، لم ولن يغيب أبداً.
" اسحق مراغة " اسم رددته الألسن الصادقة، وتحفظه قوافل الثوار وتستحضره أجيال وأجيال، وحفرته الحركة الأسيرة في سجلاتها، وتفخر به على اختلاف انتماءاتها الحزبية والفكرية.