|
هدية عبد الهادي ورواية "على ضفاف الأردن"
نشر بتاريخ: 16/11/2022 ( آخر تحديث: 16/11/2022 الساعة: 20:53 )
أول رواية نسائية فلسطينية الكاتب والناقـد/ ناهـض زقـوت
اختلف الباحثون والنقاد على المستوى الوطن العربي في مسألة صدور أول رواية نسائية عربية، فكل باحث في تاريخ الأدب أدلى بدلوه في هذه المسألة، إلى أن حسمت الدكتورة بثينة شعبان المسألة في كتابها "مائة عام من الرواية النسائية" بالتأكيد على أن أول رواية عربية نسائية صدرت هي رواية الكاتبة اللبنانية زينب فواز (1860-1914) بعنوان (حسن العواقب أو غادة الزهراء) في القاهرة سنة 1899. وفي ما يتعلق بالرواية الفلسطينية، لم يكن ثمة معرفة لدى النقاد والباحثين أن هناك رواية نسائية نشرت قبل النكبة، فكان جل نقاشاتهم ودراساتهم في الروايات التي صدرت في خمسينيات القرن الماضي، ووقع الجدل بينهم حتى اتفقوا أن رواية هدى حنا (صوت الملاجئ) الصادرة في دمشق سنة 1951، ورواية مريم مشعل (فتاة النكبة) الصادرة في عمان سنة 1957، هما بواكير الكتابة النسائية الفلسطينية في مجال الرواية، حسب ما أشار الباحثون والنقاد تقول الدكتورة حفيظة أحمد في كتابها "بنية الخطاب في الرواية النسائية الفلسطينية": "إن ميلاد الرواية النسائية الفلسطينية أعلن بظهور (صوت الملاجئ وفتاة النكبة) في منتصف الخمسينيات، وهما روايتان تعكسان تحسس كاتبتيهما لمسالك الرواية، دون أن تمتلكا القدر الكافي من الوعي النقدي لشروط الرواية، وما تقتضيه من أدوات فنية". إن الجدل القائم بين الباحثين والنقاد حول أول رواية نسائية فلسطينية يعود إلى أحداث النكبة وتداعياتها، فقد أحدثت حالة ضياع للتراث الأدبي والثقافي الفلسطيني، فلم ينتبه النقاد والباحثون إلى رواية نسائية صدرت قبل النكبة، وهي تعد الأولى في مجال الكتابة النسائية الفلسطينية، قبل حنا ومشعل، وهي رواية هدية عبد الهادي (على ضفاف الأردن) التي صدرت عن دار الأيتام السورية بالقدس سنة 1943، ونشرتها وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله سنة 2022. وقد صدرت هذه الرواية في نفس الوقت الذي صدرت فيه رواية (مذكرات دجاجة) للأديب اسحق موسى الحسيني، الذي نشر روايته في القاهرة سنة 1943، في حين الكاتبة هدية عبد الهادي نشرت روايتها في القدس في نفس العام. تحمل رواية (على ضفاف الأردن) بذور امتلاكها للمقومات الفنية للرواية، من حيث الشخصيات وتطور دورها في الأحداث، وبلورة المكان وتعبيره عن الأحداث، وعلاقة الشخصيات بالمكان، وقدرة الكاتبة على تشكيل الحبكات وتفكيكها بما ينسجم مع مجرى الأحداث. لذلك نعتبرها أول رواية نسائية فلسطينية، في مقابل ما يعده النقاد بأن روايتي "حنا ومشعل" هما أقرب للنصوص الأدبية منها للرواية، حيث نجد أن هدى حنا أضافت إلى عنوان روايتها بأنها "رسائل أدبية عن النكبة". الكاتبة هدية سعيد عبد الكريم عبد الهادي امتلكت المعرفة والثقافة، ولها مجال واسع في الكتابة والإبداع. هي من مواليد بلدة عرابة قضاء جنين سنة 1920، تلقت تعليمها في مدرسة بنات جنين الابتدائية الأميرية حيث أنهت الصف السابع الابتدائي، فأرسلها أبوها إلى دار المعلمات الريفية في طيرة رام الله، عملت في دار الاذاعة الفلسطينية، وفي محطة إذاعة الشرق الأدنى التي اتخذت جنين مقراً لها، واصلت تعليمها وتخرجت في جامعة القاهرة، وعملت في حقل التعليم مدرسة للمرحلتين الابتدائية والاعدادية، ثم مديرة مدرسة في رام الله. كانت نشيطة في الحركة النسائية، وطالبت عبر مقالاتها بإيجاد اتحاد نسائي فلسطيني. بعد النكبة رحلت إلى الأردن، وبعدها أقامت في العراق حتى توفيت سنة 1996. كتبت العديد من المقالات الوجدانية والثقافية ونشرتها في الصحافة المحلية، أبرزها صحيفة المنتدى، كما كتبت الرواية والقصيدة الشعرية والمسرحية. ومن منشوراتها: على ضفاف الأردن (رواية) منشورات دار الأيتام السورية، القدس 1943، والوميض (مقالات) منشورات دار الأيتام السورية، القدس 1943، وقد نشرته وزارة الثقافة الفلسطينية في طبعة ثانية سنة 2022، ومعاً إلى القمة (تمثيليات وشعر) منشورات مطبعة المعارف، القدس، ورجال من صخور (مسرحية) منشورات جمعية المسرح العربي الفلسطيني، دمشق 1940، وغالية (رواية) منشورات دار ابن رشد، عمان 1988. عتبة العنوان: تأخذنا الرواية إلى عالم البادية من خلال الود والتعاون والمصاهرة بين قبيلتين تقعان على ضفتي نهر الأردن، وهو الحد الفاصل بين الأراضي الفلسطينية والأراضي الأردنية، وفي شرقي النهر تقع قبيلة النسر، وفي غربي النهر تقع قبيلة المناذرة، ومن هنا جاء العنوان (على ضفاف الأردن)، حيث تصور الكاتبة حالة القبيلتين، والعلاقات القائمة بينهما، فنجد الملامح البدوية متجلية بكل دلالاتها من حيث صراع الحب والبقاء، والنخوة العربية، والتعاون بين القبائل في دفع الشر، والدعوة إلى التماسك والقوة. وثمة جزء من الأحداث يرتبط مباشرة بالنهر، مثل زيارة الكشافة لنهر الأردن وفرعه نهر اليرموك، ومكان لعب الدبكة وتسابق الخيول، ومكان للهو والمرح، وغرق الأميرة سعدى. بناء الرواية ودلالات المكان والزمان: تطمح الكاتبة أن تبرز العلاقة الأخوية بين شرقي النهر وغربيه في سرد متواصل دون تحديد زمني لسرد الأحداث بشكل مباشر، إنما نستمده من السرد حين تقول "فلا يستطيع الأطباء أن يجتازوها بسياراتهم" (ص17) وتقصد الأرض الموصلة إلى قبيلة النسر فهي غير معبدة، والدلالة الزمنية هنا هي استخدام السيارات، فقد عرفت الأردن السيارات منذ سنة 1927 على نطاق ضيق، أما في الأربعينات كانت السيارات متاحة لمن يستطيع اقتنائها، من هنا نحدد زمن الأحداث في الأربعينات من القرن العشرين. أما ما يتعلق بمكان سرد الأحداث فقد كان حاضراً بكل قوة ووضوح في الرواية، تقول في وصفها لمكان قبيلة النسر: "كان أفراد قبيلة النسر، الضاربة على سفح ربوة من ربوات بلاد الإمارة العربية في شرقي الأردن، في الجنوب من نهر اليرموك الخالد على ضفاف نهر الأردن، حيث السهول الخصبة، والمراعي المترعرعة" (ص15). أما عن قبيلة المناذرة تقول: "قبيلة المناذرة الضاربة على ضفاف نهر الأردن في الأراضي الفلسطينية ... وماشيتهم الكثيرة سمينة لبونة، وأراضيهم الممتدة إلى مساحات كبيرة من الغور خصبة غليلة، وخيلهم أصيلة مطهمة، ومقامهم رفيع بين جميع القبائل والعشائر" (ص18). إن وصف الكاتبة للقبيلتين يعطينا دلالة على حياة الغني والجاه والمكانة التي تحياها القبيلتين بين القبائل والعشائر المجاورة. تبرز الكاتبة علاقة النسب والمصاهرة بين القبيلتين، ودور هذه العلاقة فيما مرت به قبيلة النسر من أحداث، فالأمير فواز الجعفري رئيس قبيلة النسر متزوج من سعدى أخت الأمير بشار رئيس قبيلة المناذرة، وأنجب منها فتاة اسمها علياء. تخضع هذه الرواية لشرطها التاريخي، ونقصد به زمن كتابة الرواية، هذا الزمن الذي كان يعتمد على الرواية الاجتماعية المتمسكة بالتقاليد والعرف السائد في الكتابة، هذا العرف الذي رسخه خليل بيدس في تعريفه لكتابة الرواية يقول: "والرواية الحقيقية، الفنية، هي التي ترمي إلى المغازي الحكمية أو الأغراض الأدبية، إلى تمجيد الفضائل أو التنديد بالرذائل، إلى تهذيب الأخلاق وتنوير العقول، وتنقية القلوب وإصلاح السيرة، وهي النقية من كل شائبة، الخالية من كل وصمة، التي تُبقي أثراً في نفس القارئ، وتحدوه على التأمل، وتقوده في سبيل الرقي الأدبي والحب النقي. هذه هي الرواية الحقيقية، الرواية الفنية، الرواية الخالدة" (من مقدمة مسارح الأذهان). الكاتبة في روايتها لم تتجاوز أخلاقية الرواية وتمجيدها للفضائل، بل شددت عليها في تناول أخلاق القبيلة، وتمسك أفرادها بقيمها وأعرافها، وحرصهم على مجد القبيلة ومكانتها. تحاول الكاتبة الاقتراب من فن الرواية، ولكنها في رأينا هي أقرب إلى القصة أو الحكاية الطويلة حيث تقع في (80) صفحة، فلم تصل إلى مرحلة النضج الكامل في كتابة رواية، إلا أنها تمتلك مقومات الرواية. يتوسل البناء السردي لدى الكاتبة بعدة طرق فنية في توصيل رؤيتها، فنجدها تستخدم ضمير الغائب في سرد الأحداث، فهذا الضمير يؤكد مكانة الساردة في سرد الحكي، ويوهم القارئ بموضوعية الأحداث، والابتعاد عن الذاتية، فالساردة في النص تنقل الحدث دون أن تتدخل فيه، مما يجعل القارئ أكثر قابلية لتصديق الأحداث. ورغم أن الدراسات النقدية تفرق بين الكاتب والسارد على مستوى فنية النص، ولكننا في هذه الرواية لم نجد ثمة تمايز فالكاتبة هي الساردة، فهي صاحبة الحكي ومحركة الأحداث، ومتحكمة في حركة الشخصيات في المكان، إلا أنها تعطي مساحة للشخصيات أن تدير حوار بينها، فنقرأ مثلاً: حينما كان الأمير ضرغام في فرقة الكشافة القادمة نحو ضفة النهر، يشاهد خيمة قد نصبت بعيدة عن الخيام، فيدير حواراً مع الخدم حين السؤال عن الخيمة، فيعرف أنها خيمة الأميرة سعدي وابنتها علياء اللاتي قدمن لمشاهدة الكشافة(ص٢٥)، كذلك الحوار بين الأميرة سعدي وابنتها علياء أثناء مغادرة القبيلة باتجاه قبيلة المناذرة بعد موت الأمير جعفر ولم يبق في القبيلة من يحميهن، خاصة أن الأمير فواز قد مات قبله(ص٣٢-٤٣)، وحوار الأميرة علياء مع العجوز بعد زيارة العرافة حول مغزى ودلالات النبوءة التي قالتها(ص39-40). ومن الأدوات التي استخدمتها في البناء السردي الرسائل المتبادلة بين الشخصيات، وهذه الرسائل تكشف جانباً من سرد الأحداث، فلم تكن منفصلة عن السرد بل هي جزء منه، فنجد رسالة الأمير ضرغام إلى والده بعد أن التحق بالدراسة بعيداً عن مضارب القبيلة، وقد أصبح عضواً في الكشافة، يكتب لوالده يقول: أكتب لسموكم رسالتي هذه لتنوب عني في تقبيل يديكم الطاهرة، ثم لأذكر لكم شيئاً عن حياتي الجديدة، فالحياة عندنا مختلفة عن حياتكم، عندكم الحرية المطلقة والمناظر الخلابة، والعشيرة العزيزة، وعندنا الدراسة الشاقة، والنظام الدقيق، والبعد عن الأهل والإخوان"(ص٢٢-٢٣) تم يتحدث عن الكشافة، وعن عزم فريق الكشافة زيارة نهر اليرموك في رحلة علمية. كانت هذه الرسالة سبباً في بناء أحداث جديدة، اذ جعلت القبيلة بأميرها وشيوخها وأميراتها وناسها يخرجون لاستقبال فريق الكشافة، ويقدمون لهم الكرم العربي من طعام وحماية، وتكشف الرسالة عن حياة القبيلة وحريتها المطلقة، وتعبر عن التباين بين حياة البادية وبين الحياة الجديدة التي يحياها في ظل المدرسة. ورغم تناول الرسالة الفروقات بين حياة البادية، والحياة الجديدة للأمير ضرغام، إلا أن الكاتبة لم توضح المكان الذي توجد فيه المدرسة هل هو مدينة أم قرية؟، وكان ذكرها للمكان مهماً في سرد الأحداث وتنوع الرؤى، من حيث تعميق الفروقات بين المكانين، وهذا نعتبره قصور من الكاتبة، ولكننا نرى أن تركيزها على سرد أحداث القبيلتين قد غيب الكثير من التفاصيل التي يمكن أن تستمدها في تعميق القيمة الفنية للرواية. في أكثر من موقف كانت الرسائل وسيلة تخاطب وحوار بين الشخصيات، وساهمت في حبكة الرواية. نجد في المؤامرة التي حاك فصولها الأمير المهلهل ابن الأمير بشار بعد أن رفضته الأميرة علياء زوجاً، حاول أن يحطم معنوياتها ونفسيتها وتمسكها بقبيلتها، وذلك بأن زور الرسالة التي أرسلتها لها قبيلتها تشرح فيها تحسن أحوالها، والاصلاحات العظيمة التي أدخلها الأمير ضرغام بفضل التعليم، وتطور الزراعة عندهم، وهم في انتظار عودة أميرهم (ص٥٥-٥٦)، خان الأمير المهلهل أمانة الرسالة التي تسلمها من الرسول، وقام بفضها وقرأ ما فيها، فلم يعجبه لأنها سترفع من معنويات الأميرة وتتمسك بقبيلتها، فمزق الرسالة وكتب رسالة أخرى تحكي عن خراب الديار، وهم أتعس قبيلة، وقد تفرق شملهم، وأن الأمير ضعيف لم يقو على فرض سلطته، وأنه تزوج من إحدى فتيات الحي(ص٥٦-٥٧). تصاعدت حدة الدراما في الرواية بانقلاب أحوال الأميرة، وزاد حزنها وألمها، وقررت أن تغادر قبيلة المناذرة إلى قبيلتها لتقف معها في محنتها وشدتها، فقد جاءت الرسالة المزورة بنتائج عكسية لما توقعه الأمير المهلهل، وهذا يدل على اعتزاز العربي بقبيلته وتمسكه بها مهما مرت بها من محن، وعليه أن يقف إلى جانبها لا أن يتخلى عنها، وهذه من شيم العرب الأصلاء. وأسرعت الأميرة علياء إلى إخبار خالها بعزمها على الرحيل، وأوضحت له السبب بأن دفعت له الرسالة ليقرأها، وحين قرأها تغير مجرى السرد، فهو يعلم المكانة العالية التي وصلت إليها قبيلة النسر بعد أن استعادت مجدها، وتم كشف المؤامرة دون معرفة من ورائها. كما استندت الرواية في بنائها على توظيف الحلم والنبوءة في خدمة سير الأحداث، وتضمين القصائد الشعرية، والأغاني الشعبية، وجاءت متوافقة مع سرد الأحداث، فلا يشعر القارئ بقطع الحدث بل تم توظيفها بما يخدم السرد، فمن الطبيعي أن يكون في لحظة الترفيه وحياة اللهو مع الصويحبات أن تكون الأغاني الشعبية حاضرة، فهذه الأميرة سعدى حين كانت في ميعة الصبا تعيش في أحضان قبيلتها، لم يكن يلهيها شيء عن إطلاق الحرية لنفسها، والتمتع بنعمتها وصفائها، عند ضفاف النهر بالقرب من الرعيان وأغانيهم التي يطربون بها الأميرة، فيغنون لها على الناي أغنتها المفضلة: ياما العبايا حلوة عباتك(ص18-19). وكذلك استخدمت الشعر لتأكيد مكانة ما مثل قصيدة نهر اليرموك (ص٢٥)، أو لإبراز حالة إنسانية وتعميقها، كحالة حزن الأميرة علياء (ص45) و(ص٥٨). يتضح من بناء الرواية أن الكاتبة تمتلك القدرة على كتابة رواية، من حيث اللغة التي وظفتها بما يتوافق مع روح الأحداث، ومع التعبيرات المستمدة من البادية، وتحاول أن تضع القارئ في أجواء البادية بما تقدمه من وصف للمكان، وحركة الرعيان وأغانيهم، وأهازيج الحدأة وهم يسوقون الابل بالقرب من ضفاف نهر الأردن. كما لديها القدرة على التلاعب بالأدوات الفنية والتقنيات السردية في بناء روايتها وسرد أحداثها وبناء شخصياتها. بناء الشخصيات وسرد الأحداث: يعد البناء السردي نسيج محكم من العناصر المكونة له، كالحدث, والشخصيات، والزمان والمكان، وتتابع الأحداث تتابعاً منطقياً وسببياً. وقد جاءت الرواية معبرة عن كل هذه العناصر. وقامت حبكة الرواية على الوفاء والاخلاص في الحب، ورفض التنازل عن قيم القبيلة وأعرافها، وإبراز للعلاقات الأخوية بين شرقي النهر، وغربي النهر. لذلك لم يكن ثمة بطولة فردية في صناعة الحدث، بل بطولة جماعية تمثلت في الأمير ضرغام، والأمير بشار، والأمير المهلهل، والأميرة سعدى، والأميرة علياء، وإلى جانبهم العديد من الشخصيات المساندة لهم في تفاعل الحدث وإبرازه أمثال: الأمير فواز، والأمير جعفر، والشيخ ريان، والشيخ رباح، والعجوز، والخادم سلامة، والخادم علي، والعرافة، والفارس غانم، والشيخ قيس. لقد كانت البطولة لديها للمكان الذي يجمع بين القبلتين، وما الشخصيات إلا أدوات لإبراز العلاقة التاريخية والاجتماعية والإنسانية بين القبيلتين وقوة الترابط بينهما. لذا لا يمكن أن نفصل الشخصيات ودورها عن الأحداث ومكانها، فالكل متفاعل في المكان ومع المكان. شخصية الأمير فواز: تفتتح الكاتبة روايتها على حدث جلل تمر به قبيلة النسر، وهو مرض الأمير فواز رئيس القبيلة، ومدى تأثير مرضه على مجمل القبيلة ومكانتها، فهو الأمير العادل النزيه، والفارس الجبار العنيد، والوجيه المحترم الذي رفع شأن القبيلة الصغيرة بين العربان والقبائل(ص16). اشتد خوف القبيلة على حياتها ومكانتها بعد مرض الأمير، فأرسلوا في طلب الأطباء من عمان لعلاجه، وحين اشتد عليه المرض، وشعر أنه مفارق الحياة، اجتمع مع أفراد عشيرته وشيوخها، وأملى عليهم وصيته، بأنه يخلع سيف الإمارة من رقبته ويضعه في رقبة أخيه الأمير جعفر، وعليهم الطاعة والولاء له، والتعاون والتضامن والصلاح ليبقى شأنهم محترماً بين القبائل، كما أعطى ابنته علياء إلى ولده الأمير ضرغام زوجة(ص17). لم يكن دوره في الرواية إلا إبراز مكانته في القبيلة بصفته موحد شملها ورافع مكانتها. شخصية الأمير جعفر: بعد وفاة الأمير فواز تسلم الأمير جعفر رئاسة القبيلة، كان الأمير جعفر قوي القلب، جرئ، وفارس، ووجيه، ويمتلك القدرة على قيادة القبيلة، وقد قادها محافظاً على انجازات أخيه، ولكن القدر لم يمهله كثيراً، فبعد سنتين توفى الأمير جعفر، وكان قد دفع ابنه الأمير ضرغام للتعليم والدراسة، وما زال صغيراً على قيادة القبيلة. لذا تغيرت أحوال القبيلة وانهارت وتفككت عراها، بعد أن كانت حصينة كالعرين، انقرضت هذه الإمارة، ولم يبق منها إلا أمير في الرابعة عشرة ليس له سند أو معين(ص28). شخصية الأميرة سعدى: كان الأمير فواز مصاهراً قبيلة المناذرة الفلسطينية، حيث تزوج الأميرة سعدى أخت الأمير بشار رئيس القبيلة. كانت سعدى مثار حديث القبائل والعشائر منذ مصغرها، ومعتزة بحسبها ونسبها، فهي "الحسناء المليحة الممشوقة القوام، الدعجاء العين، الصبوحة الوجه، تترامى غدائر شعرها الناعم الأسود على كتفيها، فتزيدها روعة وسحراً، وهي الفصيحة البليغة، تقول الشعر، وتعرف أنساب العرب وأخبار القبائل، وهي فوق ذلك بشوشة، رحوب، لينة العريكة، صائبة الرأي" (ص19). تقضي حياتها في لهو ومرح بين أترابها من بنات القبيلة. طار خبر الأوضاع التي وصلت إليها قبيلة النسر وانتشر بين القبائل والعربان، ووصل إلى الأمير بشار رئيس قبيلة المناذرة، فأرسل رسالة مع فرسانه إلى أخته سعدى، وابنتها الأميرة علياء يدعوهم للإقامة عنده حتى تعود القبيلة إلى سابق عهدها. وافقت سعدى على عرض أخيها، ولكن ابنتها عز عليها مفارقة أرض آبائها، كما أصيب القوم بثورة من الجنون على اعتزام الأميرتين الرحيل، ووقف أمامهن رجال القبيلة يدعوهن بالبقاء، ولكن الأميرة سعدى بحنكتها وصواب منطقها أقنعتهم بحكمة الله فيما وقع للقبيلة، وأنها ستعود إلى مجدها بعودة الأمير ضرغام واشتداد عوده، وأنهم ضيوف في قبيلة المناذرة. في الطريق أخذت الأميرة علياء في البكاء على مفارقتها أهلها وقبيلتها، تأثرت الأميرة سعدى بما حل بابنتها، وأخذت في الصراخ وكأنما مسها الجنون، حتى وصلت إلى النهر، فألقت نفسها فيه منتحرة، وعبثاً حاول الفرسان انقاذها ولكنهم أخرجوها ميتة. شخصية الأميرة علياء: تأخذ تلك الشخصية المساحة الأكبر في فضاء الرواية من حيث سرد الأحداث، وتفاعل الشخصيات معها. فهي مركز صراع الحب الذي كاد أن يؤدي بالشقاق بين القبيلتين، ولكن بحكمتها في عدم الكشف عن صانع المكائد ومسامحته حفظ كيان العلاقة بين قبيلتها وقبيلة خالها. حازت علياء على أكبر قسط من الجمال البدوي الخلاب، فعيناها الكحيلتان أشبه ما تكون بعيون المها، ووجهها المشرق الوضاء يفيض جلالاً وجمالاً كأنها البدر في لجة الليل أو الاقحوانة في صدر الوادي(ص20). توفى والدها وهي ابنة العاشرة من عمرها، وبعد وفاة عمها ووالدتها عاشت في كنف خالها في قبيلة المناذرة. لقد أبرزت الكاتبة تمسك علياء بقومها ورفضها الرحيل عنه، دلالة على قوة انتماء المرء للمكان، فليس من السهولة انتزاعه منه. فقد أصيبت الأميرة علياء بما يشبه الصدمة حين تحركت بهم قافلة الفرسان مبتعدين عن قبيلتها باتجاه قبيلة المناذرة، أفاقت من الصدمة "كانت تبدو كمن أفاقت من غيبوبة، أو كمن تخلص من سحر"(ص32)، وبدأت في البكاء والعويل والتمرغ في التراب، وهي تقول "عبثاً تحاولون إبعادي عن الديار، لا تحاولوا ذلك أبداً، لتطمئن نفسك يا أبتاه، فلن أبتعد عن ضريحك، ولتقر عينك يا عماه، فلن أهجر الديار التي شهدت صولتك وسطوتك، سأبقى هنا في حي قومي وأهلي أرعى معهم البقر والأغنام"(ص33). إن موقف علياء عند الرحيل يعبر عن شدة تمسكها بأهلها وقبيلتها، مما يعطينا دلالة على شخصية علياء بأنها لا تخضع لسيطرة الآخرين، بل تتمسك برأيها وموقفها، مما يكون له انعكاس ايجابي على حياتها في ظل قبيلة خالها، ويشير إلى تطور في شخصيتها، فرغم الرعاية والحنو، واللهو والمرح، إلا أنها لم تستسلم للحياة الجديدة ولم تنس قبيلتها، ولم تتراجع عن حلم العودة إلى قبيلتها، فقد رفضت الزواج من الأمير المهلهل من أجل العودة لا أن تصبح أميرة في بلاد الغربة. بعد وفاة أمها غرقاً في النهر، حاول الأمير بشار التخفيف عن الفتاة المنكوبة بأن أفرد لها خيمة خاصة مع خادم يدعى سلامة، وامرأة عجوز وقور تسليها وتلازمها الليل والنهار. كانت علياء دائمة الحزن والبكاء، ولم تخرج من خيمتها أبداً. بل "بقيت على هذه الحالة سنة كاملة، لا تأنس إلى أحد، ولا تتلهى عن مصائبها أو تتناساها، حتى ولم تسمع خلال هذه السنة الطويلة شيئاً عن قبيلة النسر"(ص36). وفي أحد الأيام همست لها العجوز بأن عرافة نزلت بقرب الديار، وتعرف خفايا الأمور، فوافقت الأميرة علياء على الذهاب إليها لسؤالها عن أحوال قبيلتها، وتصف الكاتبة العرافة: "سيدة في الأربعين من العمر، حادة النظرات، سمراء اللون، تلبس ثياباً بيضاء نظيفة واسعة، وعلى رأسها غطاء أبيض، وقد تدلى في صدرها ثلاث مسابح من المرجان الثمين"(ص٣٧). تصل علياء عندها وتأخذ العرافة في النظر اليها بتمعن، ثم قدمت لها الصعوبات التي واجهت قبيلتها، وتحكي عن طالعها في شبه نبوءة، بأنها ستواجه صعوبة تزلزل كيانها، ولكنها ستجتازها بسلام، وسيكون بعدها الخير وحياة جديدة. تدرك الكاتبة تأثير العرافة والنبوءة على المجتمع البدوي في تسيير حياتهم، لذلك اتخذت منها وسيلة لحل عقدة حزن الأميرة وانعزالها للناس، بأن منحتها الأمل في حياة جديدة رغم الصعوبات التي سوف تواجهها، كنوع من الرؤية المستقبلية أو استشراف المستقبل. وقد أحدثت هذه النبوءة أثرها في الأميرة علياء التي استسلمت للواقع، وأبدت استعدادها لتقبل كل الكوارث والمصائب، فقد تعودت عليها، "وجففت دمعة انحدرت من مآقيها، وقامت إلى الطعام تتناوله بحركة آلية، وكأنها لا تشعر له بمذاق"(ص٤٥). تبدأ صعوبات الأميرة وأزمتها النفسية، من تأثير شخصية الأمير مهلهل ابن خالها، ودوره في الكيد لها، لذا تتداخل الشخصيتين في صراع يكشف عن التغيرات التي تنتاب الإنسان حينما تسيطر عليه حالة الغيرة والحسد وحب التملك، في مقابل الإنسان الذي يتعامل مع الآخرين بكل حب ووفاء واخلاص. شخصية الأمير المهلهل: تدخل شخصية الأمير المهلهل ابن الأمير بشار (لاحظ دلالات الاسم الذي اختارته الكاتبة لهذه الشخصية التي يعبر عن سلوكها وتصرفاتها في سير الأحداث)، وهي شخصية سلبية ليس لها أي دور ايجابي، بل كان دورها حياكة المكائد. رغم الصفات التي منحتها الرواية له بأنه "شاب طويل القامة، جهم الجسم، مرفوع الرأس، يلبس ملابس الإمارة، ويتقلد سيفاً عظيماً، تدل ملامحه على أنفة وقوة شكيمة" (ص41)، هذه الصفات يحملها أبناء الأمراء، ولكنه لم يكن بأخلاق الأمراء. تظهر شخصيته حينما تشاهده علياء عندما اقترب منهن أثناء انتظار العرافة يتهادي في مشيته بخيلاء وكبرياء، ولكنها لا تهتم لوجوده، هنا قدمت الكاتبة ملامحاً من شخصية المهلهل التي سيكون لها دلالات على سلوكه خلال السرد. بعد أن رآها أعجب بها فسعى إلى امتلاكها، فيذهب المهلهل إلى ديوان والده ويطلب منه أن يتزوج الأميرة علياء، يحاول والده أن يفهمه الصعوبات والمعيقات التي تحول دون هذا الزواج خاصة أنها مخطوبة لابن عمها، وهي ضيفة في ديارنا، ولكن المهلهل بنزقه وطيشه يصر على موقفه، فما كان من الأمير بشار إلا الذهاب اليها واستشارتها في أمر الزواج، إلا أنها ذكرته بأمر خطبتها لابن عمها، ورفضت الزواج من المهلهل، فأكبر خالها وفائها واخلاصها، وغادر مجلسها إلى ابنه الذي ينتظره في الديوان ليخبره بموقف علياء. بدأت علياء تواجه الصعوبات التي أخبرتها بها العرافة، اذ لم يقبل المهلهل رفض علياء له، فأخذ يفكر في المكيدة لها لكي يبعدها عن قبيلتها وابن عمها، وجاءته الفرصة في الرسالة التي استلمها من الشيخ قيس مرسلة من الشيخ ريان المكلف بقبيلة النسر إلى علياء، يأخذ المهلهل الرسالة لكي يوصلها، وفي الطريف يفض الرسالة ويقرأ الأخبار التي يسردها الشيخ ريان عن أخبار القبيلة، ويخبرها بالمجد الذي عاد الى القبيلة بفضل توجيهات الأمير ضرغام، واستفادته من التعليم في تحسين أوضاع القبيلة، وتنمية زراعتها ومراعيها، وأن الأمير بقي له سنة ليعود إلى القبيلة أميراً عليها(ص٥٥-٥٦). لم يعجب الحكي المهلهل، فهذا سيقوي ارتباط علياء بقبيلتها وابن عمها، وهو يسعى إلى غير ذلك، فما كان منه إلا تمزيق الرسالة، وكتابة رسالة مخالفة تماماً لما جاء في الرسالة الأولى، حيث كتب أن القبيلة ديار خاربة وأطلال مدمرة، وتفرق شملهم، ويعيشون أتعس حياتهم، وأميرنا ضعيف تعيس لم يستطع رد الظلم عن القبيلة، وقد تزوج من إحدى بنات الحي، وأغلق الرسالة وأرسلها مع خادمه إلى علياء. يمثل المهلهل شخصية العذول الذي تنتابه حالة الحسد والغيرة فيسعى لتدمير علاقة الحب التي تربط بين علياء وقبيلتها وابن عمها، وحالة العذول كثيراً ما تناولها الأدباء العرب خاصة القدامى منهم في كتاباتهم النثرية والشعرية، ونجده دائماً من ذوي القربى، فلا نجد قصيدة غزل أو قصة حب لا تخلو من هؤلاء المفسدين، فقد أصبح وجودهم ضروري، كما في هذه الرواية، لتمام نسيج الدراما التصاعدية المشوقة للنص السردي. تقرأ الأميرة علياء الرسالة، فتصاب بصدمة عصبية ونفسية على حال قبيلتها، وسقطت على الأرض مغشياً عليها، وحين فاقت من صدمتها قررت الرحيل والعودة إلى قبيلتها، وأرسلت تخبر خالها الأمير بشار بقرارها. لقد جاءت الرسالة بنتائج عكسية غير ما توقعه المهلهل، وحين طرحت عليها العجوز أن تتزوج الأمير المهلهل لكي تريح نفسها من العذاب، كان رد الأميرة عليها قاسياً يدل على وفائها واخلاصها لقبيلتها، تقول: "ماذا تقولين؟ أفضل ألف مرة أن أموت على أن أقبل التخلي عن قبيلتي وهي في حال الشدة والمحن"(ص٦٠). لم يصدق الأمير بشار ما جاء في الرسالة وهو يعلم حال قبيلة النسر الجيد، وعودتها إلى عهدها السابق بل أكثر، وأحوال أميرها تبشر بالخير. وأشار أن هذه الرسالة كاذبة، وأنها دسيسة دنيئة، وقرر البحث عن الخائن لمعاقبته. وتوجه الأمير بشار إلى ابنته اخته لينفي لها ما جاء في الرسالة، وقد حاول أن يؤكد لها زيف الرسالة، ولكنها لم تصدق، فاتفق معها أن يرسل وفد من طرفه إلى قبيلتها ويعود ليخبرنا عن أحوالها، فوافقت علياء على الفكرة، وذهب الفارس غانم مع رجلين من القبيلة لاستطلاع الأمر. ويدخل الحلم الذي يمثل انعكاساً للواقع يختزن الأحداث في اللاوعي عند الإنسان، ويظهر هذا المخزون على شكل أحلام كما يقول علماء النفس، وقد وظفت الكاتبة الحلم ليشكل وعياً خاصاً تعالج من خلاله الكاتبة الأزمة الإنسانية التي تواجه الأميرة علياء وحالة الحيرة والشك التي تنتابها بشأن مستقبل قبيلها الذي يعني مستقبلها، فتعمل من خلاله على تغيير مجرى السرد، بعد رحيل غانم باتجاه قبيلتها، ترى علياء في الحلم أمها سعدى تخبرها قائلة: "لك البشاير يا علياء، قريباً تعودين إلى ديارك، وتنسين حياة الآلام والتشرد"(ص٦٥). يعود غانم ومرافقيه يحملان البشاير الجميلة عن قبيلة النسر، ومعهم الشيخ رباح من القبيلة لكي يزف الأخبار المفرحة للأميرة لكي يطمئن قلبها وتهدأ نفسها. لقد حقق الحلم مراده، وتغيرت الأميرة كلياً حين سمعت أخبار قبيلتها المفرحة من الشيخ رباح. لقد أحبطت دسيسة المهلهل، ولاحظ أن "الأميرة قد تغيرت تغيراً كبيراً، فقد هجرت عزلتها ووحشتها، وأخذت تكثر من الاختلاط بفتيات الحي ونسوته، وتذهب لزيارة شقيقاته الأميرات لأول مرة منذ نزولها الحي"(ص٦٩). رغم فشل مساعيه الكيدية، إلا أنه ما زال مصراً على الفوز بالأميرة علياء، فدبر مكيدة جديدة، وطلب من خادمه علي تنفيذها، بأن يذهب إلى قبيلة النسر قبل عودة أميرهم ويعلن أمامهم عن موت الأميرة علياء، نفذ الخادم المطلوب منه، وضجت القبيلة لهذا المصيبة التي حلت بهم، فأعلن شيخهم عدم اقامة عزاء أو إخبار الأمير ضرغام بالأمر. في نوع من تسريع الزمن، زمن الأحداث تقول الساردة: "مضت الأيام تباعاً". كانت علياء تتلقى أخبار قبيلتها هي سعيدة معهم في انتظار عودة الأمير ضرغام، فبدأت تعد العدة للرحيل. شخصية الأمير ضرغام: رغم دوره البسيط في الرواية إلا أنه يمثل الشخصية الايجابية التي تمكنت من إحداث التغيير، بما تعلمه في المدرسة، وتوظيف هذا العلم في خدمة القبيلة ورقيها. هو ابن الأمير جعفر وخطيب الأميرة علياء. تربى يتيماً بعد وفاة أمه وزواج أبيه، وقامت على تربيته زوجة عمه سعدى، فنشأ في كنفهم مع ابنتها علياء في خيمة واحدة. كان الأمير ضرغام منذ صغره يحب العلم والدراسة، ومتعصباً ضد الأمية والجهل، فالتحق بمدرسة بعيدة عن حيهم، وقبل سفره يعلن والده خطوبته على ابنة عمه علياء، وكان آنذاك في الرابعة عشرة من عمره، وهي في الثانية عشرة من عمرها. تقول الساردة: "وكانت هذه الخطوبة حافزاً قوياً لشحذ همة الأمير الصغير وتجديد نشاطه وتقوية عزيمته، فهو ينتظر اليوم الذي يصبح فيه رجلاً مديد القامة، عريض المنكبين، جهوري الصوت، ليري علياء ضروباً من الفروسية والرجولة، يريد أن يصبح أميراً نافذ السلطة، مطاع الأمر، ليري علياء مقدرته على تدبير الإمارة وإدارة القبيلة، يريد أن يصبح عالما ًمتعلماً ليحدث علياء عن كل فن من فنون الحياة"(ص22). منذ صغره تشكلت رؤاه وأحلامه تجاه قبيلته ومستقبلها. فقد كان الأمير ضرغام بالنسبة لقبيلة النسر يمثل المخلص من كل مشاكلها وأزماتها "فها أميركم الضرغام لا يلبث أن يصبح رجلاً عظيماً، فيعيد إلى القبيلة بمعونتكم (رجال القبيلة) يومها الدابر، وعزها الغابر"(ص31). بعد وفاة والده، ورغم صغر سنه، إلا أنه تمكن من جمع رجال قبيلته في صيوان والده، وشرح لهم خطورة أوضاعهم وحال القبيلة وتفككها، واستشارهم في الأمر، فأشاروا عليه بتسليم شؤونهم إلى شيخ عاقل خبير يكون مسؤولاً عن أحوال قبيلتهم حتى يعود، وكلف الشيخ ريان بإدارة شؤون القبيلة حتى عودة الأمير ضرغام، وبقي الأمير والشيخ على اتصال دائم لحل مشاكل القبيلة وقضاياها، ويتلقى من الأمير التعليمات والأوامر"(ص53). لقد أثبت الأمير حنكته وقدرته على إدارة شؤون قبيلته رغم ابتعاده عنها، بفضل المخلصين من رجال قبيلته، وبفضل العلم الذي تعلمه. في حديث بين الشيخ قيس من مشايخ عرب الغور وصديقه الأمير المهلهل عن قبيلة النسر وأميرها، يصف الشيخ المجد الذي وصلت إليه القبيلة بفضل الأمير وأهمية العلم في هذا المجد، فقد أدخل اصلاحات كبيرة في أراضي القبيلة واهتم بزراعتها، وحرثها بالآلات الحديثة، وزرعها بالحبوب والخضار، وردم البرك والمستنقعات، واعتنى بالنظافة والصحة، وعزل المواشي بعيداً عن الحي، كما توفروا على استغلال محصولات الألبان فأصبحت منتوجاتهم من السمن والجبن والزبدة تغزو أسواق المدن بفضل جودتها، وتحدثت الصحف عن اصلاحاته وطار صيته في الآفاق(ص53-54). بمجرد عودة الأمير الذي انتظرته القبيلة سنوات، شعرت بأن الروح قد عادت لها، وستحقق مجدها وعزتها بين القبائل والعربان. قرر في اليوم التالي السفر إلى قبيلة المناذرة لاستعادة الأميرة علياء، وخرج معه رجال القبيلة رغم المكيدة التي دبرت للأميرة علياء، وحزن القبيلة وفاجعتها، فلم تخبر الأمير بالأمر. في الطريق أخبروه بموت الأميرة، فصرخ بصوت كقصف الرعد "ماتت علياء، ماتت علياء، غريبة عن الدار والوطن والأهل والأقارب، ماتت نزيلة لاجئة، نعم ماتت"(ص75). لقد أوصلت الكاتبة حدة الدراما في السرد إلى أقصى درجة من تشويق القارئ، بجعل الفاجعة سبباً للسعادة حينما يكتشف ضرغام كذب موت الأميرة، وأنها مكيدة دبرت بحقها. استقبلت الأميرة علياء ابن عمها ورجال قبيلتها بالدموع الممزوجة بالفرح، وعادت معهم إلى قبيلتها. الرؤية الكلية للنص: لقد تمكنت الكاتبة من امتلاك الأدوات الفنية في كتابة رواية أو قصة طويلة، ولكنها تبقى في حدود البدايات الفنية للرواية، واستطاعت بقدرتها الابداعية أن تحبك حكايتها في التأكيد على العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والأردني منذ زمن بعيد، وأن أواصر النسب والمصاهرة والقرابة تجمع بينهما، ولا يمكن نزعها أو تبديدها، فهم قوة واحدة أمام أي شر أو مكيدة. وأكدت على أهمية العلم والتعليم في إحداث التغيير في المجتمع، فهذا الأمير ضرغام رغم صغر سنه إلا أنه بفضل العلم انتشل قبيلته من السقوط والضياع، وأعاد لها مجدها. فقد كانت مسألة التعليم ذات حراك عالي في المجتمع الفلسطيني قبل النكبة، وثمة اهتمام كبير من الكتاب والصحفيين بهذه المسألة لأنها في نظرهم أداة اخراج المجتمع من الجهل والتخلف. ومما يثير القارئ ما عبرت عنه الكاتبة في نظرتها للمرأة البدوية، فقد خالفت في روايتها نظرة عصرها إلى المرأة، وخاصة في المجتمع القبلي البدوي، حيث كانت المرأة هناك دون رأي أو مشورة، ولكنها تجاوزت هذه المسلمات لتبرز أن للمرأة في هذا المجتمع قيمتها ومكانتها الاجتماعية تستمدها من مكانة قبيلتها، فهي تمتلك الحرية الشخصية، وحرية التمتع واللهو، وحرية الرأي. فنجد الأميرة سعدى تركب الخيل مع خدمها ويوغلن في أراضي الغور القريبة من الحدود الفلسطينية. وتطلق لنفسها الحرية في التمتع بجمال الطبيعة وصفائها، فتأخذ بعض خدمها إلى بيارة الموز حيث تخلع عباءتها المقصبة، وتجلس على ناحية تشرف على المراعي، وحينما يراها الرعيان كانوا يهرعون إليها للتحية، ويطربونها بأغانيهم الشجية على الناي، فتبتهج الأميرة. كما جلست الأميرة سعدى في صدر الصيوان بين رجالات القبيلة، تستمع إلى حديث الأمير جعفر حين يعلن خطبة الأمير ضرغام على ابنتها الأميرة علياء، فقد قصد حضورها وسط الصيوان تقديراً لمكانتها وحسبها، وهذا ينم عن الاعلاء من قيمة المرأة. وكذلك مشاورة المرأة في أمر زواجها، فهذا الأمير بشار يذهب إلى علياء يستشيرها في أمر الزواج من ابنه المهلهل، فلم يجبرها أو يضغط عليها، بل ترك لها حرية الرأي بالرفض أو القبول، وحين رفضت احترم اخلاصها ووفائها لابن عمها. وتعيد الأميرة علياء سيرة أمها بعد أن انقشعت أزمتها، فأصبحت تخرج مع بنات خالها للهو والمرح عند التل القريب المشرف على الرعيان، ولم يعترض الأمير بشار حين رآهن عند التل، بل ترك لهن الحرية، وطالب الرعيان أن يغنوا لهن. كذلك ينزل الأمير بشار عند رغبة الأميرة علياء في مسماحة الذي زور الرسالة ودبر المكائد، ولم يعترض على موقفها، فهي في رأيه ذات عقل راجح، وهذا يعبر عن احترام المرأة والأخذ برأيها. بهذه الرواية (على ضفاف الأردن) نستطيع القول بما يخالف جميع آراء النقاد والباحثين في تاريخ الأدب، أن هذه الرواية هي أول رواية نسائية فلسطينية نشرت قبل النكبة، فإذا كانت رواية (الوارث) أول رواية يكتبها رجل هو خليل بيدس وينشرها سنة 1920، تكون هدية عبد الهادي في روايتها أول كاتبة فلسطينية تنشر رواية سنة 1943، وبذلك نؤكد أن الرواية النسائية الفلسطينية صدرت قبل النكبة وليس في خمسينيات القرن الماضي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ الأرقام الموجودة في متن الدراسة هي الاقتباسات من الرواية. |