|
برسم صناع القرار!
نشر بتاريخ: 17/11/2022 ( آخر تحديث: 17/11/2022 الساعة: 13:24 )
منذ أكثر من عشر سنوات، على الأقل، بتنا نشهد اكتظاظاً كبير اً في السيارات في كل مكان، ليس فقط في الشوارع الرئيسة خارج مدننا التي لا تخضع غالبيةُ الشوارع خارجها لـ "السيادة الفلسطينية" بحكم "الاتفاقيات"، اكتظاظٌ امتد ليصل إلى البلدات والمخيمات الكبيرة، حتى أننا نشهد تجلياتٍ لهذا الاكتظاظ في بعض القرى! إحدى أبرز المشاكل التي يواجهها أيُّ سائق يقصِد أيةَ مدينة فلسطينية، تتمثل بالاختناقات المرورية في معظم شوارع تلك المدينة، وعادةً ما تكون هذه الشوارع رئيسيةً تتواجد على جنباتها المراكز الحيوية التي يضطر المواطنون للتوجه إليها لمراجعات تخص إنجاز معاملاتهم الحكومية أو للطبابة أو للتسوق أو غير ذلك. السائق المثقل بالالتزامات المالية الكبيرة حاله حال باقي المواطنين؛ بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وتردي الأوضاع الاقتصادية، يجد نفسه مضطرا للدفع مقابل الحصول على موقف لسيارته، سواء كان هذا الموقف خاصا أو يعمل بعدادات الدفع المسبق، وتكاد مواقف السيارات العامة غائبة في غالبية مدننا أو شحيحة إلى درجة الندرة، وإن وجدت فإن مساحتها صغيرة لا تكفي نظرا للزيادة المضطردة في عدد السيارات، وحتى هذه المواقف العامة "يجب الدفع مقابل استخدامها" أيضا! في البداية كانت مشكلة الاختناقات المرورية تنحصر في فترة الذروة – ساعات توَجُهِ الطلبة والمعلمين إلى المدارس والموظفين والعمال إلى مراكز عملهم والساعات التي يعودون فيها إلى بيوتهم – أما الآن فقد ازدادت هذه الاختناقات لتشمل معظم ساعات النهار، وفي بعض الأحيان تمتد لساعات الليل! البلد نما وتطور من حيث عدد السكان والأبنية السكنية والمنشآت التجارية وسيارات النقل الخاصة والعامة، ولا يوجد في المقابل نمو مكافىء في بنى الخدمات التحتية، ومنها الشوارع؛ لذلك لا يظهر أي تأثير لكل التدخلات التي تقوم بها شرطة المرور من أجل حل مشكلة الاختناقات المرورية، وتبقى مشكلة الحاجة لاستغراق نصف ساعة لقطع مسافة تستغرق بضع دقائق، بسبب الأزمة المرورية، قائمة وتتمدد في معظم المدن؛ حتى أن السيد الرئيس نفسه تنبه إلى ذلك، محذرا سيادته من "تحول البلد إلى موقف سيارات"! منذ تحذير الرئيس أبو مازن الذي أطلقه خلال ترأسه اجتماعا لمجلس الوزراء في شهر تموز من العام الجاري 2022 ، لم يحدث شيء استجابة لهذا التحذير، وإن تم اتخاذ اجراءات لحل هذه المشكلة فإنها غير ملحوظة أو غير كافية؛ لأن أزمة الاختناقات المرورية لا تزال قائمة، ومن يقول غير ذلك يجافي الحقيقة! هل فقط تحولت البلد إلى موقف سيارات؟ ماذا عن النفايات التي نجدها تتكدس على المداخل الرئيسة لمعظم مدننا؟ ماذا عن الأرصفة التي تحولت لعرض البضائع في حين حرم المشاة، المخصصة لهم أصلا، من استخدامها؟ ماذا عن الساحات المفتوحة التي "تنهشها" الجرافات "بضراوة" لصالح بناء العمارات والأبراج السكنية و "المولات التجارية" دون رأفة بالمواطن الذي يبحث عن مكان، حتى لو كان محدود المساحة، ليروح فيه عن نفسه؟ ماذا عن "دورات المياه العامة" التي تغيب عن مدننا وإن وجددت فعددها قليل، وفي كل الأحوال أنت مضطر للدفع من أجل استخدامها، ورغم ذلك فإن من يقومون عليها، ويقبضون من ورائها، لا يحرصون على نظافتها كما هو مطلوب منهم، على الأقل "حتى يحللوا قروشهم"؟.. وماذا؟ وماذا؟؟!! هذه كلها، طرق المواصلات التي يطلق عليها اسم "الشبكات الاقتصادية" - لدورها في رفع عوائد البلد المادية - ومعها الساحات العامة، مواقف السيارات العامة، دورات المياه العامة، الحدائق والمتنزهات العامة،المكتبات العامة، وغير ذلك من المنشآت والبنى المشابهة يمثل توفيرها حقاً من حقوق المواطن الذي يدفع الضرائب، أهميتها تماثل حقه في الحصول على الماء والدواء والهواء النقي وممارسة حرية التعبير، وهي بمثابة "الشرفة الأمامية للمجتمع"، أي مجتمع على الاطلاق، عليها تتحدد علاقة هذا المواطن بهذا "المكان"، إما سلبا أو إيجابا، إما طردا أو جذبا، وينسحب ذلك على الزائر أو المستثمر الأجنبي! كل الأماكن العامة المشار إليها يصطلح على تسميتها بـ "الفضاء العام"، وهذا الأخير أصبح محل اهتمام في كل بلدان العالم، صغيرها قبل كبيرها، النامي منها مثل المتقدم، وتحسب لها تلك البلدان في عمليات "التخطيط الحضري" التي تقوم بها كل حساب، ودائما ما كان النجاح في عمليات التخيط، وفي توفير هذه الأماكن، سببا في النمو الاقتصادي لتلك البلدان وجذب السياح إليها ومنع الهجرة منها وانتعاش الحالة النفسية لسكانها! دائما ما نتحدث بأن "النضال الوطني لا ينفصل عن النضال الديمقراطي"، ويشمل هذا النضال الأخير – الديمقراطي أقصد – جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ونتحدث أيضا عن تعزيز صمود الناس والتخفيف من أسباب معاناتهم، ونتحدث كذلك عن الحاجة إلى "وسائل نقل عامة" تخفف من اللجوء لاقتناء سيارات خاصة، وهي عادة باتت تنتشر في أوساط المجتمع الفلسطيني كما تنتشر النار في الهشيم، ونؤكد أن "المجتمع الفلسطيني مجتمع فتي" ويجب الاهتمام بالشباب وتوفير ملاعب ومراكز ثقافية لاطلاق الابداعات والطاقات الدفينة لديهم، إلا أننا، وللأسف الشديد، لم نعمل شيئا "ملحوظا" و "كافيا" – لاحظوا أنني لم أقل لم نعمل شيئا على الاطلاق – على هذا الصعيد، ومن المؤسف أيضا أن مثل هذه القضايا، القضايا التي تتعلق بمجالات الفضاء العام الذي هو حق من حقوق الانسان، غير موجود على أجندة الأحزاب الفلسطينية ومنظمات المجتمع الأهلي والمدني الفلسطيني، ولا حتى على أجندة ما تسمى بـ "النخب الفلسطينية". لا يشكل ذلك محل اهتمام حقيقي لهذه الجهات كلها، والأنكى من ذلك أن المشرع الفلسطيني والمؤسسات الرسمية الفلسطينية لم تعط هذا الأمر ما يستحقه من عناية، أو على الأقل، لا تزال تعاني من قصور كبير على هذا الصعيد! ترى هل لهذا السبب، مثلا، قال عيسى قراقع في مقال تحت عنوان (رام الله.. مدينة لا تعرف الحب) - هذا المقال الذي أدمى القلوب قبل العيون – " رام الله أخذت مني حبيبتي بعد أن أصبحت مدينة من باطون وحصمة واسمنت، مدينة الاستثمارات والعقارات والمصالح العابرة للحدود، مدينة الرجال الجدد الذين يكرهون الحدائق والورد والأشجار ورائحة القرية والطابون، اشتروا المساحات وبنوا العمارات، لا هواء في رام الله، لا غيم ولا طيور، الفضاء غبار، المباني السكنية عمودية احتلت السماء، خلاطات الباطون تدور، جرافات تهدم البيوت العتيقة التراثية، تهدم الشارع والسقيفة التي تعرفني، تهدم ذاكرتي"؟ أظن أن المقال المشار إليه يعالج في جانب كبير منه الأسئلة التي أتناولها هنا، ولا أغفل القضية الرئيسة التي تناولها مقال قراقع وهي استحالة تحقيق لا السلام ولا التنمية في ظل الاحتلال، وإذ أتفق معه تماما في ذلك، إلا أن الاحتلال لا يجب أن يكون شماعة نعلق عليها عجزنا عن اتخاذ أية إجراءات تكون بمستوى إمكاناتنا الذاتية المحضة والمتاحة بما يكفل تعزيز صمود الناس والتخفيف من معاناتهم حتى يواصلوا المسير قدما في درب النضال.. وفي كل الأحوال سنبقى "نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا، ونرقص بين شهيدين، نرفع مئذنة للْبنفسج بينهما أو نخيلا".. وسيبقى الانسان، والذي قال عنه الراحل غسان كنفاني إنه "قضية"، ركيزتنا الأساسية للصمود، وأملنا بمستقبل أفضل، لذا من المطلوب، بل من الضروري، وهذا أقل الواجب، التخفيف عنه، ليس أكثر! |