وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

العروبـــة تُبْعــث مــن جـديـد فـي مونديــال قطــر

نشر بتاريخ: 09/12/2022 ( آخر تحديث: 09/12/2022 الساعة: 13:29 )
العروبـــة تُبْعــث مــن جـديـد فـي مونديــال قطــر

ظنَّ البعض أنَّ روح العروبة خرجت من الجسد العربي، حتى عادت من جديد إليه في مونديال قطر، فالروح التي خرجت من بوابة السياسة بسبب الأنظمة الحاكمة والحدود المفروضة عادت من بوابة الرياضة في مونديال قطر، وبعثت الحياة من جديد في الجسد العربي.

علامات الحياة في هذا الجسد تتمثّل بالتفاف الجماهير العربية حول منتخبات قطر والسعودية وتونس والمغرب، بتشجيعها أثناء المباريات، والفرح عند فوزها، والحزن عند خسارتها، وآخرها ابتهاج العرب من المحيط إلى الخليج بتأهل منتخب المغرب لدور ربع النهائي لكأس العالم بعد فوزه على المنتخب الإسباني.

وكذلك، يعدّ حضور فلسطين كقضية جامعة لكل العرب في مونديال قطر من علامات عودة الروح وبعث الحياة في الجسد العربي. برز هذا الحضور من خلال رفع المشجعين العرب علم فلسطين، ووضع الكوفية الفلسطينية، والهتاف لفلسطين، ومقاطعة الإسرائيليين وإعلامهم، ومواجهتهم بعبارة: "ما في شي اسمه إسرائيل. هذه فلسطين"، التي أطلقها مشجعون من كل الجنسيات العربية. هذا البعث الجديد للعروبة في مونديال قطر يقتضي العودة إلى ماضي العروبة ومستقبلها.

نشأت العروبة كهُوية قومية في النصف الأول للقرن العشرين، نتيجة مجموعة عوامل، أهمها رد الفعل على سياسة التتريك الطورانية العثمانية، تزامناً مع النهضة الفكرية العربية، واقتراناً بحركات التحرر من الاستعمار العربية.

وقد تبلورت كمشروع سياسي في النصف الثاني للقرن العشرين نتيجة سلسة أحداث، أهمها ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق، وثورة الضباط الأحرار (23 تموز/يوليو) في مصر، ونكبة فلسطين عام 1948، وفشل العدوان الثلاثي على مصر، واندلاع ثورة الجزائر على الاحتلال الفرنسي، وقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا.

تبنَّت العروبة كهوية قومية ومشروع سياسي تيارات قومية، أهمها حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي والتيار القومي الناصري، فسرت روح العروبة في الجسد العربي الممتد من المحيط إلى الخليج، وعبّر الفن عن هذه الروح القومية، ولا سيما فن الأغنية العربية.

برزت روح العروبة في مئات الأغاني العربية، ولا سيما في مصر والشام، فغنى محمد سلمان: "لبيك يا علم العروبة كلنا نفدي الحمى"، وغرّد كارم محمود: "أمجاد يا عرب أمجاد في بلادنا كرام أسياد"، ولحَّن محمد عبد الوهاب أوبريت "وطني حبيبي الوطن الأكبر، يوم ورا يوم أمجاده بتكبر".

وحضرت فلسطين في أغاني العروبة، فدعت أم كلثوم إلى المقاومة والتحرير: "أصبح عندي الآن بندقية إلى فلسطين خذوني معكم"، وبشّرت فيروز بحتمية العودة: "سنرجع يوماً إلى حينا.. سنرجع مهما يطول الزمان".

وكما عبّر الفن عن روح العروبة في سنوات إشراقها، فقد عبّر عنها في سنوات غروبها، فكان أوبريت "الحلم العربي" في نهاية القرن العشرين خير تعبير عن ذلك الغروب بعدما أصبحت العروبة من ذكريات الماضي المدفون وأحلام المستقبل المكنون، كما صرحت كلمات الأوبريت، ومنها: "أجيال ورا أجيال هنعيش على حلمنا... دا حلمنا طول عمرنا حضن يضمنا كلنا"، فعبّرت عن تحوّل العروبة من مشروع قريب المنال إلى حلم في الخيال، بفعل أحداث جعلته في حكم المُحال.

أهم هذه الأحداث كان فشل مشروع الوحدة العربية بين مصر وسوريا، وضياع بقية فلسطين بعد النكبة الثانية في حزيران/يونيو، وانهيار التيار القومي الناصري بوفاة زعيمه جمال عبد الناصر، وتفكك حركة القوميين العرب، وانقسام حزب البعث العربي الاشتراكي بين سوريا والعراق، وسقوط النظام العربي الرسمي بعد اتفاقية "كامب ديفيد" وحرب الخليج الثانية، وتدجين الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة المنظمة بعد اتفاقية أوسلو...

وعندما وصلنا إلى مطلع الألفية الثالثة، تبخّر "الحلم العربي" نفسه تحت شمس التطبيع الحارقة، أو هكذا خُيّل إلى النخبة العربية الحاكمة والمرتبطة بها، المهزومة نفسياً، والمستلبة عقلياً أمام الاستعمار الصهيو-أميركي، فكفروا بالعروبة هويةً ومشروعاً، ورفعوا شعارات ظاهرها الوطنية وباطنها اللاوطنية، مثل: مصر أولاً، ولبنان أولاً، والسعودية أولاً... ونشروا تدوينات غبية بنكهة صهيونية، مثل: "فلسطين ليست قضيتي"، وكتبوا مقالات تُنظّر لفوائد التجزئة القطرية وتشرعن وجود "الدولة" العبرية.

وجود العروبة لدى الجماهير العربية كهوية وعاطفة وحلم جيد ومطلوب، ولكنه لا يكفي، فلا بد من تحوّل الهوية إلى مشروع قومي، والعاطفة إلى برنامج سياسي، والحلم إلى خطة عمل. وقبل كل ذلك، من الضروري تحديد مضامين مشروع العروبة السياسي، ورسالة العروبة الحضارية، وقضية العروبة المركزية.

مشروع العروبة السياسي هو "الوحدة"، فالوحدة كمشروع قومي للعروبة ترتبط بجذور عميقة راسخة مستمدة من وحدة اللغة والثقافة والحضارة والتاريخ والجغرافيا والتحديات والمصالح، وتستند إلى وحدة المشروع الغربي الاستعماري ضد الأمة العربية والإسلامية، القائم على تجزئة الوطن العربي، ليسهل على الغرب السيطرة العسكرية والهيمنة السياسية عليه، وليتمكَّن من النهب الاقتصادي والإلحاق الثقافي.

ومشروع التجزئة الاستعماري يتطلَّب مواجهته بمشروع الوحدة العربية في إطار الدائرة الإسلامية، للتحرر من الاستعمار الغربي بكل صوره المباشرة وغير المباشرة. هذا المشروع الوحدوي العربي من شأنه أن يبعث الروح في الأمة، فيشحذ الهمم، ويُنير الوعي، ويوحد الصفوف، ويُفجّر الطاقات، ويُطلق الإبداعات، فتعود خير الأمم من جديد.

رسالة العروبة الحضاريّة هي "الإسلام"، فالإسلام كرسالة حضارية للعروبة مستمدّ من قوة العلاقة بين الإسلام والعروبة، فكتاب الإسلام القرآن الكريم هو كتاب عربي اللسان، ونبي الإسلام محمد - صلّى الله عليه وسلم - عربي، وبلد الإسلام الجزيرة العربية كمصدر للإشعاع الحضاري للعالم هو بلد عربي.

والإسلام هو الرسالة الخالدة التي جعلت للعرب ذكراً والعروبة مجداً، وجعلت لهم حضارة إنسانية راقية، فالإسلام هو المحتوى الحضاري للعروبة والمضمون الحي للقومية العربية، وكما قال ميشيل عفلق – مؤسس حزب البعث – عن رسالة العروبة: "إنَّ العروبة من غير الإسلام مفهوم سلبي. ومن دونه، تبقى القومية العربية قالباً أجوف فارغاً، والإسلام هو المضمون الحي الثوري للقومية العربية"، وكما قال فتحي الشقاقي – مؤسس حركة الجهاد – عن العلاقة بين العروبة والإسلام، إن العروبة هي اسمنا ولوننا وجلدنا وأرضنا، والإسلام هو روحنا وهويتنا، "لقد سُرقت الأرض من تحت أقدامنا، فيما نحن مشغولون بإلهيات الصراع بين العروبة والإسلام".

قضية العروبة الأولى هي فلسطين؛ ففلسطين قضية مركزية للعروبة، بسبب ارتباطها بمكانة القضية الفلسطينية القومية والدينية، بما لها من قداسة في الدين، وعمق في التاريخ، ومركزية في الصراع، وتأثير في الواقع، وأهمية للمستقبل.

وما دامت "إسرائيل" مركز المشروع الغربي الاستعماري ورأس حربته ضد الأمة العربية والإسلامية، ولأن العروبة - كما الإسلام – تعيش التحدّي المركزي في فلسطين، فلا خيار سوى أن تكون فلسطين مركز المشروع القومي العربي المنسجم مع المشروع الإسلامي العالمي.

هذا يعني أنَّ القضية الفلسطينية مرتبطة بكل قضايا العرب والمسلمين، والتخلّص من واقع التجزئة والتخلّف والتبعية وإنجاز مشروع الوحدة والنهضة والاستقلال مرتبط بإنجاز مشروع تحرير فلسطين، فهما أمران متكاملان يهيئ أحدهما للآخر، كما قال ميشيل عفلق: "كل معركة تخوضها الجماهير العربية ترتبط بمعركة فلسطين تؤثر فيها وتتأثر بها"، وكما قال فتحي الشقاقي: "أصبحت فلسطين قضية العرب المركزية، والعمل من أجل تحريرها أصبح معياراً لإخلاص الجميع لقضايا القومية".

العروبة تُبعث من جديد في مونديال قطر كروح وعاطفة وهُوية، بعدما خُيّل إلى البعض أنَّ الروح ماتت، والعاطفة خمدت، والهوية طُمست. وعودة الروح وتأجج العاطفة وبروز الهوية أشياء مطلوبة للعروبة، ولكن ما هو مطلوب أكثر هو أن يكون للعروبة مشروع سياسي هدفه الوحدة، ورسالة حضارية مضمونها الإسلام، وقضية مركزية عنوانها فلسطين.