|
النخبة الاقتصادية الإسرائيلية في تشاؤم وفزع
نشر بتاريخ: 09/02/2023 ( آخر تحديث: 09/02/2023 الساعة: 11:38 )
يعصف مشروع التعديلات القضائية لحكومة نتنياهو السادسة، الهادف إلى إدخال تغييرات عميقة في نظام الحكم، وإلى هيمنة شبه مطلقة لليمين على مفاصل السلطة وعلى المحاكم وعلى قواعد اللعبة السياسية، في المجتمع الإسرائيلي، الذي يتعمّق فيه الانقسام ويحتدم النقاش ويرتفع صخب الخلاف، وتنطلق أسبوعيا مظاهرات غاضبة على القوانين الجديدة، التي يجري سنّها في الكنيست والتي تؤسّس لمرحلة إسرائيلية جديدة، تخضع فيه السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، لهيمنة تامة للحكومة ولمن يشاركون فيها. احتجاجات اقتصادية احتد النقاش حول الآثار الاقتصادية لخطة تغيير النظام في إسرائيل، بعد الاجتماع الذي عقده البروفيسور أمير يرون محافظ بنك إسرائيل مع بنيامين نتنياهو، الذي حذّر فيه من تداعيات الخطة على مكانة إسرائيل الدولية في العالم. أمير يرون، العائد من مؤتمر صندوق النقد الدولي في دافوس، طلب اجتماعا عاجلا وقال لنتنياهو: «في العالم يتابعون ما يحدث بقلق شديد.. وهناك خطر في أن يتضرر الاقتصاد، ويجري خفض تصنيف الائتمان، وترتدع شركات عالمية عن الاستثمار في إسرائيل». نتنياهو لم يرد، وسارع إلى عقد مؤتمر صحافي شرح فيه أن خطة التغييرات في الجهاز القضائي مفيدة للاقتصاد الإسرائيلي، لأنّها تحرره من الأكبال القضائية. لقد بدا نتنياهو فزعا ومرتبكا من تتالي التصريحات والتسريبات حول انهيار اقتصادي يتبع التعديلات القضائية، ولكنّه لم ينجح في تجنيد أي باحث اقتصادي وازن يدعم مواقفه. في الحقيقة، لم تقتنع النخبة الاقتصادية الإسرائيلية بأقوال نتنياهو، بل بالعكس. ففي خطوة غير مسبوقة أرسل 270 محاضرا في علوم الاقتصاد المختلفة، عريضة إلى نتنياهو بعنوان «التعديلات القضائية خطر على الاقتصاد الإسرائيلي». وحذّروا فيها من سحب الاستثمارات من إسرائيل، ومن ضرب قطاع «الهايتك» ومن خفض التصنيف الائتماني. وقد استند المحاضرون في عريضتهم إلى عدد لا حصر له من الأبحاث الدالّة، على أن إضعاف المؤسسات وانحسار التوازنات والكوابح في نظام الحكم وهيمنة طرف واحد على السلطة، تؤدي، بحكم التجربة والدراسات، إلى هروب الاستثمارات والأدمغة وتحويل الدول إلى دول منبوذة اقتصاديا. يبدو أنهم يتبعون بتحليلاتهم نظرية اقتصاد المؤسسات، التي تحظى برواج وبشعبية في الأوساط الأكاديمية. المنظّر الأهم في العالم لمفهوم الاقتصاد المؤسساتي هو المحاضر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا دارون أسيموجلو، التركي الأصل وصاحب كتاب «لماذا تفشل الأمم؟»، وفيه يستنتج أن العامل الحاسم في تسارع أو تلكّؤ التطوّر الاقتصادي هو المؤسسات السياسية، أكثر بكثير من الموارد الطبيعية والجغرافيا، وفي مقابلة أجرته معه مؤخّرا صحيفة إسرائيلية، هاجم نتنياهو بشدّة ووصفه بأنّه «الأب المؤسس للشعبوية اليمينية». وقد أضاف أسيموجلو توقيعه إلى عريضة دولية، أرسلها 56 من كبار الاقتصاديين في العالم، وبينهم 11 من الفائزين بجائزة نوبل، حذروا فيها مما وصفوه بالآثار المدمّرة لخطة التعديلات القضائية. تسود النخب الإسرائيلية حالة من الغضب الممزوج باليأس وبقلّة الحيلة في مواجهة انقضاض نتنياهو ومن معه على الجهاز القضائي وعلى الدولة العميقة الهايتك في أزمة؟ استند نتنياهو في حكمه وفي عودته المتكررة إلى السلطة إلى ثلاث ركائز تمنحه القوّة، أوّلها السياسة العدائية والعدوانية ضد الشعب الفلسطيني، انطلاقا من التأويلات الأكثر يمينية وشوفينية للصهيونية، وثانيها خطاب داخلي تأليبي وشعبوي ضد جهاز القضاء «الذي يلاحقه كقائد لليمين» وضد الدولة العميقة وضد منافسيه عبر هجوم كاسح ويومي ضد اليسار، حتى بعد اختفاء اليسار، وثالثها نجاح اقتصادي، وفق معايير رأسمالية، يتجلّى بمعدلات نمو مرتفعة، وبطالة منخفضة وارتفاع في مستويات الدخل، وأكثر ما يفاخر به هو التطوّر الهائل في صناعة الهايتك. لقد تطوّر قطاع الهايتك كثيرا في أيام حكم نتنياهو لأسباب كثيرة، لكنّه ينسبها كلّها إلى «عبقريته» الاقتصادية. ويشكل هذا القطاع ما يقارب 15% من الناتج المحلّي الإجمالي ويشتغل فيه حوالي 10% من المشاركين في سوق العمل، ويكوّن أكثر من 50% من الصادرات، وما يزيد عن 25% من دخل الأفراد، ونسبة مشابهة من مداخيل الضرائب. وتعتمد صناعة الهايتك الإسرائيلية على أموال خارجية تصل إلى 80% من مجمل الاستثمار فيه. هذه النسب منفردة ومجتمعة، وبكل المقاييس، هي الأعلى في العالم، ما يجعل الإسرائيليين يفاخرون بأنهم أمة «الستارت آب» وشعب «الهايتك». الهايتك بلا شك هو مصدر قوّة اقتصادي وأمني ومجتمعي وسياسي للدولة الصهيونية. لكنّه مصدر ضعف أيضا. فهذا القطاع هو الأكثر حساسية للاستثمار الأجنبي وللأوضاع الأمنية ولتقلّبات السوق العالمية. وإذ يشارك معظم العاملين والإداريين في الهايتك، في المظاهرات الأسبوعية ضد خطة تغيير القضاء الإسرائيلي، فقد سارعوا من طرفهم الى إطلاق حملة خاصة بهم تشمل مظاهرات وعرائض واجتماعات احتجاجية، لكن الأهم من كل هذا أن عددا من المديرين الإسرائيليين لصناديق الاستثمار في الهايتك، قاموا بسحب الأموال من البنوك الإسرائيلية، وأعلن قسم منهم عن نقل عمل شركاتهم إلى الخارج. وأوضح هؤلاء أن الاعتبار المركزي هو المحافظة على أموال المستثمرين، في ظل انعدام الاستقرار وازدياد المخاطر على رساميل الاستثمار، تبعا للتغيرات الجارية على الجهاز القضائي والخوف من تغيير أصول اللعبة من سلطة حاكمة وحيدة هي الحكومة. قلّة حيلة النخب القديمة تسود النخب الإسرائيلية حالة من الغضب الممزوج باليأس وبقلّة الحيلة في مواجهة انقضاض نتنياهو ومن معه على الجهاز القضائي وعلى الدولة العميقة وعلى مكانة النخبة الأشكنازية العلمانية التقليدية، ولا يحاول اليمين احتواء هذا السخط، بل بالعكس، فهو يفاخر بنصره ويسخر من المهزومين ويجاهر بفرحة التنكيل بهم وببهجة الانتقام منهم وبشماتته بالخاسرين. ومن أبرز من عبّروا عن مخاوفهم من تبعات «خطة التغييرات القضائية»، البروفيسور دانييل كهانمان، وهو عالم نفس من أصل إسرائيلي يعيش ويعمل في الولايات المتحدة، وقد حاز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002 على أبحاثه في مجال اتخاذ القرار في الاقتصاد، التي برهن فيها على أن الخوف من الخسارة أكبر بكثير من الرغبة في الربح، وبأنّ الحافز الأهم في القرار هو الامتناع عن خيبة الأمل والخسارة. وفي لقاءات إعلامية عبر كهانمان عن تشاؤمه قائلا: «التعديلات المطروحة هي خراب، وليس من الناحية القيمية فقط. سيكون لها تأثير سلبي ملموس في الاقتصاد وفي مكانة إسرائيل الدولية وفي نهاية الأمر في الأمن أيضا. إسرائيل لن تعتبر دولة ديمقراطية في نظر العالم، هكذا يتحدثون في أوروبا والولايات المتحدة. التعديلات ستجعل إسرائيل من الدول التي تتظاهر بالديمقراطية لكنها ليست ديمقراطية». وأضاف: «سيخجل الناس بأنّهم إسرائيليون وهذا سينتشر بسرعة ويكفي أن نقرأ ما يُكتب في «نيويورك تايمز» وواشنطن بوست». وأكد كهانمان في مقابلاته أن تأثير التعديلات القضائية سيكون بعيد المدى وأنه سيتجلّى في تراجع الاستثمارات وهجرة الأدمغة. حراك أم فرج عربي للأسف ليس من المؤكّد أن يهبّ العرب لاستغلال فرصة الضعف الإسرائيلي في هذه المرحلة، وقد يلجأ بعضهم، ويا للمصيبة، إلى مساعدة إسرائيل إن هي دخلت في محنة. نتنياهو من جهته سيسعى جاهدا لتجنيد استثمارات عربية خليجية، سندا للاقتصاد الإسرائيلي، ولكن الأهم من ذلك ليحمل معه الخبر إلى العالم قائلا «ها هم العرب يستثمرون فعلامَ أنتم خائفون من الاستثمار في إسرائيل؟». إسرائيل اليوم حساسة أكثر من أي فترة سابقة لمكانتها الدولية السياسية والاقتصادية، ويمكن استغلال ذلك فلسطينيا وعربيا. فإذا أضفنا إلى خشية المستثمرين من المجازفة بأموالهم في ظل تحوّلات نظام الحكم الإسرائيلي، الأزمة الاقتصادية العالمية التي تحمل معها تغييرات في أولويات شركات رؤوس الأموال، وكذلك التصعيد الأمني والعسكري الذي يردع المستثمرين، فإن أزمة إسرائيل المتوقّعة تفتح الباب لحراك عربي فعّال ومجد لمحاصرة حكومة الدولة الصهيونية. فهل هناك من سيتحرك؟ أم أن بعض العرب سيأتي إسرائيل بالفرج؟ |