أحمد رفيق عوض: "الحياة كما ينبغي"
نشر بتاريخ: 28/02/2023 ( آخر تحديث: 28/02/2023 الساعة: 15:42 )
الناقد العربي صبحي حديدي
لعلّ أحمد رفيق عوض هو اليوم عميد فئة خاصة في صفّ الروائيين الفلسطينيين يمكن أن توصف بالانحياز الدائم إلى التاريخ والرواية التاريخية، وليس هذا فقط في أعماله ذات الإفصاح العالي عن هذا النزوع، مثل "آخر القرن، 1999؛ و"القرمطي"، 2001؛ و"عكا والملوك"، 2005؛ بل كذلك في روايته الأحدث "الحياة كما ينبغي"، 2022، والتي تدور حول عملية مقاومة ضدّ الاحتلال نفذّها شابّ فلسطيني من قرية يعبد بتاريخ معاصر هو آذار (مارس) من العام 2022.
لافت أنّ هذا الروائي المولع بالتاريخ ومنعطفاته ورموزه ووقائعه التي تتراكم وتتفاعل وتتقاطع لترسيم هوية فلسطينية وطنية ومقاومة، لا يقلّ ولعاً بما يمكن للطبيعة أن تزوّد به الهوية الفلسطينية من مقوّمات الرسوخ والتماسك من جانب أوّل؛ وبما تسبغه، في الآن ذاته، من عناصر التنوّع والتعدّد. وسيلته المركزية في هذه الرواية الأخيرة، وهي أيضاً ترسانته لإدارة التفاعلات بين الهوية والشكل، هي تقسيم روايته إلى 23 فصلاً يحمل كلّ منها اسم شجرة؛ هي على التوالي الزعرور، الصنوبر، البلوط، القيقب، الصبّار، الرمان، اللوز، العبهر، الإسكدنيا، الحور، الزيتون، الجرانك، البطم، الليمون، الدفلى، الزنزلخت، الجوز، القندول، العنب، الميرمية، النخيل، البرتقال، والتبغ.
للأشجار وظائف سردية بالطبع، فشجرة الزعرور التي تفتتح الرواية هي التي تسند منفذ العملية راشد المحمود في ظاهر مخيم جنين، خلال واحدة من محطات تخفيه عن مطاردة مفارز الشباك له؛ وشجرة التبغ في الفصل الختامي تحيل إلى ولع أهل بلدة يعبد بالتنباك، الذي يُنسب إلى زيارة المتصوف الشهير عبد الغني النابلسي في القرن السابع عشر؛ وأمّا الميرمية، ورغم أنها نبات عشبي وليس شجرة، فإنها تعنون الفصل 20 من الرواية لأنها رمز احتكاك ضابط الاستخبارات الإسرائيلي مع الفلسطينيين والاقتداء بهم في شرب الشاي بالميرمية. وليس خافياً هنا أنّ هذه، وسواها، تنقل المحتوى إلى مستويات مجازية واستعارية ذات صلات مباشرة بالهوية الفلسطينية، الفردية منها والجَمْعية على حدّ سواء.
غير أن الاندماج التلقائي، الافتراضي أو الفعلي، بين عناصر المحتوى التي تصف عملية المقاومة، وجغرافية المطاردة والتخفي، وأسماء أمكنة فعلية مثل عرابة ونابلس وبرقين وبير الباشا، من جهة أولى؛ والآراء السياسية، والمواقف السلوكية، وزوايا النظر إلى الهويتَين الفردية والجَمْعية، التي تصدر عن الراوي راشد المحمود، من جهة ثانية؛ هو اندماج يحيل إلى إشكالية مركزية أثارتها دراسة السرد على أسس هوياتية، تتمثل في يقظة المؤلف بدل موته كما بشّر به رولان بارت وآخرون. كما أنه مساحة فسيحة لامّحاء الحدود بين الصوت السارد في الرواية وصاحبها أحمد رفيق عوض نفسه، وكيف يمكن للمحتوى أن يباشر نفياً داخل مشهدية الرواية في يعبد وجنين وسائر فلسطين، وخارجها في النصّ ذاته بوصفه وثيقةً ونتاج مخيّلة في آن.
وبمعزل عن أيّ ملمح للتشويق، شبه البوليسي أحياناً، في سرد مراحل التخفي والمطاردة بعد تنفيذ العملية، فإنّ حرص أحمد رفيق عوض على رفد الأحدوثات المتعاقبة بتأملات سياسية حول أوضاع الفلسطينيين بالعلاقة مع السلطة الوطنية، والسجالات التي ينخرط فيها راشد مع أقران علمانيين أو متدينيين، واعتماد لغة تقريرية تقترب مراراً من البيان السياسي والعقائدي... كل هذا يستجمع ما ساجل بندكت أندرسون، في كتابة الشهير الذي يعتبر الأمم "جماعات مُتخّيلة"، بأنه الحكي الذي يصنع الهوية أو يُنهضها.
ولعلّ هذه ذروة كبرى في تفاعلات الأركان الأربعة لهوية الشكل ومنفى المحتوى، داخل شبكة من فعل يبدو عادياً ويحدث كلّ يوم مراراً بين الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي؛ لكنّ شذراته الـ23 تتضافر ضمن سيرورات مركبة من تدوين وإعادة تثبيت تجليات المكان والزمان، غير منفصلة عن طبيعةٍ لفلسطين منتقاة مادياً ومجازياً، تبسطها لغة وصفية لا تعفّ عن الإفراط في الشاعرية.