|
دور المثقفين الفلسطينيين في الحفاظ على الأرض قبل سنة 1948
نشر بتاريخ: 01/04/2023 ( آخر تحديث: 01/04/2023 الساعة: 16:53 )
الكاتب: ماهر الشريف أولى المثقفون الفلسطينيون، قبل سنة 1948، اهتماماً خاصاً لقضية الأرض وحمايتها والحؤول دون انتقالها إلى أيدي المستوطنين اليهود، كما اهتموا بأوضاع الفلاح ومشكلاته، وحثوه، منذ وقت مبكر، على التمسك بأرضه، لأنها "كنزه وكنز أبنائه الذي لا يفنى بالمال"، كما دعوا مالك الأرض إلى أن لا يبيع الأراضي، التي كانت "سبباً لغناه، فيجلب الشقاء على الفلاح الذي خدمه وخدم أباه سنيناً طويلة"[1]. وكانت صحيفة "الكرمل" سباقة، نظراً لصدورها في سنة 1908، إلى الاعتناء بهذه القضية؛ فهي تصدت، منذ سنة 1909، لمشروع بيع أراضي السلطان العثماني المخلوع عبد الحميد في فلسطين إلى المنظمات الصهيونية، محذرة حكومة "الاتحاديين" الأتراك من أن بيع هذه الأراضي سيتسبب في طرد "المزارعين الوطنيين منها"، وهم إذا طردوا من أراضيهم "يموت ضعيفهم جوعاً، وينضم قويهم إلى القبائل الهمجية التي تعيث في البلاد فساداً"، ودعت هؤلاء المزارعين إلى القيام "قومة واحدة لمطالبة الحكومة بتطويب الجفالك الأميرية [لهم] ببدل المثل أو ببدل مسمى تستوفيه منكم الحكومة أقساطاً في 10 سنين أو 15 سنة"، وخاطبتهم بقولها: "إذا تطوبت أراضيكم لكم، حينئذٍ تطمئنون اطمئناناً حقيقياً لا تخافون من بعده خطراً، وتستقرون في أوطانكم فتستبدلون أكواخكم بالبيوت وتعمرون الأراضي وتخدمونها وتغرسون فيها الأشجار وتأكلون من أثمارها ومن خيرات الأرض أنتم وأبنائكم من بعدكم برعاية الحكومة الجديدة"[2]. وبعد قيام بريطانيا باحتلال فلسطين، قدّر محرر صحيفة "فلسطين" أن الخطر الأكبر الذي يتأتى من الصهيونية هو الخطر الاقتصادي، نظراً لكون الاقتصاديات هي "زمام السياسة اليوم، ومن ملك اقتصاديات بلد فهو صاحبه"، معتبراً أن أشد ضربة اقتصادية يمكن أن يوجهها الخصم الصهيوني لنا "هي أن يمتلك أراضينا الزراعية التي تكاد تكون مورد رزقنا الوحيد"، معتبراً أن مقاومة هذا الخطر يكون "بتنشيط الزراعة وكثرة الإنتاج"، والمسارعة إلى إنشاء شركات زراعية تعنى بالأرض وتحسين زراعتها، وهو أمر لطالما نادى به "الكتاب والمفكرون في هذه البلاد"، كما أضاف[3]. ونبّه إلى الخطر نفسه مغنم إلياس مغنم، في مجلة "النفائس العصرية"، الذي قدّر أن الخطر الذي يتهدد كل فلسطين هو نجاح الصهيونيين في امتلاك الأراضي، إذ هم "يأملون أن يمتلكوا فلسطين بمالهم، وقد ألَّفوا الشركات وجمعوا الأموال الطائلة ليختلسوا الأرض بطرق شرعية أو غير شرعية"، كما أنهم يعلمون –كما تابع- أن نصف أراضي فلسطين "كان ملكاً للدولة التركية وأن هذا النصف سيتحوّل بحق الفتح إلى الدولة البريطانية"، و"ينتظرون من هذه الدولة أن تعطيهم هذه الأرض ليقسموها بين أصحاب الأسهم في شركتهم المالية التي تبتغي شراء الأراضي". وبعد أن أكد مغنم أن نجاح آمال الصهيونيين "متوقف على إخلاصنا أو عدم إخلاصنا، فإن كنا مخلصين حق الإخلاص للوطن فما آمال اليهود إلا أضغاث أحلام"، توجّه بالدعوة إلى كل فلسطيني "أن يقسم يميناً بشرفه ووطنيته أن لا يبيع أرضاً لصهيوني أو لوكيله او لأي شركة غير وطنية يرتاب بها"، مقدّراً أن "أكبر مساعد للوطنيين على ذلك هو وجود مصرف (بنك) زراعي وطني في فلسطين يسلف المزارع مالاً عند الحاجة فلا يضطر إلى بيع أرضه"[4]. وفي الاتجاه نفسه، هاجمت "الكرمل" بشدة ملاك الأراضي الأغنياء الراغبين في بيع أراضيهم، لأنهم "استولوا على هذه الأراضي الخصبة بدون عناء جزيل، وهم لا يعرفون قيمتها ويجهلون الفنون الزراعية وأرباحها ولا يحفلون بالمبادي الوطنية، ولا فرق بين الغني المسيحي والأمير المسلم من هذا القبيل"، ووجهت سهامها، بصورة خاصة، إلى عائلتي سرسق وتويني وشركاهما، الذين استفادوا من امتناع الفلاحين عن تطويب أراضيهم بأسمائهم، وقاموا ببيع أكثر من نصف أراضي مرج ابن عامر إلى الصهيونيين، الذين "لا يلامون -كما كتبت- إذا سعوا جهدهم لمشترى كل فلسطين وإدراك أمنيتهم التي يسعون إليها منذ نحو 40 سنة، والتي نالوا بها وعداً من بريطانيا العظمى"، بينما يلام أغنياء البلاد وزعماءها "إن لم يحافظوا على أوطانهم"[5]. وفي سلسلة مقالات نشرها في صحيفة "الجامعة الإسلامية" ما بين سنتَي 1932 و1934، ركّز الشيخ سليمان التاجي الفاروقي على مسألة الأراضي بصفتها، "مسألة المسائل ومشكلة المشاكل"، معتبراً أنه "لو أخلصت الزعامة، ولو فقهت الأمة لوقفت عليها جهودهم، ولعكفت على معالجتها والتماس المخلص منها"، ولكانت أولت عنايتها، بصورة خاصة، لأوضاع الفلاح وسعت إلى التخفيف من شروط عمله القاسية. وفي معرض تعظيمه أهمية المكانة التي يحتلها الفلاح في المجتمع الفلسطيني، أشار الفاروقي إلى أن تسرب الكثير من الأراضي من أيدي الفلسطينيين، نتيجة مصادرتها أو بيعها ممن "يدعون أنهم الأفندية"، يعوّضه كونهم ما زالوا أكثرية في وطنهم، وهي أكثرية لا تأتي، كما تابع، من المدن، التي "أفسدت هؤاءها المدنيات الإفرنجية الكاذبة"، وإنما تأتي "من ناحية الفلاح، هذا المخلوق الذي هو مادة قوتنا، وينبوع كثرتنا... هذا المخلوق الذي إن أغفلناه وأهملناه صبر، وإن أسأنا إليه غفر... هذا المخلوق الذي يمشي البؤس إلى ثيابه، ويتغلغل الأسى في مدارج نفسه، ويعيث المرض في معالم جسمه. فيا الله ما أشقى فلاحنا بنا، وما أشد قلوبنا تحجراً، وما أولاها بالرحمة". وفي معرض مناشدته الهيئات الوطنية العناية بأوضاع الفلاح، دعاها الفاروقي إلى أن تطلب من حكومة الانتداب "طلباً لا رجاء"، وهو أن لا تستوفي ضريبة العشر من الفلاح، مقترحاً، في حال رفض الحكومة الإذعان "لهذا الحق"، أن ترفع هذه الهيئات "قضايا على الحكومة أمام محكمة العدل العليا"[6]. وأجمع معظم الصحف الوطنية على أهمية دور الفلاح المجتمعي وضرورة دعمه كي يستمر في أداء هذا الدور، فعالجت "مرآة الشرق" قضية الإصلاح الاجتماعي في الريف، معتبرة أن القرية هي "الأساس الذي تبنى عليه المدينة، فإذا فسدت القرية فسدت المدينة"، وأن معالجة أمراض القرى "يجب أن تكون في مقدمة المباحث الاجتماعية في صحفنا اليوم، ولا عذر للصحف إذا أهملت هذه الناحية من البحث". وتوقفت الصحيفة، في هذا السياق، في مقال نشرته في صيف 1932 عند ازدياد عدد الجرائم في القرى الفلسطينية، الناجمة، كما رأت، "عن نقص في التربية الاجتماعية"، إذ لو "كانت تربية الفلاح تربية صحيحة، لكان التساهل والتسامح من أكبر الصفات التي يتحلى بها صاحب الخلق العالي والقلب الكبير"، داعية اللجنة التنفيذية العربية إلى تأليف لجان خاصة في الريف تكون مهمتها "التجول في القرى وحل المشاكل التي تقع عادة بين الفلاحين"[7]. بينما نظمت "الكرمل"، بغية حماية أراضي الفلاحين من المصادرة، حملة للإكثار من تشجير الأراضي واستصلاحها، خاطبت خلالها الفلاحين بالقول: "ما دام عندكم خبز لتأكلوا وثياباً لتلبسوا، أكثروا من غرس الأشجار لتؤمنوا حياتكم وبقاء أوطانكم لكم"، محذرة من أن المزارع الذي يقعد زمن الغرس "يجني على بلاده وأولاده"، وأن البلاد "يرثها عباد الله الصالحون المجتهدون العاملون". وعادت ونبهت المزاعين الفلسطينيين إلى أن عيشهم، وتفلتهم من طمع السماسرة، وأمنهم في وطنهم، كله مرتبط بنجاحهم في الإكثار من تشجير أراضيهم، وخاطبتهم بالقول: ""شجّروا أراضيكم لتعيشوا...أشجاركم حصون لكم تدفع غارات خصومكم عنكم، أشجاركم حصون لكم تقيكم غدر السماسرة، شجّروا أراضيكم لتأمنوا في أوطانكم وتستريحوا"[8]. ومن جهتها، تبنت مجلة "الغد" لسان حال "رابطة الطلاب العرب"، في مطلع الأربعينيات، بعد أن أدركت أن "تقدم الفلاح وثقافته ومستوى معيشته هو المقياس الصحيح لتقدمنا وثقافتنا ومعيشتنا"، وأن قضيته "هي قضية البلاد بأجمعها"، مشروعاً تحت عنوان "إنعاش القرية"، يقوم على تنظيم مخيمات في القرى، خلال فترة العطلة الصيفية، يؤمها "عدد من الطلاب ذوي الغيرة والنشاط، ليبذلوا للفلاح ما يستطيعون من المعونة والإرشاد"، وذلك بعد أن "أقض مضجعهم ما يلاقيه الفلاح في هذه البلاد من إهمال المسؤولين، وعدم اهتمام الرأي العام". وفي هذه المخيمات، كان الطلاب المتطوعون يقسمون أنفسهم إلى لجان، فمنهم من يشتغل في الأمور الصحية، ومنهم من يشتغل في الزراعة، ومنهم من يعمل في تعليم الأميين وتنظيم فرق الكشاف، أو فتح مدرسة للأطفال أو تعليم النساء الخياطة"[9]. بيد أن أهم مشروعين برزا في فلسطين لإنقاذ أراضي الفلاحين ومنع انتقالها إلى أيدي المنظمات الصهيونية كانا، بلا ريب، مشروع "صندوق الأمة"، الذي تأسس في سنة 1935 برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي، و"المشروع الإنشائي العربي"، الذي بادر إليه موسى العلمي في سنة 1945. وكان من الطبيعي أن يتفاءل المثقف الفلسطيني خيراً بهذين المشروعين؛ فقدّر محرر صحيفة "اللواء" المقدسية، في مقال نشره بعد أشهر قليلة على تأسيس "شركة صندوق الأمة"، أن هذا الصندوق قد يكون "قارب النجاة" بالنسبة للفلسطينيين، "من الخطر الصهيوني المخيف"، الذي "يتجسم وتبرز نيوبه كلما استولى اليهود على شبر جديد من أراضي العرب"، داعياً أبناء شعبه إلى الاستجابة لشعار إدارة شركة الصندوق القائل: "أيها العرب، اعطونا قرشاً وخذوا وطناً"، ومؤكداً أن الصحافيين أخذوا على عاتقهم إظهار هذه الشركة للناس "في ثوب الإنقاذ الحقيقي الذي تلبسه"[10]. وفي الاتجاه نفسه، شبّه الصحافي الشهير محمد علي الطاهر الدور الذي يلعبه مؤسس "صندون الأمة" أحمد حلمي عبد الباقي في فلسطين بدور رائد نهضة مصر الاقتصادية طلعت حرب، مبرزاً مساهمته في إنشاء "البنك العربي"، إلى جانب عبد الحميد شومان، وتأسيس الشركات، وإنعاش التجارة والصناعة، "وحفظ أراضٍ كادت تسقط غنيمة في أيدي المستعمرين الهاجمين على فلسطين بأموال السحت والحرام"[11]. وخشية احتدام التنافس بين هذين المشروعين، وهو ما وقع وتسبب، إلى حد كبير، في تواضع إنجازاتهما، أشار المحرر المسؤول لصحيفة "الاتحاد"، إميل توما، إلى ان المثقفين اليساريين كانوا قد ناشدوا الشعب "لأن يؤيد صندوق الأمة في سعيه لإنقاذ ما تيسر من الأراضي المهددة"، وطالبوه بأن يقوم بكل ما من شأنه "تخفيف الوطأة على الفلاح وصاحب الأرض بإعطائهما القروض وتقديم العون الفني والزراعي"، مستغرباً حملة الطعن والتشكيك التي واجهت "المشروع الإنشائي" الذي اطلقه موسى العلمي، ومؤكداً أن البلاد "أحوج ما تكون إلى المشاريع الإنشائية فيها"، وأن على القائمين على هذا المشروع الأخير "إشراك الشعب في إدارته ليتسنى لممثليه تقديم مقترحاتهم البنائية بطريقة مفيدة"، وأن هناك ضرورة لتعاون صندوق الأمة والمشروع الإنشائي، "فكلاهما في ناحية متمم للآخر وكلاهما مفيد"، وفلسطين "تحتاج إلى جهود المبادرين لخدمتها، وهي تحتاج إلى تعاون هؤلاء المبادرين. أما اختلافاتهم فلن تفيد غير الأعداء"[12]. * من كتاب: "المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020. [1] "النهضة الصهيونية والوطنيون"، الكرمل، العدد 34، السنة الأولى، 14 آب 1909، ص 1- 2. |