البُعد الاستراتيجي والتنموي للتوجيه والارشاد المِهنّي
نشر بتاريخ: 19/04/2023 ( آخر تحديث: 19/04/2023 الساعة: 17:11 )
كثيراً ما نسألْ أطفالنا في مرحلة الصِغَر، التساؤل المألوف والمُعتاد، بماذا تُريد أن تُصبح عندما تكبُر؟ فيجب الكثير منهم بالقول: دُكتور، طبيب، مُهندس، مُعلم، طباخ ...إلخ، لكن السُؤال الأهم هُنا والذي ستُجيبُ عليه هذه المقالة، بما هو دورنا الحقيقي كأسرةٍ وأهلْ، ومدرسةٍ وجامعة في تنميةِ وتطويرِ هذه "الأحلام والطُموحات" الناشئة في هذه المرحلة المُبكرة من عُمرِ أطفالنا، وهل باستطاعتهم فعلاً الوصول إلى كُلِ ما يطْمَحون إليه؟ في حال توجيههم بالشكل السليم نحوَ تنمية مهاراتِهِم وهواياتِهِم تلك، إلى أن تُبصر النور كمصيرٍ ومسارٍ مهنِّي.
الحقيقةُ عزيزي القارئ الكريم تُفيد بأن الكثير منا يغفلُ أهميةَ نقطة البداية تلك، كسبيلٍ للتوجيهِ والإرشادِ المهني المُبكر، بحيث يتم النظر إلى تلك الكلمات بأنها مُجردُ أحلام للصغار فقط ما تلبث الهُنَيْهة إلا أن تتلاشى مع الزمن، والعكسُ هو الصحيحُ تماماً، فعملية التوجيه والارشاد المهني من وجهة نظري هي بمثابة نقطة تكوينها في الفرد، ومن ثم تنميتها، حتى الحفاظ عليها، بحيث تنمو كبذرة مُنذ تلك اللحظة حتى لحظة مُزاولةِ المهنة أو الحرفة بكلُ اجادةٍ، واتقانٍ، وشغفٍ، وتميز.
ولتأكيدِ وجهة النظر تِلك، لنأخذ على سبيلِ المثال - لا الحصر - بعض الدُول المُتقدمة في منظوماتها التعليمية المُوجهةِ نحوَ التنميةِ الشاملةِ عامة، والتنميةِ البشريةِ على وجه الخصوص، كالولايات المُتحدة الأمريكية، ودُول أوروبا الغربية، واليابان، سَنجدُ بأنَ تلك الدول تعتبرُ عملية التوجيه والارشاد المهنِّي عمليةً مُستمرةً تبدأ بالأسرةِ مُروراً بالمدرسةِ ومراحلها الثلاث (الابتدائيةِ، والاعداديةِ، والأساسية)، وصولاً إلى الجامعة أو الكُلية أو المعهد في عمليةٍ مُترابطةٍ مُتكاملةِ العناصرِ، ومُوحدةِ الهدفِ والجُهود، بحيث تخلو من العشوائيةِ والانتقاءِ غير المُخطط له والمقصود.
لذا تعدُ عملية التوجيه والارشاد المهنِّي احدى "الاستراتيجيات التعليمية" المُهمة والمُتقدمة، والمعبرة عن الجودةِ الشاملةِ للمنظومةِ التعليمية المعيارية الهادفة، وذلك لبناءِ جيلِ المُستقبل وقيادةِ عملية التنمية في كافة المجالات (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية)، بحيث تُصنع من خلالها الأجيال الواعدة الحالمة بالمستقبل والمُحققة له، كيف لا وعملية "التعليم والتَعَلُمِ" هي مُنطلق عملية التنمية الشاملة والمُحركِ لكافةِ عناصرها، فهي بمثابة المُعدل والمُقوم للسلوك، والمُوجهِ له، إضافة إلى دورها في اكتساب مجموعة المعارف والمهارات المُختلفة للأفراد، وصناعة المخزون البشري الاستراتيجي والمُؤهل لكل بلد ودولة.
ولكي نبني منظومة صحيحة للتوجيهِ والارشادِ المهني الفعلي والمُؤثر، فلا بُدَّ من الإشارة لما يلي:
أولاً: إن عمليةَ التوجيهِ والارشاد المهنِّي؛ عملية تبدأ بالأسرة ودورها في اكتشاف مواهب الفرد فيها، ثُمَ المُساعدةِ في تنميتها وتطويرها، بحيث لا يقتصر الأمر كما يظن السواد الأعظم منا على دور (المدرسة) دون الأسرة في تحديد مسار الفرد حين اختيار فرعه في الثانوية العامة (علمي، أدبي، تجاري، صناعي ...)، أو في حال الغياب الفعلي لعمليةِ التوجيه والارشاد المهني في تلك المرحلة التعليمية، مما يجعلُ الأمرَ محتوماً بقرارِ الطالب، والذي قد يكون غير مدروس أو ناضج في غالب الأحيان، ناهيك بأن عملية التوجيه المهني أصلاً في مرحلة الثانوية العامة وما بعدها فحسب هو فعلٌ مُتأخر في واقع الأمر من وجهة نظري الشخصية، والتي تُعززها دراسات تربوية في هذا الشأن.
ثانياً: إن عملية التوجيه والارشاد المهني؛ والتي تُعرف على أنها: "مُساعدة الفرد على اختيار البديل الأفضل من وجهة نظر خبير أو مُختص"، وأما الإرشاد" فيساعد الفرد على إيجاد الحل بنفسه من خلال مُساعدته على معرفة نفسه، واكتشاف قُدراته ليُحدد فيما بعد بناءً على ذلك مُساره ومُستقبله المهنِّي؛ فهي بذلك عملية مُنظمة وليست بالعشوائية أو الطارئة، كما أنها لا تقتصرُ على قرارات الفرد ذاته فحسب ورغباته، وخاصةً في حال عدم وُضوح الرُؤية أمامهُ بمنهجيةٍ صحيحةٍ واقتدار فعلي، ومُعطيات واقعية، وبالتالي نُضوج القرار الشخصي لديه واكتمال الصورة، وإنما هي عملية لها أدواتها، ووسائلها، ومنهجيتها المُساعدة في تقييمِ قُدرات الفردِ وتعزيزها، ومن ثُم توجيهِ مساره، فهي بذلك ذات أهمية في "التكوين المهني" للفرد، وصقل معارفه ومهاراته في مجال اختصاصِهِ وعمَلِه.
ثالثاً: إن ديمومة واستمرارية عملية التوجيه والارشاد المهنِّي كلصيقٍ لمراحل الفرد العُمرية وتدرجه التعليمي مُنذ الطُفولة إلى لحظة اختيار التخصص والمهنة، والعمل من خلالها، هي غاية في الأهمية، لسببين: الأول: يَكْمُنُ في ادراك أهمية الهواية والاهتمام والقدرات في اختيار التخصص، ثانياً: الشغف هو ما يصنع التميز والفارق في التخصص، وبالتالي الابداع المُستقبلي عبره فيما بعد، وهُنا يتم ترك البصمة، وصناعة الأثر الفعلي والايجابي، فعلى سبيل المثال: تسعى منظومات التعليم المُتطورة إلى اكتشاف مواهب الطفل وتوجهاته من خلال دور الأسرة أولاً في تنمية ذلك في طفلها، مُروراً بدور المدرسة الهام في تعزيز تلك الهوايات في شكل "معارف ومهارات" كقاعدة أساسية للبناء التعليمي، وذلك من خلال التقييم المُستمر لها، وتوجيهها بالشكل السليم، خاصة في مرحلتي (الاعدادية، والثانوية)، من خلال وُحدة خاصة بالتوجيه والارشاد المهني تتكون من مجموعة من المختصين في السُلوك، والجانب النفسي، والفني، تعملُ كخلية نحل على تطوير المواهب الموجودة، وبنائها في شكل قُدرات ذهنية أو بدنية، وصولاً إلى تحويلها لمعارف ومهارات مُتخصصة، ثم الوصول بها إلى المرحلة الأخيرة المُتمثلةِ في دور الجامعة والكلية من خلال خُبراء ومُختصين في مجال بعينه مرّوا بتجاربَ حقيقية وفعلية في بيئة اختصاصاتهم، والعمل من خلالها.
خُلاصة القول: عزيزي القارئ الكريم، تتطلبُ عملية التوجيه والارشاد المهني ديمومة واستمرارية في مراحلِها ومحطات تشكيلها في ما ذكرت سابقاً، ولا تقتصرُ على مرحلة بعينها دون غيرها كما يعتقدُ الكثيرين منا، فهي عملية مُنظمة لها أركانها، ومؤسساتها (الأسرة، المدرسة، والجامعة)، نسعى من خلالها إلى "تكوين مهني" سليم يربط الفرد بمستقبله المهني مُنذ نُعومة أظفاره، لنصل معهُ بحلمه إلى حيثُ يطمح بأن يكون كمواطن صالح في بلده، وأنا أرى فيها العلاج الحقيقي لمُشكلة البطالة المُنتشرة بين ظهرانينا، وخاصة في قطاع الخريجين المُتنامية في أواسطهم كُل حين، لأن العديد منهم لم يكتشف ذاته من الأصل ومواطن قوته وضعفه لتعزيز فرصه في العمل والتشغيل، وبالتالي لم يجد السبيل لتطويرها وتنميتها، ولم يُساعده أحد في ذلك في غالب الأحيان أو تدارك الأمر في مرحلة مُتأخرة من عُمره، لأن الأمر بحاجة لمنظومة مُتكاملة لا جُهد فرد فحسب، يتم من خلالها وضع الفرد موضعه حيثُ يَجِبْ، وبالتالي يُحقق ما هو مطلوب، ليخلق بذلك ميزةً تنافسيةً لنفسهِ يجتاز عبرها كُل العقبات والتحديات التي ستواجهَهُ بحثاً عن غايته وهدفه، كما لنا في تجارب بعض الدول المُتقدمة دليل وبُرهان في ذلك الأمر، وإذا بي هنا أُقدر وأُجل كُلَ مُؤسسة تعليمية تجعل من عملية "التوجيه والارشاد المهني" والذي ذكرت هنا رُكناً أساسياً فيها من خلال انشاء وحدة مُجهزة ومُختصة في ذلك لصناعة الحلقة المفقودة في نخبة مُلتحقيها من طلبة وخريجين، وهذا حقيقة ما يُميز المُؤسسات المرموقة عالمياً ويضعها موضعَ التميز والقُدوة لغيرها سواء على صعيد التعليم المدرسي أو الجامعي وهو معيار من معايير جودة التميز في التعليم والتعلم. أكاديمي ومختص في التنمية البشرية – الكُلية الذكية للتعليم الحديث.