|
التربية الديمقراطية
نشر بتاريخ: 11/05/2023 ( آخر تحديث: 11/05/2023 الساعة: 10:04 )
جون ديوي(John Dewey) فيلسوف؛ ومنظّر تربوي أمريكي معروف بمساهماته الكبيرة في فلسفة التربية والتعليم، ويعتبر أحد الرواد الرئيسيين لفلسفة التربية الديمقراطية؛ التي تركز على تعزيز دور المدرسة في تأهيل الطلبة للمشاركة الفعالة في الحياة الديمقراطية، انطلاقا من أن التربية عملية مستمرة؛ هدفها بناء شخصية الفرد ومساعدته على تحقيق طموحاته وأهدافه، باعتمادها على التفاعل المستمر بين الإنسان والبيئة، وهي في حالة تغيير وتطوير مستمرة، ولعل مما يميز رؤاه تأكيده على ضرورة تعلّم المعلمين والآباء والمربين من التجارب السابقة، وتطبيقها بأساليب تربوية فعالة، لتحقيق أهداف التربية المنشودة في مواجهة التحديات المستقبلية. رسّخ ديوي عديد القيم الحرة والديمقراطية في منهجه التربوي، وتمثلّت في اعتبار الحرية الفردية أحد الأسس الأساسية للديمقراطية؛ كونها تتيح للأفراد التعبير عن آرائهم بحرية، وتجعلهم يسيرون لتحقيق أهدافهم كاملة، من خلال توفير فرص متساوية للجميع في الحصول على التعليم للوصول إلى المناصب العليا في المجتمع، وتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية عبر توفير فرص متساوية للجميع في الحصول على الخدمات الأساسية والاستفادة من الموارد الطبيعية، وتحقيق مبدأ الشفافية بتوفير المعلومات اللازمة للجميع لتشجيع النقاش العام والحوار المفتوح، وترسيخ أسس التعاون بين الأفراد والجماعات للمساعدة في تحقيق الأهداف المشتركة وتعزيز العلاقات بين الأفراد والجماعات، وتعزيز مبادئ الاحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات من خلال إيجاد بيئة تسمح بالحوار المفتوح والتعاون الفعال، وهنا لا نتحدث عن مجرد تأطير نظري بل عن صوغ معالم المواطنة الصالحة، وبما يحقق حالة انسجام مجتمعي لمجتمع متصالح مع ذاته؛ متمسك بالقيم. قادت القيم السابقة جون ديوي لبلورة نظريته في التعليم؛ والقائمة على فكرة أن التعلم يجب أن يكون قائمًا على الخبرة العملية التفاعلية، بدلاً من الحفظ والتلقين، وأن يكون الطالب محور التعليم، وأن تكون المدرسة بيئة تعليمية مشجعه للابتكار والتعاون والتفاعل بين الطلاب، لذا لم يكن مستغربا أن ينادي جون ديوي بجملة من الأفكار، يتمثل أبرزها فيما يأتي: التركيز على التفاعل بين الطلبة في بيئتهم الصفية والمدرسية والمجتمع المحيط بهم. الاعتماد على التجربة والاستكشاف في عملية التعلم. الإيمان بأن التعلم يجب أن يكون شاملاً ومتكاملاً، ووجوب شموله الجوانب العاطفية والذهنية والجسدية. الإيمان بأن التعلم يجب أن يكون عمليًا، ووجوب تمحوره حول مشاركة فاعلة للطلبة في العملية التعليمية. عكست هذه الأفكار ذاتها على كتابه "الديمقراطية والتربية"، والذي يعدّ من الأعمال الهامة في الفلسفة التربوية، لأنه ربط فيه بين الديمقراطية بالتربية والتعليم من خلال نظريات عدّة، أهمها: • نظرية التعلم النشط: وهي تؤكد أن التعلم يجب أن يكون عملية نشطة بمشاركة من الطالب؛ ما يتطلب وجود بيئة تعليمية ديمقراطية مشجعة على المشاركة والتفاعل والحوار. • نظرية التعليم الديمقراطي: وهي تشدد على أن التعليم يجب أن يكون ديمقراطيا، بحيث يشارك الطلاب والمعلمون والآباء والمجتمع في صناعة القرارات المتعلقة بالتعليم وإدارته. • نظرية الخبرة: وهي تؤكد أهمية الخبرة في عملية التعلم، وبالتالي؛ وجوب أن تكون بيئة التعليم ديمقراطية تتيح للطلاب تجربة خبرات متعددة، والتفاعل مع الآخرين. • نظرية الحوار: وهي تشدد على أهمية الحوار والنقاش في عملية التعلم، وبالتالي؛ وجوب أن تكون بيئة التعليم ديمقراطية تشجع على الحوار والنقاش والتفاعل بين الطلاب والمعلمين. ولعل مجمل ما حوته هذه النظريات مجتمعة؛ يقودني إلى تعريف التربية بأنها: "عملية مستمرة لإعادة بناء الخبرة"، وتنظيم دينامي مستمر للخبرة الإنسانية، وعملية نماء حياتية مشكلة لعقول الأطفال والناشئة، وحالة تفاعلية تجمع بين الإنسان والبيئة التي يعيش فيها.. وبمعنى أدق: هي الحياة نفسها لا مجرد إعداد للحياة؛ لأنها تمثل المركز الجوهري في بناء المجتمع. قيمة النظريات الفلسفية السابقة كامنة في تحويلها إلى ممارسات عملية في الغرف الصفية والمدارس، بتبني بعض مبادئ ديوي في تصميم المناهج الدراسية وأساليب تدريسها، وتنظيم بيئات تعلم لتشجيع الطلاب على المشاركة الفعالة والتفاعل مع المادة الدراسية، وبما من شأنه تنمية مهارات التفكير الناقد ومهارات الابداع والابتكار. وفي ضوء وجود حقيقة مفادها أنه لا يوجد نظام تربوي مثالي يمكن تطبيقه في كل بيئة تعليمية، فإن تطبيق النظريات يتطلب إحداث تغيير جذري في النظام التربوي من ناحيتي التصميم والتنظيم، وهو أمر ليس باليسير كونه بحاجة إلى مواد وتوفير دعم وإرادة سياسية لتحقيقه، دون تناسي أن هناك تحديات وعوائق/ عوامل؛ يمكن أن تواجه عملية التطبيق، وهي تتلخص في: عوامل مالية: إذ قد يكون من الصعب تطبيق نظريات ديوي في المدارس بسبب العوامل المالية، لأن تطبيقها يتطلب توفير موارد مالية كافية ومناسبة لتحسين البنية التحتية، وتوفير وسائل تعليمية، وتدريب المعلمين على تطبيق هذه النظريات. الثقافة التعليمية القائمة: وهنا يجب التسليم بصعوبة في تطبيق نظريات ديوي في المدارس نظرًا للثقافة التعليمية القائمة؛ خاصة مع صعوبة تغيير نمط التدريس والتفكير القائم في المدارس. نظام التقييم: وفي هذا الإطار؛ فإن نظام التقييم الحالي في المدارس قد يتعارض مع نظريات ديوي، فأغلب نًظم التقييم الحالية تركّز على قياس الأداء الأكاديمي لا على تطوير مهارات الطالب وتعزيز قدراته. قلة التدريب والتوجيه: فقد يواجه المعلمون صعوبة في تطبيق نظريات ديوي؛ لعدم وجود مسار تدريبي وتوجيهي لهم لتطبيق هذه النظريات في العملية التعليمية. القيود الزمنية: قد يكون من الصعب تطبيق نظريات ديوي في المدارس بسبب القيود الزمنية، حيث يمكن أن يتم تقليص الوقت المخصص للمناقشات والأنشطة التفاعلية بسبب ضغط الوقت. وربما يتساءل البعض: ما مدى إمكانية تطبيق المبادئ والنظريات التي نادى بها جون ديوي في فلسطين؟ هنا نقول إن فلسطين إحدى الدول التي تواجه تحديات كبيرة في التربية والتعليم، وهذا يتطلب الكثير من الجهد للتطوير والتحسين، لكن بالإمكان أن تنعكس فلسفة ديوي حول التربية الديمقراطية على التربية والتعليم في فلسطين بتعزيز دور المدرسة في تأهيل الطلاب للمشاركة الفعالة في المجتمع، وتعزيز مفهوم التعلم النشط الذي ينص على أن الطلاب يتعلمون أفضل عندما يشاركون بنشاط في عملية التعلم، وتعزيز مفهوم التعليم الشامل، بالتركيز على تطوير الطالب في المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية جميعها. إن التقاطعات بين محاور نظريات ديوي وربطها بالطالب الذي نريد، وبالمخرجات الاجتماعية لنظام التعليم؛ مما يؤسس للمواطن الذي ننشد، فطالب اليوم مواطن الغد، واستحضار ذلك هو الكفيل بهندسة المدخلات لتكون مخرجات النظام تربوية الطابع، اجتماعية الوقائع، فإتاحة المجال للطالب ليسأل ولينتقد هي أكبر من مجرد ممارسة في سياق مدرسي، وتتعدى مجرد كونها سلوكا عابرا، وحينها فقط يمكن التأمل بأن توجّه التربية مسارنا نحو المستقبل بثقة وثبات. |