|
نهج المقاومة هو الأمل.. وهو الحل
نشر بتاريخ: 25/05/2023 ( آخر تحديث: 25/05/2023 الساعة: 10:21 )
صبحي غندور
يوم 25 أيار/مايو عام 2000، كان يوم ذلٍّ ومهانة لإسرائيل ولجيشها ولعملائها في الشريط الحدودي مع لبنان. لكن هذا اليوم كان من دون أيّ شك، يوم كرامة واعتزاز لدى عموم اللبنانيين والعرب في أوطانهم، كما في أيِّ بقعةٍ من الأرض تواجدوا فيها. ففي هذا التاريخ انهزم الاحتلال الإسرائيلي في لبنان بعد مقاومة متواصلة بدأت مع احتلال إسرائيل لبيروت عام 1982، ثمّ تصاعدت هذه المقاومة وقويت حتى حرّرت الأراضي اللبنانية واستعادت ما احتلته إسرائيل منذ آذار/مارس 1978. ولعلَّ قيمة هذا الحدث أو الإنجاز بالنسبة إلى العرب ككل، أنّه لأوّل مرّة منذ بدء مسيرة المفاوضات العربية مع إسرائيل، ومنذ بدء معاهدات الصلح معها، ومنذ بدء الاعتراف بها، تضطرّ إسرائيل وللمرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي/الإسرائيلي للانسحاب الكامل من أرضٍ عربية، دون تفاوض أو اتفاقيات... فقط تنسحب بسبب المقاومة لهذا الاحتلال، وما سبّبته هذه المقاومة على مدار سنوات من خسائر بشرية كبيرة في الجيش الإسرائيلي وضباطه وجنوده وعملائه، حيث أنّ هذه الخسائر فاقت حجم مجموع ما خسرته إسرائيل في حروبها المتعدّدة مع الجيوش العربية. كان درس المقاومة في لبنان مهمّاً لكلّ العرب: فبعد سنوات من مراهنات وحيدة على "عملية السلام" خلال عقد التسعينات، وعلى المفاوضات مع إسرائيل منذ توقيع معاهدات "كامب ديفيد"، وعلى تطبيع العلاقات معها قبل استرجاع الحقوق العربية وقبل حلّ جوهر الصراع، أي القضية الفلسطينية.. جاء درس المقاومة اللبنانية ليؤكّد أنّ "الحرية تؤخذ ولا تُعطى"، وبأنّ "الحقّ بغير قوّةٍ تدعمه هو حقٌّ ضائع". فالحقّ اللبناني بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 425 الصادر في العام 1978، كان عمره أكثر من 22 عاما، لكن إسرائيل لم تستجب إلى هذا "الحقّ اللبناني" المدعوم بالشرعية الدولية إلا حينما رافقت هذا الحقّ قوّة المقاومة للاحتلال، هذه المقاومة التي استندت أيضاً إلى قوّة نهج العطاء والتضحية والبناء التنظيمي السليم، والى قوّة التضامن الوطني اللبناني الشامل معها وحولها على المستويين الشعبي والرسمي. أيضاً، استفادت هذه المقاومة من دعم أنصار هذا الحقّ عربياً وإقليمياً ثمّ التضامن العربي معها الذي تجلّى بصورة واضحة خلال شهر آذار/مارس عام 2000، حينما تضافر العرب عموماً بالوقوف مع لبنان ومع حقّه بالمقاومة المشروعة، بعدما حصل في هذا الشهر من عدوان إسرائيلي كبير على لبنان ومنشآته والبنى التحتية فيه. لقد خرجت أصوات وكتابات لبنانية بعد عدوان آذار/مارس 2000 على لبنان تطالب بتسريح المقاومة اللبنانية وبعدم جدواها وبأنّها تكلّف تضحياتٍ كثيرة للبنان وشعبه، بينما الآخرون العرب في مسارٍ آخر! وترافقت هذه الحملة آنذاك مع تصريحات أمريكية وفرنسية وإسرائيلية تصف المقاومة بالإرهاب، وتحاول زجّ التناقض بينها وبين المنطقة العربية وحكوماتها وشعوبها من خلال وصف المقاومة بأنّها (حالة إرهابية إيرانية). لكن جاء يوم 25 أيار/مايو 2000 فكان شرفاً عظيماً للبنان ولمقاومته الوطنية بأن يحصل الانسحاب الإسرائيلي دون اتفاق أو مفاوضات تحفظ ماء وجه المحتل حينما ينسحب، كما حدث على جبهاتٍ عربية أخرى. ولقد راهنت إسرائيل على أنّ انسحابها المفاجئ والسريع سيكون حالةً مشابهة لما حدث بعد انسحابها من الجبل اللبناني عام 1983، حيث استتبع الانسحاب معارك عسكرية واسعة بين الأطراف اللبنانية المسلّحة هناك، وبطابع طائفي دفع لبنان ثمناً غالياً له. لكن كل هذه المراهنات الإسرائيلية سقطت. وقد أضاف الأداء السليم للمقاومة في التعامل مع لحظة الانسحاب الإسرائيلي السريع والمفاجئ إلى ما حقّقته المقاومة من رصيدٍ هامٍّ جدّا على صعيد العمليات العسكرية، حيث حرصت هذه المقاومة على الاستفادة من سلبيات تجارب أخرى حصلت في لبنان والمنطقة والعالم، إذ حرصت المقاومة اللبنانية على حصر عملياتها في الأرض اللبنانية المحتلّة ولم تذهب في عملياتها إلى عواصم العالم ومؤسساته المدنية، بل حتّى لم تسمح بقتل بعض المدنيين في الشريط الحدودي رغم تعاونهم مع إسرائيل. كذلك حرصت المقاومة اللبنانية على التأكيد أنّ الانتصار هو لكلّ اللبنانيين ولكلّ المناطق ولكلّ الطوائف. إنّ سلاح المقاومة لم يحرّر لبنان فقط من الاحتلال الإسرائيلي، بل كان له الفضل فيما يشير الآن البعض إليه من أهمّية السيادة اللبنانية على كلّ الأراضي اللبنانية. فإنهاء الاحتلال الإسرائيلي كان هو المدخل لسحب القوات السورية على مراحل، ثمّ إنسحابها الكامل من لبنان تنفيذاً لاتّفاق الطائف. ثمّ هل كان ممكناً مطالبة المسلّحين الفلسطينيين بعدم الانتشار المسلّح خارج المخيمات لو كانت هناك قوات إسرائيلية محتلّة في مناطق هذه المخيمات؟. ما بعد التحرير! إنّ الهزيمة العسكرية الإسرائيلية في لبنان لم تكن هزيمة كاملة للمشروع الصهيوني فيه، فإسرائيل لم ولن تتراجع عن مشروعها الهادف إلى تقسيم لبنان وكل المنطقة العربية، وتشجيع الصراعات المحلّية المسلّحة والحروب الأهلية فيها. لقد كانت السنوات الماضية حافلةً بالتطوّرات والمتغيّرات اللبنانية والعربية والدولية. وكم هو مؤسفٌ الحال العربي واللبناني اليوم، مع ظهور تصدُّع بوحدة عناصر كثيرة (لبنانية وعربية وإقليمية) كانت في العام 2000 وراء الانتصار على الاحتلال الإسرائيلي!. اليوم، وبعدما جرى استخدام السلاح الطائفي والمذهبي والإثني في حروبٍ وصراعات عربية متعدّدة الأمكنة والأزمنة خلال العقدين الماضيين، وفي مجتمعات تتوارث فيها الأجيال مفاهيم خاطئة عن النّفس وعن الآخر، وفي ظلِّ غيابٍ واضح لطروحات وطنية عروبية ديمقراطية تجذب الشباب العربي وتحوّل طاقاتهم إلى قوّةٍ تجمع ولا تفرّق، يحصل الآن انشداد كبير إلى أزمات داخلية قائمة في أكثر من بلد عربي، في ظلّ تهميش عربي ودولي للقضية الفلسطينية ولأولويّة الصراع العربي/الصهيوني المستمر منذ مائة عام . فالتشويه حصل للصراعات الحقيقية في المنطقة ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، بحيث لم يكن واضحاً من هو العدوّ ومن هو الصديق، وفي أيِّ قضية أو معركة، ولصالح من؟!. لكن مشعل المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، الذي قد تحمله هذه الجهة أو تلك، لا يجب أن يخمد أبداً، فالحفاظ على نهج المقاومة هو تأكيد لمقولة (الأرض مقابل المقاومة) بعدما ثبت فشل المقولات الأخرى، وفي هذا الأمر أيضاً إعادة الحيوية لنهج تحتاجه الآن المنطقة العربية، خاصة على صعيد القضية الفلسطينية، وهو نهج رفض الذلّ والهوان مع العدوّ الإسرائيلي، نهج يقدر على استعادة الأرض والكرامة. نهج يضع خطّاً فاصلاً بين اليأس من واقع المفاوضات، وبين اليأس من إمكان تحصيل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. هذه هي دروس تجارب المقاومتين اللبنانية والفلسطينية معاً، وهذا هو نهج المقاومة، الذي يعني أولاً وأخيراً رفض التراوح المذِل في المكان نفسه، فيتحرّك بإقدامٍ وصبرٍ وعزيمةٍ وثقة بالله وبالنّفس، وينتصر رغم حجم الخسائر والتحدّيات.
|