وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

تركيا وصراع الهوية بين أتاتورك وإردوغان

نشر بتاريخ: 08/06/2023 ( آخر تحديث: 08/06/2023 الساعة: 11:48 )
تركيا وصراع الهوية بين أتاتورك وإردوغان

قال رسول الله (ص) مُبشِراً بفتح القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية: "لتُفتحن القسطنطينية، ولنعمَ الأميرُ أميرها، ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيش". ظلت هذه النبوءة على مدار 8 قرون دافعاً للخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والعثمانيين المتعاقبين لتوجيه الجيوش الإسلامية الجرارة نحو فتح القسطنطينية مُنذ عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان –رضي الله عنه– ثم 10 محاولات إسلامية كبيرة لفتحها، حتى فاز بهذا الشرف الخليفة العثماني محمد الثاني عام 1453م، فسُمي بعد فتحها "محمد الفاتح" تكريماً له.

وكان أول أعماله في المدينة تحويل كاتدرائية "آيا صوفيا" من كنيسة إلى مسجد، بعدما اشترى المبنى من القساوسة استناداً إلى وثائق تاريخية تركية، وصلّى أول صلاة جمعة فيه بعد دخوله المدينة، فأصبح المسجدُ والصلاةُ فيه رمزاً للهوية الإسلامية للمدينة والدولة.

دار الزمن دورته، فأكل قوة دولة الخلافة العثمانية، حتى أُطلق عليها لقب "الرجل المريض"، وتكالبت عليها الدول الأوروبية وهزمتها في الحرب العالمية الأولى عام 1918 لتستكمل اقتسام ولاياتها البعيدة، وغزت الجيوش الأوروبية أراضيها، فقاوم الجيش التركي العثماني هذا الغزو والاحتلال، وصعد أثناء حرب التحرير ضابط شاب اسمه مصطفى علي رضا، تحوّل في ما بعد إلى بطل قومي باسم مصطفى كمال أتاتورك كمُحرر وموحد لتركيا، ثم وصل بعد الجيش إلى السلطة، فاستولى عليها مُعلناً إلغاء الخلافة العثمانية وإقامة الجمهورية التركية الجديدة عام 1923.

وخلال 15 عاماً من حكمه، استبدل هوية تركيا العثمانية الإسلامية بهوية قومية طورانية وغربية علمانية، وأكد ذلك بالدستور العلماني، وجعل الجيش التركي حارساً لها، فيما جعل حزب الشعب الجمهوري مُنظِراً لها. ولأن مسجد آيا صوفيا رمز لهوية تركيا الإسلامية، فقد منع الصلاة فيه عام 1931، ثم حوله إلى متحف عام 1938، إيذاناً ببدء هوية تركيا العلمانية.

ظلّ مبنى آيا صوفيا متحفاً حتى عام 2020، عندما أعاد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان افتتاحه مسجداً من جديد، وصلى فيه أول صلاة جمعة بعد الافتتاح، واعتبر ذلك "بداية جديدة للمسلمين في أنحاء العالم كافة"، و"بعثاً جديداً تأخر".

كانت خطوة إعادة افتتاح مسجد آيا صوفيا والصلاة فيه رمزاً لهوية المبنى والمدينة والدولة الإسلامية، وكان الصراع الذي سبقها ما بين المتحف والمسجد دليلاً على الصراع بين الهويتين –العلمانية والإسلامية– في تركيا، سبق للمفكر الشهيد فتحي الشقاقي أن تناوله عام 1980 في دراسة جاء فيها: "إن تركيا في القلب، تسكن وتشتعل من جديد، وتعود إلى وجهها الحقيقي. وعندما ظن الغرب أن إيقاف رجله أتاتورك صوت الأذان على مئذنة آيا صوفيا... وأن قوانينه العلمانية ستُدخل تركيا إلى النسيان، كان القلب الإسلامي واثقاً تماماً بقيام الإسلام مرة أخرى".

الإسلام هو الوجه الحقيقي لتركيا الذي تحدث عنه المفكر الشهيد فتحي الشقاقي. وقد ظل وجهها منذ الفتح العربي الإسلامي لآسيا الصغرى البيزنطية، وطوال عهد الخلافة العثمانية التي أسسها عثمان أرطغرل في بداية القرن الـ14 الميلادي وحتى سقوطها بداية القرن الـ20.

أما العلمانية كوجه طارئ على تركيا، فقد تسللت إليها في النصف الثاني للقرن الـ19، محمولةً على كتف الحركة القومية التركية (الطورانية)، فارتبطت العلمانية بالقومية كتيار فكري تجديدي ومشروع سياسي إصلاحي اقترنا بالحداثة على النمط الغربي، وحملته النخب التركية المتغربة والحركات القومية المتعلمنة.

وعندما نجح هذا التيار والمشروع في الوصول إلى الحكم بواسطة مصطفى كمال أتاتورك، ألغى الخلافة العثمانية وهويتها الإسلامية، وفرض الجمهورية التركية بهويتها العلمانية، ولكن الشعب التركي تشتّت بين الهوية العلمانية الغربية المفروضة والهوية العثمانية الإسلامية المكبوتة، من دون أن يُحسم الجدال نظرياً وعملياً لمصلحة أي هوية.

ما بين الهوية العلمانية المفروضة والهوية الإسلامية المكبوتة، حاول الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مطلع الألفية الثالثة التوفيق بين الهويتين، مستنِداً إلى رؤيته الخاصة للعلمانية المُحايدة تجاه الدين في مُقابل العلمانية الكمالية المعادية له، فقال موضحاً رؤيته: "إن مفهوم العلمانية الذي نؤمن به هو علمانية الدولة عبر التسامح مع المعتقدات كافة، وأنْ تضمن الحريات لكل المعتقدات".

هذه الرؤية سمحت له بإبداء رغبته في "تشكيل جيل مُتدين يؤمن بالثقافة الإسلامية العثمانية، ويتغلب على الأفكار الغربية"، وسمحت لحزبه -العدالة والتنمية- بتغيير بعض القوانين العلمانية الصارمة المخالفة للشريعة الإسلامية، المرتبطة بالحجاب والزواج والتعليم وغيره، ليُعلن رغبته في "صياغة دستور جديد لتركيا يكون نتاجاً للإرادة الوطنية"، في إشارة إلى الإسلام كدين لغالبية الشعب التركي.

هذه الرؤية تنسجم مع الروافد الإسلامية التي استقى حزب العدالة والتنمية فكره، وهي: الطرق الصوفية، وخصوصاً النقشبندية والنورسية، والإسلام الحركي (السياسي) من مدرستي نجم الدين أربكان وعبد الله غول، والمدرسة الإخوانية بنسختها التركية المعدلة، والخلافة العثمانية بالنكهة الطورانية.

الصراع بين أنصار الهويتين -الإسلامية والعلمانية- ظهر في التنافس على رئاسة تركيا في الانتخابات الأخيرة، لا سيما في جولتها الثانية التي انحصر فيها التنافس بين رجب طيب إردوغان رئيس حزب العدالة والتنمية كامتداد لتيار الهوية الإسلامية المكبوتة، وكمال كليجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري كامتداد لتيار الهوية العلمانية المفروضة.

وعلى الرغم من أن الصراع ما زال يبدو ظاهرياً بين العلمانية اللادينية الصلبة المتعصبة والعلمانية المحايدة المرنة المتسامحة، فإنه يخفي في باطنه صراعاً حقيقياً على هوية تركيا وحاضرها ومستقبلها في مكانٍ من العالم وضع فيه الإسلام جذوراً عميقة ودعائم راسخة في تركيا الإنسان والأرض، وفي التاريخ والجغرافيا، وفي القلوب والعقول، وفي مكانٍ كان وما زال الصراع فيه عنيفاً بين الحضارتين الإسلامية والغربية؛ مكان شهد غروب العالمية الإسلامية الأولى وأفولها، وقد يكونُ جزءاً من شروق العالمية الإسلامية الثانية وصعودها، ولكن هذا لن يحدث قبل أن تُعيد تركيا تموضعها بعيداً من الارتباط بالغرب والعلمانية المتطرفة وحلف الناتو والكيان الصهيوني، وقريباً من الأمة الإسلامية وقضاياها المصيرية ومن الإسلام الحضاري وفلسطين الشعب والقضية والمقاومة.