وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

من الدلف للمزراب .... بين الإفلاس والتأميم

نشر بتاريخ: 11/06/2023 ( آخر تحديث: 11/06/2023 الساعة: 17:21 )
من الدلف للمزراب .... بين الإفلاس والتأميم

د. حسن أبولبده

منذ قيام السلطة الفلسطينية في أيار 1994، دأبت الحكومات المتعاقبة على وضع موازناتها السنوية متضمنة عجزاً ماليا يتم العمل على تغطيته من الدول المانحة، التي كانت الى عهد قريب تلتزم بتوفير الفجوة التمويلية السنوية كمنح، أو قروض طويلة الأمد بأسعار فائدة شبه مجانية وفترة سماح تصل أحيانا الى 10 سنوات، إضافة لتمويل الجزء "التنموي/التطويري" في الموازنة.

نظراً لعوامل عدة، أهمها تحمل أعباء والتزامات م.ت.ف. في الشتات والتعيينات السياسية في السلطة والسفارات والفصائل ومؤسساتها، وغيرها، تضخمت موزانة/ميزانية السلطة السنوية بشكل هائل، مما حدى بالمانحين للتدخل والضغط على المرحوم الزعيم الخالد أبو عمار صيف 2004 للإلتزام بعدم تجاوز رقم معين لفاتورة الرواتب الشهرية اعتبارا من بداية عام 2005. وفعلا أذكر أنه تم توقيع رسالة إلتزام من قبل المرحوم، وسلمت أواخر شهر 7/2004 للمانحين.

استشهد الزعيم الخالد أبو عمار في شهر 11/2004، وانتخب الرئيس أبو مازن مطلع شهر 1/2005، وتم تشكيل الحكومة الأولى في عهده أواخر شهر 2/2005 (الحكومة التاسعة منذ قيام السلطة). وقد اتسم عهد هذه الحكومة بالكثير من المماحكات في أروقة صناعة القرار لأسباب يعرفها لاعبوا تلك الفترة، نتج عنها تضخم دراماتيكي في فاتورة الرواتب، من مبلغ يقل عن 80 مليون دولار نهاية عام 2004 الى أكثر من 120 مليون نهاية العام الذي تلاه. وقفز هذا الرقم الى أكثر من 150 مليون دولار غداة ظهور نتائج الإنتخابات التشريعية مطلع عام 2006 نتيجة لآلاف التعيينات السياسية والترقيات خلال فترة ما قبل إعلان الحكومة العاشرة (حكومة حماس) مطلع شهر 4/2006. وبعد عام وشهرين من تنصيب تلك الحكومة حصل الإنقلاب والإنقسام كما هو معلوم، مما حرم خزينة السلطة من موارد إضافية.

خلال عام 2005، تمت محاولة التدخل ليصبح صافي النمو في الكادر الوظيفي سلبا، واقترحنا في حينه الوقف التام والقسري للتعيينات، وتلبية احتياجات الوزارات والمؤسسات العامة من الكادر الوظيفي الموجود، وطالبنا بإنشاء ما يسمى "صندوق تدريب وتدوير الكفاءات" بحيث يتم تحويل الكادر الوظيفي الزائد عن الحاجة الفعلية لأي وزارة أو مؤسسة لذلك الصندوق، الذي يعمل على تأهيلهم وتدريبهم على اكتساب مهارات ومعارف جديدة تؤهلهم لتولي مواقع وظيفية منتجة في وزارات ومؤسسات عامة خرى وبنأخرى (مدنية وعسكرية). وقد تم وأد هذه المبادرة، بفعل مسلسل المماحكات في الأطر القيادية، خاصة تلك التي لم تسلم تماما بقيادة ابو مازن.

لم و

لا يحظى موضوع الأزمة المالية الخانقة في السلطة ولا نجاعة إدارة المال العام باهتمام العامة، حيث لم ينتبه أحد تقريبا الى أن فاتورة الرواتب استمرت بالتصاعد، والأهم من ذلك استمرت التعيينات والترقيات، وارتفع عدد كادر السلطة لأكثر من 165 الف موظف، وبقيت وتيرة الصرف والترقيات المالية في تصاعد مستمر وكأننا دولة نفطية (باستثناء فترة حكومة د. سلام فياض)، رغم احتجاج المانحين.

إضافة لما سبق، لم و

لا يحظى بأي اهتمام موضوع تراجع وشبه موت اهتمام المانحين (Donor Fatigue) ودعمهم لسد الفجوة التمويلية في الموازنة، ولا عودة السلطة عن التزامها بالشفافية في عرضها على صفحة وزارة المالية، والتكتم على تفاصيل المداولات في مجلس الوزراء وعدم إتاحة قرارته لمراجعة العامة والمعنيين، باستثناء القليل الهامشي منها، والأهم من كل ذلك، لم و

لا تحظى مسألة وجوب تخفيض النفقات ووقف التعيينات والترقيات والصرف على الكماليات بالأولوية، وتتصرف الحكومة بهذا الشأن وكأن كل شيئ على ما يرام.

الأزمة المالية في السلطة حقيقية غير مفتعلة وخطيرة جدا، مما يشكل تهديدا مباشراً على استمرارها. ولا يبدو أن في الأفق ما يقنع أي جهة بأن السلطة تتصرف بناء على إدراك عميق لهذه الأزمة ووضعها في مركز اهتمامها ومعالجتها. وبدلا من المصارحة والمكاشفة واتخاذ تدابير عملية وعملياتية لتجاوز الأزمة بالشراكة مع العامة والقطاع الخاص، تتصرف السلطة ممثلة بحكومتها وكأن الأزمة غير قائمة، وبطريقة ترفع احتمالية إفلاس السلطة وبالنتيجة انهيار القطاع الأهلي والقطاع الخاص، وخاصة القطاع المصرفي. وتعمل الحكومة على تعويض نقص الموارد من خلال زيادة الجباية وفتح آفاق جديدة لها والتوجه نحو تكريس مبدأ الاحتكارات بمحاولة السيطرة على قطاعات إستراتيجية في الإقتصاد الوطني تحت عنوان "الثروات القومية".

بناءً على ما سبق يتوجب على الحكومة أن تتخذ إجراءات حادة لتخفيض كبير في موازنتها السنوية وخفض تكاليفها ووقف الهدر المستشري فيها بشفافية وأوسع مشاركة مجتمعية، وابتداع سبل ووسائل لتحفيز القطاع الخاص للتوسع باستثماراته، وإعمال مبدأ الشراكة معه في تنفيذ مشاريع كبيرة وضرورية للإقتصاد الوطني (Public-Private Partnership, PPP)، والتعامل مع القطاع الخاص والمستثمرين بإيجابية من شأنها تطوير البنية التحتية للإقتصاد الوطني وبالتالي رفع تنافسيته ويخفض تكلفة الإنتاج، وكذلك العودة عن الطلاق البائن مع القطاع الخاص الفلسطيني في دول الشتات، ومنحهم الحوافز الخاصة لتشجيعهم على العودة عن إحجامهم عن الإستثمار في الوطن، ومنح الكفالات السيادية والضمانات والتسهيلات التشريعية لهم، مما قد يؤدي الى تليين مواقفهم من السلطة بشكل عام والبيئة الإستثمارية بشكل خاص، إضافة الى إزالة كافة العقبات القائمة أمام تدفق الإستثمارات الأجنبية الى فلسطين. والأهم، التعاطي بشفافية وحيادية في كل ما سبق.

إلا أن ممارسات الحكومة على الأرض يتناقض مع ما سبق بشكل دراماتيكي، فبدلا من تحفيز القطاع الخاص لضخ استثمارات إضافية في الإقتصاد المحلي، وبدلا من تطوير البيئة الإستثمارية وإعدادها للإستثمار الوافد، تعمل على تكريس سياسة الإستحواذ والسيطرة، وبدلا من تكريس وتعميق مفاهيم وسياسات الإقتصاد المفتوح، تعمل على تأميم واحتكار القطاعات الإقتصادية المجدية (المحاجر والكهرباء كمثال)، وبدلا من توسيع قاعدة المشاركة في صناعة السياسات الوطنية في المجالات المختلفة، تقوم بإعداد التشريعات والقوانين منفردة، وحتى عندما يتعلق الأمر بتسمية مجالس الإدارات في المؤسسات العامة وشبهها أو النشاط في مجال تعزيز العلاقات الإقتصادية الثنائية مع الدول الأخرى، تعمل على انتقاء مدروس لمن يشارك فيها على قاعدة الولاء أولا، وتشرك عد محدود من رجال/سيدات الأعمال، من خلف ظهر مؤسساتهم التمثيلية في النشاطات الثنائية التي تستدعي وجود تمثيل للقطاع الخاص.

لقد أشرت في أكثر من مقال الى خطورة استمرار نهج الإستفراد والإستحواذ في نشاط اي حكومة وخاصة الحالية، وحذرت مرارا من استكانة القطاع الخاص والقبول بسحب لقمته من مائدته، والصمت على تجاوزه وتمويت مؤسساته التمثيلية أمام جبروتها، وإنني أحذر مجددا من استكانة القطاع الخاص في حماية مصالحه، والقبول بترهل وشبه غياب تمثيله عن المشهد، خاصة في ظل ولاية حكومة التي لا تؤمن بدور أو الشراكة مع القطاع الخاص وتتخذ منه موقفا عدائيا، وتعمل جاهدة على منافسته، بدلا من رعايته والإكتفاء بالرقابة عليه.

لم يبق للحكومة أي ترف في التغاضي عن فشلها في إدارة الشأن العام وتخبط سياساتها في كافة المجالات تقريبا. صحيح أن تحدياتها كبيرة جدا بسبب الحصار المالي والسياسي المحدق بها في الداخل والخارج، ونحن معها في أي محاولة لكسره، ولكن استمرار الحال من المحال. "فنامي بسلام يا حكومتنا الرشيدة".