وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

فن الخاطرة الميزات والبناء نماذج إجرائية

نشر بتاريخ: 24/07/2023 ( آخر تحديث: 24/07/2023 الساعة: 14:18 )
فن الخاطرة الميزات والبناء نماذج إجرائية





في الوقت التي تتشابك فيها فصول الحياة، وتتسارع خطواتها، وتختلط مشاهدها فرحا وحزنا، رضى وغضبا، حبا وكرها، إقبالا وفرارا؛ ينتاب الإنسان حالات عدة للتعبير عنها، والتنفيس عما يخطر بباله من أحاسيس ومشاعر تنتابه، أو يعبر عن فكرة طارئة، فتولد الخاطرة وليدة المشهد واللحظة، تصف الحدث والموقف والمشهدية بآلية سريعة وموجزة، لفتة ذاتية فكرية أو شعورية، دون إعداد مسبق أو تفكير معد، ليسجل الإنسان انطباعاته ورؤيته، ويؤثر في رؤى الآخرين ومواقفهم واتجاهاتهم، يحرّك مشاعرهم وانفعالاتهم.
والخاطرة من الأدب الذاتي الإبداعي الإمتاعي، القادر على الترويح عن الذات، والتأثير في الآخرين، تدخل إلى مشاعرهم وقلوبهم برقة أسلوبها وبداعة حسّها، وجمال مشهديتها، وتكثيفها، وإيجازها، وسرعة أدائها وكتابتها وتلقيها من القرّاء في آن، بعيدة كل البعد عن الاستعداد، والتعداد والتفصيل والتعقيد.
تقترب الخاطرة من فنون نثرية كثيرة من مثل المقالة الذاتية، والومضة الإعلامية، ولكنها سرعان ما تبتعد عنها وتفارقها سواء في الاستعداد والبناء، أو الشكل والطول، والغاية والهدف، انطلاقا من مسماها الخاطر السريع وانتهاء بحجمها القصير المكثف الذي لا يمتد مساحة عمود قصير ومكثف في جريدة أو مجلة، أو في صفحة مواقع التواصل التي باتت أشبه بعادة يومية لحظية يمارسها نشطاء مواقع التواصل في الإعلام التفاعلي التواصلي الجديد. وهي لا تتجاوز نصف عمود في الصحيفة، وعمودا في المجلة، والخاطرة تكون عادة بلا عنوان، من هذه العنواين " فكرة" " نحو النور " شموع تحترق" ما قل ودل" إلخ. و يقول الكاتب عز الدين إسماعيل: هذا النوع الأدبي يحتاج في الكاتب إلى ذكاء، وقوة الملاحظة، ويقظة الوجدان، وهو يتماشى مع الطابع الصحفي العام في الاهتمام بالأشياء الصغيرة السريعة وتفضيلها على الكتابات المطولة، وأهميتها تأتي من لفت الانتباه إلى الأشياء الصغيرة في الحياة، التي لها دلالة كبيرة. وعلى هذا النحو تصبح الخاطرة المكتوبة – على الرغم من صغر حجمها-عملا مثيرا للذهن، وممتعا في الوقت نفسه، فيه من الشعر خاصية التركيز، وعمق النظرة، وحدة الشعور بالأشياء.

تمتاز الخاطرة بالوضوح والسلاسة في اللغة وجمالية التعبير والتصوير والتكثيف اللغوي، تمتد بين الخيال والواقع، والحقيقي والمأمول، في جمالية آسرة، وتأثير عميق، وقد تعدد كتّاب الخاطرة في أدبنا العربي الحديث والمعاصر، منهم: أحمد أمين والمازني، وميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، وغسان كنفاني، وغيرهم الكثير الذي لا يسعنا حصره في هذه الوحدة الدراسية.
ومن أمثلة تلك الخواطر التي شاعت بين القراء حديثا، قول ميخائيل نعيمة المقتبس من كتابه البيادر:
" بيني وبين الصخور مودّة ما أستطيع تفسيرها، ولا تحديد الزمان الذي نشأت فيه، ولكنّني أحسّها عميقة وثيقة بعيدة الغور والقرار.
فلعلّها تعود إلى يوم كنت طينة في يد الله ــ وكأنّ النسمة التي جعلت من الطينة إنساناً ما كانت لتزيد تلك المودّة غير تأصّل وجمال ونقاوة.
حتّى أنّها لتبلغ بي في بعض الأحايين درجة الهيام، فإذا انحجبتُ أيّاماً عن الصخور أو انحجبتْ عني، ثمّ أتيح لي أن أعثر على واحد منها أينما كان ومهما يكن شكله أو حجمه أو لونه، أحسست جذلاً في دمّي، وبهجة في عيني، ودوافع في مفاصلي تدفعني إليه ــ فإن تمكّنتُ من لمسه لمستُه برفق ولهفة ومحبّة ــ وإلّا اكتفيت بما ترشفه عيني من رحيق أنسه وهدوئه ورزانته ومودّته.
ولا شكّ عندي في أنّ القدرة التي لا تمسك عن كلّ ذي حاجة حاجته ، إذا كان في قضائها خير للحاجة والمحتاج , كانت رفيقة بي وسخيّة عليّ إلى أبعد حدود الرفق والسخاء ــ فقد باركتني بثروة لا نفاد لها من الصخور التي يندر أن يضارعها مضارع حتى في هذه الجبال المبكي عليها من أصدقائها والمهجورة من أبنائها لوفرة غناها بالصخور ــ ففي جبهة صنّين وحده لي معين لا ينضب من الفتنة الخرساء المنهلّة بغير انقطاع من محاجر صخوره ونحورها والمترقرقة على مناكبه بكلّ ألوان الشموس والأقمار، والأمسية والأسحار، ووهج الهجيرة ، وظلال السّحاب، وأنداء الضباب، وأنفاس الفصول، وأنغام الدهور..