|
مئوية كتاب "النبي" لجبران
نشر بتاريخ: 25/07/2023 ( آخر تحديث: 25/07/2023 الساعة: 00:47 )
الكاتب: تحسين يقين كل وما يحمله من ذكريات عن الحياة، وعن ما عبر عنها من كلمات وصور وألحان وملامس. وبالرغم من وجود روائع خالدة، إلا أن لكل منا تاريخا شخصيا مع قراءاته وسماعه، فلا يظل التأثر واحدا سواء أكان تأثرا جماليا أو فكريا. ودوما كنت أتأثر بالإجابات غير النمطية لجبران، في الكتاب، ردا على من سألوه...من سألوا شخصية الإنسان المروي عنه. ظل عمقه الإنساني يأسرني، بالرغم من تغير ذائقتي الأدبية من وقت الى آخر. ويمكن أ أفرد مقالا عن ذلك، أو لعله استقصاء آراء القراء لجبران وغيره. ما زلت أتساءل عن سبب إقبال القراء على كتبه، وفي كل فترة كان يظهر تساؤلي، كانت لي تفسيرات. غي هذا الكتاب، ثمة نزعة روحية، يبدو أن جبران كان تحت تأثير الشرق عليه، وهو في بوسطن بالولايات المتحدة؛ فكأنه هو نفسه كان بحاجة لكلماته، "ليكون فجرا لذاته" كما قال هنا في الكتاب، وربما أن من عاش بينهم كانوا كذلك بحاجة لتلك الروح، من أجل التوازن الشعوري لهم، كونهم يحيون حياة مادية أكثر منها روحية، ربما. وربما للأسلوب، المتأثر بالعهد الجديد. عاش الكتاب أكثر من عمره، وما زال، كذلك كتبه ال 16 كتابا، التي ألفها بالعربية، والتي تمت ترجمتها عن الإنجليزية. إضافة الى مجموعة كتب رسائل جبران. أما لوحاته، فعرفناها من كتبه، ومن سيرته، ورسائله. وكم نود لو ضمّ لوحاته كتاب، كون جبران حتى مراحل متقدمة عرف كرسام أكثر منه كاتبا. من بضع عقود، كان كتاب "النبي" من أهم الكتب التي يعاد طبعها على مستوى العالم، وقد ظهر بالعربية في فترة متقاربة مع النص المنشور باللغة الإنجليزية prophet، والذي أصبح في المجموعة المترجمة لكتب جبران الثمانية. ولعلني قرأته مرات متعددة بين العمر حتى آخر الثلاثينيات، بعد ذلك صارت عودتي له إما من باب الحنين، أو من باب الاهتمام الأدبي؛ بمعنى أنه مع تقدم الإنسان بالعمر، وتطوره الفكري، فإنه يطور نظرته، ولربما يخف السحر تجاه الأشياء بشكل عام، كونه يقترب من النظرة الموضوعية، ولعل كتاب "جبران" لميخائيل نعيمة، وهو سيرة غيريه عن حياة جبران بقلم أحد أهم رفاق دربه أدبيا وإنسانيا. لقد كتب نعيمة الكتاب بعد عشرين عاما على رحيل جبران، ما منحه الفرصة للكتابة الهادئة بعيدا عن الانفعال. وخلال ذلك وحتى الآن، لم ننقطع عن سماع أغنية "المحبة" المقتبسة من الكتاب، بصوت فيروز، حيث يمنح صوت فيروز معنى إضافيا يسكن في النفس طويلا، حيث يتقي جبران وفيروز والمعاني الإنسانية. غنتها عام 1969، أي بعد رحيله ب 36 عاما. وجدت كتابات جبران في نفسي والملايين ربما صدى ما، يجمع ما بين الجانب السيكولوجي والإنساني، ولربما نفرد لذلك مرة مقالا خاصا. والمهم هنا أن كتاب النبي كان له بصمة خاصة، حتى لكأنني رحت أحاكيه بضع سنوات، من خلال كتابات قصيرة لم أنشرها وبقيت مخطوطة بين ما كتبته، حتى تخلصت من ذلك التأثير أدبيا. كتاب النبي الذي ظهر عام 1923 يتحدث عن شخصية الإنسان الحكيم الذي عاش فترة في مدينة أورفيلوس، وحين قرر المغادرة، قدم إليه الكثيرون يرجونه البقاء، خلال ذلك سألوه، كل سائل يسأل من منظور مشاعره وأفكاره واهتمامه وعلمه ومهنته. وهكذا "ظلَّ المصطفى، المختار الحبيب، الذي كان فجرًا لذاته، يترقَّب عودة سفينته في مدينة أورفليس اثنتي عشرة سنة؛ ليركبها عائدًا إلى الجزيرة التي وُلد فيها.. وفي السنة الثانية عشرة، في اليوم السابع من أيلول شهر الحصاد، صعد إلى قنة إحدى التلال القائمة وراء جدران المدينة، وألقى نظرة عميقة إلى البحر، فرأى سفينته تَمْخر عباب البحر مغمورة بالضَّباب.. فاختلج قلبه في أعماقه، وطارت روحه فوق البحر فرحًا، فأغمض عينيه، ثمَّ صلَّى في سكون نفسه.". ليتساءل هذا الراحل والباقي: "أيكون يوم الفراق يوم الاجتماع؟"، بمبرر أن فكرة الرحيل تجعل للرسائل والوصايا معنى إضافيا. وهنا انتقيت 8 مواضيع تحدث عنها هذا الإنسان، الموصوف بالمصطفى مختار الحبيب"، من ضمن عدد أكثر من المواضيع، والتي يصعب الإحاطة بها هنا، ولربما يغلب عليها الشاعرية، من خلال تطور وعينا تجاه النص. المحبة: "ولكن إذا أحببت، وكان لا بدَّ من أن تكون لك رغبات خاصة بك، فلتكن هذه رغباتك: أن تنهض عند الفجر بقلب مجنح خفوق، فتؤدي واجب الشكر ملتمسًا يوم محبة آخر..أن تستريح عند الظهيرة وتناجي نفسك بوجد المحبة..أن تعود إلى منزلك عند المساء شاكرًا.."، وهي وباقي النص، تتمحور حول فكرة تقدير ما بين يدينا، لأنه عظيم. أما في موضوع الزواج، فنقتبس: ثمَّ قالت له المِطْرة ثانية: وما رأيك في الزواج أيها المعلم؟ فأجاب قائلًا: قد وُلدتم معًا، وستظلون معًا إلى الأبد..وستكونون معًا عندما تبدد أيامَكم أجنحةُ الموت البيضاء..أجل، وستكونون معًا حتى في سكون تذكارات الله..ولكن، فليكن بين وجودكم معًا فسحات تفصلكم بعضكم عن بعض، حتى ترقص أرياح السموات فيما بينكم..أحبُّوا بعضكم بعضًا، ولكن لا تقيدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحرًا متموِّجًا بين شواطئ نفوسكم..ليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه، ولكن لا تشربوا من كأس واحدة..أعطوا من خبزكم كل واحد لرفيقه، ولكن لا تأكلوا من الرغيف الواحد..غنوا وارقصوا معًا، وكونوا فرحين أبدًا، ولكن فليكن كلٌّ منكم وحده..كما أن أوتار القيثارة يقوم كل واحد منها وحده، ولكنها جميعًا تخرج نغمًا واحدًا..قفوا معًا ولكن لا يقرب أحدكم من الآخر كثيرًا؛ لأن عمودَي الهيكل يقفان منفصلَيْن..والسنديانة والسروة لا تنمو الواحدة منهما في ظل رفيقتها." لعل أهم تعليق هنا، من وجهة نظر الكاتب هو ترك المسافات بما يكفي لحياة مستقرة، دون أن يطغى أحدهما على الآخر. ويمضي جبران بفلسفته العميقة، والتي تعتمد على فهمه لسيكولوجية الإنسان، وصولا لموضوع الأبناء: "ثمَّ دنت منه امرأة تحمل طفلها على ذراعيها، وقالت له: هاتِ حدِّثنا عن الأولاد. فقال: إنَّ أولادكم ليسوا أولادًا لكم. إنَّهم أبناء وبنات الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم.. ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكًا لكم.. أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكن لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم؛ لأن لهم أفكارًا خاصة بهم..وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادهم..". وأظن أنه هنا منسجم ما ذكره آخرون، منهم علي ابن ابي طالب وسقراط وأفلاطون: "لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.." والظن أن كل مفكّر يمكن أن يصل الى هذه القناعة فيما يخص الأجيال. في العطاء كتب: "جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه، ولكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك وأنت تعرف حاجته، فإن من يفتح يديه وقلبه للعطاء يكون فرحه بسعيه إلى من يتقبل عطاياه والاهتداء إليه أعظم منه بالعطاء نفسه". وهنا تذكرت بيت شعر لزهير بن أبي سلمىٰ عن كرم هَرِم بن سِنان حين قال: قيل إنه من أجمل ما قيل في المدح: تراه إذا ما جئته متهللا كأنه تعطيه الذي أنت سائل. والمعنى واضح هنا، وأظنه لدى جبران وزهير ينطلق من مراعاة المتعففين. أما نظرته العميقة لموضوع البيوت، فجاء على شكل أسئلة: "بربكم أخبروني، يا أبناء أورفليس، ماذا تملكون في هذه البيوت؟ وأي شيء تحتفظون به في داخل هذه الأبواب الموصدة؟ هل عندكم السلام، وهو القوة الصامتة التي تظهر ذاتكم الشديدة العزم المستترة في أعماقكم؟ هل عندكم التذكارات، وهي القناطر اللامعة التي تصل قنن الفكر الإنساني بعضها ببعض؟ هل عندكم الجمال، الذي يرتفع بالقلب من مصنوعات الخشب والحجارة إلى الجبل المقدس؟" وتعدّ نظرة جبران حول التعليم، تتفق والمدارس الحديثة والعميقة: "ما من رجل يستطيع أن يعلن لكم شيئًا غير ما هو مستقر في فجر معرفتكم وأنتم غافلون عنه. أمَّا المعلم الذي يسير في ظل الهيكل مُحاطًا بأتباعه ومريديه، فهو لا يعطي شيئًا من حكمته، بل إنَّما يعطي من إيمانه وعطفه ومحبته..لأنَّه إذا كان بالحقيقة حكيمًا فإنه لا يأمركم أن تدخلوا بيت حكمته، بل يقودكم بالأحرى إلى عتبة فكركم وحكمتكم.". إنه هنا يتحدث عن تذويت المعرفة وأنسنتها، وكيف ينجح المعلم في التعامل مع المتعلم بدون سلطة. والصداقة، كانت من اهتمامات جبران: "إنَّ صديقك هو كفاية حاجاتك..هو حقلك الذي تزرعه بالمحبة وتحصده بالشكر..هو مائدتك وموقدك..لأنَّك تأتي إليه جائعًا، وتسعى وراءه مستدفئًا.". هو وصف لعمق الصداقة وجوهرها النبيل. أما ما يراه تجاه الصلاة، فهو فهم وشعور عميقان تجاه جوهر العبادة: "إنَّكِ تُصلين في ضيقتكِ وفي حاجتك، ولكن حبذا لو أنك تصلين في كمال فرحكِ ووفرة خيراتك!". وهكذا، فإن الكتاب ظل من الروائع الخالدة، مهما تطور الوعي تجاه الحياة والأدب، كونه انطلق من شعور عميق ونبيل. وإن مرور مائة عام على الكتاب جعلت القراء يزدادون. جميل أن نعرف أن لبنان، ودول كثيرة أخرى، هذا العام، "سيحتفل بمرور مائة سنة، على صدور كتاب "النبي" أحد أشهر الكتب في العالم وأكثرها مبيعاً. وتنطلق الاحتفالات من نيويورك، حيث سيُفتتح يوم 25 من الحالي، معرض يحوي 30 قطعة لجبران، بينها 23 لوحة تشكيلية، ودفاتر، وأدوات رسم عائدة له ومخطوطات ووثائق. انتقلت المعروضات من «متحف جبران» في بشري (مبلد جبران شمال لبنان) إلى أميركا، لتُعرض في مبنى الأمم المتحدة، لمدة ثلاثة أيام. يحمل المعرض عنوان «جبران يعود إلى نيويورك بعد 100 عام»، من تنظيم مدير متحف جبران في بشري مدير متحف جبران، جوزيف جعجع، والصحافية اللبنانية في نيويورك سمر نادر، وبتمويل ورعاية من «جامعة البلمند» في لبنان و«الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم - مجلس أميركا". واللوحات المعروضة تدور على ثلاثة محاور رئيسية: 12 لوحة منها هي من كتاب «النبي». والمجموعة الثانية رسمها جبران من وحي وادي قاديشا، والطبيعة الساحرة في بلدته بشري التي تركها مهاجراً إلى أميركا وهو في سن الثانية عشرة، وبقيت مصدر وحي وإلهام له في أعماله كتابة ورسماً. ويمكن لأي زائر للبلدة، أن يدرك مدى تأثر الفنان بهذه المشاهد الجبلية المهابة في موازاة الوديان السحيقة. أما المجموعة الثالثة من اللوحات فهي للنساء اللواتي تعرف إليهن جبران في نيويورك، مثل ماري هاسكل التي كان لها دور أساسي في مسيرته الإبداعية وشارلوت تيلر وأخريات. من بين المعروضات نسخة مطبوعة للكتاب، لكن عليها تصحيحات جبران بخط يده. وهي البروفة الأولى من حيث الطباعة والتصحيح، وكان جبران طوال خمس سنوات، وهو يعكف على تأليف هذا الكتاب، على وعي بأنه يكتب أحد أهم مؤلفاته." وهنا في فلسطين، نرجو أن تلتقط إحدى المؤسسات، ومحبو جبران فكرة إحياء مئوية كتاب النبي، لما لها من دلالات حول نبل المعاني الإنسانية. انه انحياز للإنسانية من داخلها، من عمقها، وليس من السطح.
|