|
الدولة الصهيونية في خطى متسارعة نحو المجهول
نشر بتاريخ: 27/07/2023 ( آخر تحديث: 27/07/2023 الساعة: 09:28 )
أقر الكنيست الإسرائيلي «قانون إلغاء حجّة المعقولية»، الذي يقلّص صلاحيات المحكمة العليا في إلغاء قرارات الحكومة ومؤسسات الدولة، ودعم القانون أعضاء الائتلاف الحكومي الـ64، مقابل صفر ضدّة، بعد أن تغيّبت المعارضة عن التصويت احتجاجا على مضي الحكومة في تمرير خطّة «تغيير الجهاز القضائي»، التي يعد القانون الجديد خطوتها الأولى. وتصاعدت المظاهرات الصاخبة قبل وبعد التصويت وشارك فيها مئات الآلاف من الإسرائيليين، وتواصلت وزادت كذلك مظاهر الاحتجاج لدى أوساط واسعة في قوّات الاحتياط العسكرية، وفي صفوف النخب الأمنية والاقتصادية والأكاديمية والثقافية والسياسية. وفي المجمل تعمّق الانقسام العميق أصلا، واحتدت ملامح الأزمة الداخلية في كل المستويات، وتفاقمت المخاوف على المصير، وزادت كوابيس الخراب، ودخلت إسرائيل مأزقا تاريخيا، لا أحد يعرف إلى أين سيفضي؟ وهل ستخرج منه، وكيف؟ إنّه المجهول الذي يقضّ مضاجعهم، أكثر من المعروف مهما كان خطيرا في نظرهم. متظاهرو اليسار الدموي ما يثير المظاهرات المشحونة في إسرائيل هو خشية الجمهور الذي ينتمي إلى التيار التاريخي المركزي في الصهيونية وفي الدولة الصهيونية، من فقدان مكانته وامتيازاته وتأثيره، في ظل انقضاض اليمين المتطرّف على الدولة العميقة، وبالأخص على الجهاز القضائي. ولا يطالب المتظاهرون بديمقراطية كونية خالصة، بل بدولة يهودية ديمقراطية، وهي ذاتها الدولة الصهيونية، التي قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني، وما زالت ترتكب بحقّه يوميا أبشع الجرائم، وإذ لم يعد لليسار الصهيوني وجود حزبي يُذكر، إلّا أن مبادئه وسياساته تهيمن على تفكير وأخلاقيات المتظاهرين، لكنّه في حقيقته «يسار دموي»، فالطيّارون «اليساريون المتحضّرون»، الذين ينادون بالديمقراطية، هم أنفسهم الذين يقصفون غزّة بطائراتهم الحديثة والمتطوّرة، وقتلوا في عدوان 2014، مثلا، أكثر من 2200 شخص، بينهم أكثر من 500 طفل. وكان تبرير هذه الجريمة الفظيعة هو الدفاع عن الدولة اليهودية، واختفت فجأةً الديمقراطية كما يفعل السحرة. وفي الواقع، فإن عدد من قتلهم «رافضو الخدمة الديمقراطيون» يفوق بعشرات المرّات ضحايا اليمين المتطرّف الإسرائيلي، الذي يجعجع أكثر ممّا يقتل، ببساطة لأنّه لا يملك القدرات القتالية لوحدات النخبة، المنتمية بغالبيتها الساحقة لأوساط اليسار والوسط «المتحضّرة». وما يريده المتظاهرون فعليا وعمليا هو إبقاء الوضع القائم لنظام الدولة الصهيونية، بحيث يبقى الجيش متماسكا وجاهزا لخوض العدوان والحرب، وتواصل المحكمة العليا كونها درعا واقيا لمجرمي الحرب، في وجه القضاء الدولي وحارسا ضد انتشار الفساد وسلامة الإدارة والحكم، ويستمر الاحتلال والتهويد والحصار والاستيطان والقمع والفتك كما كان حتى الآن، مع المحافظة على هامش من النقاش السياسي النظري حول «الصراع» وحول مصير القضية الفلسطينية. لم يطالب المتظاهرون بتوسيع مفهوم حقوق الإنسان ليشمل الفلسطينيين، ولم ينادوا بزوال الاحتلال وتفكيك الاستيطان ووقف الحصار وإلغاء سياسات التمييز العنصري. المتظاهرون هم عمليا عصب المشروع الاستيطاني العدواني والعمود الفقري للدولة الصهيونية، كما عهدناها، وقد عهدناها كنظام استعمار استيطاني عنصري يحمل صفات وميّزات الأبرتهايد. تطوّرات لافتة في الأشهر الأخيرة، تعيش الدولة والمجتمع في إسرائيل دوّامة ويواجهان سلسلة من الأحداث العاصفة، وصفها عناوين الصحف ومتحدّثو الأوساط الأمنية والسياسية والأكاديمية بأنّها هزّات أرضية، حتى لو حدث بعضها في الجو وفي سلاح الجو تحديدا. ولو أخذنا بهذا التشبيه، فإن الهزّات الأرضية زادت قوّة وعنفا وبدأت تُحدث تصدّعات فعلية في بنية النظام والمجتمع في الدولة الصهيونية. أكثر ما يقلق النخب الإسرائيلية هو مشروع «تغيير القضاء»، الذي تعتبره انقلابا على النظام القائم، وخطرا داهما على المشروع الصهيوني بمجمله وبتجلياته كافة، حتى إن بعضها أعلن بعد إقرار قانون «إلغاء حجة المعقولية»، الاثنين الماضي، عن «موت إسرائيل التي نعرفها» وعن أن الدولة أصبحت غير ديمقراطية (وكأنّها كانت..) وتعالت أصوات تنادي إلى العصيان المدني والإضرابات المتواصلة وعدم دفع الضرائب ورفض الخدمة في الاحتياط، ومن الواضح أن اتجاه المعارضة الفاعلة هو التصعيد. وإذا نظرنا إلى مشروع «تغيير القضاء» ببنوده كافة، سنجد أن قانون «إلغاء المعقولية»، ليس الضربة الأكبر للمحاكم الإسرائيلية، ولكنّه يجسّد روح الخطة الحكومية الجديدة، وإذ ينص القانون على أن المحكمة لا تملك الحق بشطب قرارات وزارية لأنّها «غير معقولة»، تستطيع الحكومة إقالة المستشارة القضائية للحكومة وإجراء تغييرات في تركيبة وفي قواعد عمل النيابة العامة، تفضي الى إلغاء محاكمة نتنياهو. كما يستطيع نتنياهو تعيين زعيم شاس أرييه درعي، وزيرا، على الرغم من إدانته بتهمة الفساد، وكذلك يمكن للحكومة أن تنفلت في رصد مبالغ ضخمة لصالح مشاريع الاستيطان والتهويد والتسهيلات الاقتصادية للمستوطنين، أكبر بكثير، مما هو مخصص حاليا للإسرائيليين داخل الخط الأخضر، ولا تستطيع المحكمة التدخل لترشيد السياسات الحكومية. وتنص خطة «تغيير القضاء» على أن الخطوة المقبلة ستكون هيمنة حكومية على تعيين القضاة، بما يسمح باختيار قضاة يدعمون السياسات الحكومية بالكامل، وهكذا يستطيع اليمين المتطرّف تفكيك الدولة العميقة وإعادة تركيبها كما يروق له ولمشاريعه، التي على رأسها إغراق الضفة والقدس المحتلة بملايين المستوطنين ومصادرة مساحات واسعة من الأراضي، وتغيير الطابع الديمغرافي والجغرافي، بلا أي رقابة قضائية مهما كانت خجولة وهامشية. |