نشر بتاريخ: 30/07/2023 ( آخر تحديث: 30/07/2023 الساعة: 11:07 )
في ظل التسارع الفنيّ والأدبيّ والجماليّ استجابة لتسارع العصر وتغيراته في نواحيه الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، واستجابة أيضا للكتابة السريعة والتلقي؛ كان لا بدّ من ولادة نصوص حداثية تستجيب لذلك؛ فكانت القصة القصيرة جدا التي وجدت طريقها في الساحة الأدبية فانتشرت في الصحف والمجلات وصفحات التواصل الاجتماعي، تلك المستوحاة من فنون القصة وعناصرها المكونة لها المبنية على: الحدث وزمانه ومكانه وحوار الشخصيات والسرد، ولكن برؤى وجماليات جديدة تتمثل في التكثيف اللغوي والاقتصاد والإيجاز في الحجم، وتوظيف تقنيات السرد الحديثة ابتداء من المفاجئة في عنواها ومرورا بالدهشة والغرابة والترميز والتداخل والتناص والتداعي في متنها وانتهاء بخاتمتها المفارقة التي تدفعنا إلى النص المفتوح الذي يحتمل التأويل والتعدد في فهمها القرائي التي قد تشكل صدمة للقارئ وتحدّيا وإثارة لما يقرأ في عجالة السطور وجمالية التعبير الإبداعي.
ومن سمات ذلك الجنس الأدبي الحديث كما بينها بعض الدارسون بأنه " يمتاز بقصر الحجم، والإيحاء المكثف، ووحدة المقطع، علاوة على النزعة القصصية الموجزة، والمقصديّة الرمزيّة، وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح، والاقتضاب والتجريب، والاستعمال الجمليّ القصير الموسوم بالحركية، والتوتر المضطرب، وتأزم المواقف، والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار، كما يتميز بالتصوير البلاغي، الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ما هو بياني ومجازي، ضمن بلاغة الإيحاء، والانزياح، والخرق الجمالي، كما تتمثل سماتها في الإدهاش، والإرباك، والاشتباك، والمفارقة، والحكائية، وتراكب الأفعال، والتكثيف والتلغيز، والتنكيت والترميز، والأسطورة والانزياح، والتناص والسخرية، وتنويع صيغ السرد القصصي، تهجينا، وأسلبة، ومحاكاة، وتصغير الحجم أكثر ما يمكن تصغيره، انتقاء، وتدقيقا، وتركيزا"
لقد تعددت مسميات القصة القصيرة جدا في الأدب العربي الحديث، وتجاذبت المسميات كأيّ فنّ وليد يتسابق الباحثون والدارسون على وسمه بأسماء تتشابه وتتقاطع فيما بينها، ومنها: القصة الومضة، ، القصة المكثفة، القصة الكبسولة، المغامرة القصصية..
وهكذا تصبح القصة القصيرة جدا نصا ثقافيا إبداعيا مختزلا في الفكرة والحجم والشكل، يستدعي النصوص النثرية والشعرية ويتداعى معها، ويتناص مع الخلفيات الأدبية والثقافية والتاريخية والدينية في نص مختزل يحمل إشاراته إليها " وهو نص إبداعي يترك أثرا ليس فيما يخصه فقط، بل يتحول ليصير نصّا معرفيا دافعا لمزيد من القراءة والبحث.
تعدد كتّاب القصة القصيرة في أدبنا العربي الحديث، وتنوعت مشاربه ومضاربه في وطننا العربي الكبير، ومن روّادها الذين لا حصر لهم ولا تعداد:
في سوريا زكريا تامر في مجموعته " دمشق الحرائق"، ونبيل جديد في مجموعته" الرقص فوق الأسطحة"، وفي فلسطين محمود شقير في مجموعته" طقوس للمرأة الشقية" و"صمت النوافذ" و" مرور خاطف عام 2000م". وفي المغرب محمد العتروس في مجموعته" هذا القادم"، وفي العراق نوئيل رسام "عشرون قصة قصيرة جدا"، وفي تونس إبراهيم درغوثي في مجموعته "سماء دافئة"، وفي السودان فاطمة السنوسي في مجموعتها" غابة صغيرة"،
وفي الكويت هيفاء السنعوسي في مجموعتها" إنهم يرتدون الأقنعة"، وفي مصر يوسف إدريس وغيرهم الكثير الذي لا مجال لذكرهم في هذه العجالة المقالية.
ولكي يتعمق مفهوم القصة القصيرة جدا، سنقدم نماذج تمثيلية للقصة القصيرة جدا في أدبنا العربي الحديث:
" قصص قصيرة جدا " جميل حمداوي (حمداوي، موقع دنيا الوطن، 2008)
احتج التلاميذ داخل الفصل، وصرخوا في وجه أستاذ العربية الذي تخشب في المؤسسة مدة أربعين سنة وما بدل تبديلا. احتج الطلبة صارخين يائسين، فنددوا بالمقررات الدراسية الزائفة التي لا تنتهي، قالوا بصوت مرتفع:" نحن في زمن العولمة، نحن في زمن الساندويتش ولهامبورغ، نحن في زمن الثورة الرقمية، اتركونا من الكتب الورقية الصفراء، أريحونا من جنس الرواية وقراءة النصوص المسترسلة، لا نريد سوى قصص قصيرة جدا.
قصة البحر ( حمداوي، موقع دنيا الوطن، 2008)
قال الولد المحروم لأبيه المثقف الذي ضيع حياته كلها في قراءة الكتب الصفراء والحلم بالليالي الحمراء وقصر الملاح: " سأذهب مع إخوتي إلى البحر كعادتنا، لماذا لا ترافقنا يا أبي إلى البحر لنتشرف بك ونقدمك لأصدقائنا وزملائنا؟ قال الأب وهو يحمل صندوقا من الكتب: لن أستطيع الذهاب إطلاقا، فلدي الكثير من الكتب التي سأخضعها هذا النهار للتصنيف الببليوغرافي، ولكني بالطبع سأنتظر البحر حتما ليزورني مع الفيضانات. وغدا، سأكتفي بالسباحة في مياه البرك والأوحال التي غزت شوارع مدينتنا المنكوبة..
قصة "السراب" ( حمداوي، موقع دنيا الوطن، 2008)
تخرج من الجامعة بدرجة مشرفة جدا...
تأبط شهادته بزهو وفرح كبير...
خبأها في محفظة جلدية زاهية..
كان الوقت صيفا قائظا...
مرّ قرب برلمان الشعب
فلاحظ آلافا من العاطلين وحملة الشواهد العليا يفترشون الثرى بدون انقطاع
كان الهجير متقدا بشعل اللظى المحرقة
أحس بالعطش الشديد
لحظة، رأى ماء مهرقا في وسط الشارع،
أسرع مهرولا ليروي ظمأه،
وجد الماء قد تحول إلى سراب واهم،
افترش شهادته الكبيرة حصيرا لينام مع العاطلين..
ثلاث قصص حسن برطال
1. قصة " هزيمة بالخطأ"
" جردتُهُ من سلاحه، وتركتُ له الوقت الكافي للتفكير.. آه.. هنا أخطأت حينما نسيتُ ( سيفه) القاطع".
2.قصة" حفل تأبين"
" يقفون دقيقة صمت على ( المتوفى).. وأنا ( أصرخ) واقفا في وجه وطنيّ دقائق عمري؛ كي لا يكون بلدا ميتا"
3. قصة " بناء عشوائي"
بنى ضيعته فوق (السحاب) ثم قال لي:
-ستأتيني البذور من الأرض، والطاقة من الشمس، والضوء من القمر..
قلت له: ومن أين سيأتيك المطر؟
قصة " حلم" جمانة طه
كان عازبا. وكان حلم الحبّ، يمتد رخيا رضيا على مساحة قلبه وعمره، تزوج، فهرم الحبّ وانكمشت المساحات".