هل يمكن تغيير الرأي العام في اسرائيل ؟؟؟
نشر بتاريخ: 21/08/2023 ( آخر تحديث: 21/08/2023 الساعة: 18:26 )
عوني المشني
تغيير الرأي العام في اسرائيل مسألة شائكة ، فقناعات المنتصر تتشكل عبر مصادر قوته والمنطق هنا تحدده اعداد الطائرات والدبابات ، انه مجتمع يفكر من فوهة مدافع جيشه ، لذلك عندما نتحدث عن تغيير الرأي العام في اسرائيل يجب ان نبحث عن ديمومة قوتها قبل ان نبحث عن اي شيئ اخر . لهذا سيقودنا السؤال مباشرة الى سؤال من نوع اخر وهو هل يمكن لاسرائيل ان تهزم ؟؟؟
السؤال مشروع ، فبعد حرب حزيران عام ١٩٦٧ بدأت تسلل قناعات لدى قطاع واسع في اسرائيل وخارجها ان اسرائيل قوية الى الحد الذي لا يمكن هزيمتها ، ما عزز تلك القناعات هو التطورات التي تبعت تلك الحرب ، اتفاقيات السلام المتعاقبة مع اسرائيل ، قطار التطبيع العربي معها ، التشرذم العربي والضعف الفلسطيني ، الدعم الامريكي الغير محدود ، التفوق العسكري الاسرائيلي النوعي ، كلها معطيات تجمعت في فترة جعلت الحديث عن امكانية هزيمة اسرائيل شبه معدومة .
لكن المعادلة بدأت في التغير ، ربما حرب تموز ١٩٨٦ كانت بداية خجولة لهذا التغير ، تبعها معادلة الردع مع لبنان والتي حققت اهدافها بكبح جماح العربدة الاسرائيلية هناك ، صمود الشعب الفلسطيني رغم ضعفه وانقسامه وعدم خضوعه لمعادلات موازين القوى ورفضه لترجمة موازين القوى لمعاهدات واتفاقيات " سلام " هي في الحقيقة شروط استسلام ، تطور تقنيات الحرب الحديثة وقدرة الشعوب على امتلاكها مما يجعل مفهوم ميزان القوى مختلفا ، فالقدرة على الايذاء اصبحت اهم بكثير من المقدرة على الانتصار ، فعندما يستطيع الطرف المهزوم ان يؤذي الطرف المنتصر الى الحد الذي تصبح فيه تكلفة النصر اعلى من قدرة الاحتمال فذلك يعني تغيير جوهري في مفهوم موازين القوى ، وهذا ما استطاع حزب الله وايران ان يحققانه . ان صغر مساحة اسرائيل عامل حاسم جعل من كل المساحة مغطاة باسلحة " الاعداء وبطريقة يجعل من حماية المنشآت الحيوية امرا شبه مستحيل وهذا خلق متغيرات جيوسياسية استراتيجية .
ان دولة نصف سكانها " اعداء " لها عامل اساسي لا يضعف الجبهة الداخلية فقط بل يحولها الى تهديد استراتيجي ايضا ، ان هبة الجماهير الفلسطينية في الداخل اثناء حرب اسرائيلية على غزة يقدم نموذج مرعب لدولة محاطة باكثر من ربع مليون صاروخ والاف الطائرات المسيرة .
امكانية هزيمة اسرائيل لم تعد امنيات " الاعداء " بل اصبحت هاجس وكابوس النخبة السياسية الاسرائيلية ، هذا الهاجس جعل اسرائيل مترددة حتى في التصدي " لاستفزازات " حزب الله ، او حتى لتطور ايران المرعب في مشاريعها الاستراتيجية مثل البرنامج النووي ومشروع الصواريخ البلاستية والطائرات المسيرة … الخ .
صحيح ان اسرائيل ما زالت القوة العسكرية الاولى في الشرق الاوسط ، وصحيح ان معادلات الردع لا تهزم دولة بحجم اسرائيل العسكري ، ولكن الصحيح ان موازين الردع توقف الى حد كبير طموح اسرائيل في الهيمنة وتجعلها تفكر الف مرة قبل ان تشن عدوانا جديدا ، واستمرار وتعمق تأثير العوامل الموضوعية هذه سيجعل في وقت ليس ببعيد امكانية هزيمة اسرائيل . ربما البعض يستعجل النتائج ولكن حقيقة الامر ان اسرائيل قد وصلت الى مرحلة عدم القدرة على الانتصار ، وعندما تصبح الدولة " الاقوى " غير قادرة على الانتصار والثمن الذي ستدفعه في حرب لا تنتصر فيها اعلى من المقدرة على الاحتمال فتلك هي الهزيمة بحد ذاتها . ان ارتفاع منسوب " القلق الوجودي " في اسرائيل مرده الى القناعات بعدم قدرة اسرائيل على حسم الصراع باساليب عسكرية لا اليوم ولا في المستقبل ، هذا الوضع دفع كثير من الخبراء الى وضع سيناريوهات سوداء لنهايات مأساوية ، ولكنه فتح الباب على مصراعيه للتفكير بخيارات اخرى غير الحسم العسكري لتبديد هذا " القلق الوجودي " . اسرائيل الان تعيش هذا الوضع .
المفارقة ان هذا الوضع لم يترجم في العقل السياسي الاسرائيلي الى استراتيجيات ، اليمين الاسرائيلي يحاول ان يحيد العوامل الاقليمية عبر تطبيع العلاقات مع الانظمة العربية والانفراد بالفلسطينيين وتحقيق الانتصار عليهم ، الخطة الاعتراضية الفلسطينية واضحة ، تعزيز العلاقة مع القوى الاقليمية الرافضة لذلك وتعزيز سياسة ترابط الجبهات ، هذا الوضع بدعم مقاومة فلسطينية متنوعة في الضفة يشكل برنامج اعتراضي مهم ومثير ، ورغم التحفظات على سياسات ايران التي تسعى للهيمنة المنبعثة من البعد القومي او الطائفي الا ان السياسة الايرانية بشكل او باخر تشكل اهم عناصر افشال السياسات الاسرائيلية هذه . ان ضعف وتراجع الدور الامريكي وفقدان تدريجي لقدراتها على فرض سياساتها قد ساهم الى حد كبير في كبح الطموح الاسرائيلي في الهيمنة على المنطقة وحصار اي قوى للمقاومة . حتى السعودية التي تمثل الجائزة الكبرى في مسيرة التطبيع فانها تمارس سياسة متوازنة بين القوى الدولية الصاعدة وتقترب في تطبيع علاقتها بايران اكثر من اي علاقة محتملة مع اسرائيل ، وهذا يؤكد ان المتغيرات الجيوسياسية في الشرق الاوسط متغير الى حد ان مراهنات اسرائيل على الوضع في الشرق الاوسط ليست دوما في مكانها .
ليس المهم ان تهزم اسرائيل بقدر ما يهم وجود قناعات لدى صانعي القرار في اسرائيل ان هناك امكانية واقعية لهزيمة اسرائيل حتى لو امتلكت كل التقنيات العسكرية ودشنت اعتى الحصون الدفاعية . فالقناعة هذه هي المدخل الحقيقي لطريق مختلف يمكن ان يؤدي الى سلام متوازن .
اليسار الاسرائيل وفي الحسابات الانتخابية الضيقة يفتقد البرنامج الواضح ويراوح بين الصمت والمعارضة الخجولة لسياسات اليمين لذلك فانه يفقد لونه اضافة لفقدان جماهيريته ، ربما ان التغيير في الرأي العام الاسرائيلي لا يسير بخط موازي لتطور البرامج الحزبية الاسرائيلية ، ان الاعلام يشكل قوة الجر للتغيير في الرأي العام الاسرائيلي ، وقد بدى واضحا ان التغير في الاعلام قد بدأ ، ان تفاقم الازمة الداخلية في اسرائيل ساهم الى حد كبير في انفلات الاعلام من السياقات الحزبية وبات يطرح الامور بشكل اوضح واقوى واكثر واقعية ، ان عشرات بل مئات المقالات والمقابلات الصحفية التي تتحدث عن المخاطر الاستراتيجية التي تواجه اسرائيل ستشكل المدخل الطبيعي للتغيير في العقل الاسرائيلي الجمعي ، وهذا لم يكن ليتم بدون الازمة الداخلية الاسرائيلية .
ان الاعلام الاسرائيلي والذي خضع لمهيمنة اليمين الاسرائيلي لعشرات السنوات بل انه اكثر من ذلك تم اعادة صياغته ليكون اعلام مسيطر عليه ام يكن ليقود عملية تغيير في الرأي العام ، ولكن الازمة الداخلية الاسرائيلية قد حررته جزئيا واصبح امام المخاطر الحقيقية التي تواجه اسرائيل اكثر جرأة ووضوحا ، بل وضعفت يد اليمين في الهيمنة عليه وبالتالي استعاد جزء من قدرته على التأثير ، صحيح ان الاعلام لا يصنع حدثا ولكن وضع الحدث في سياقه واستخلاص النتائج منه هي مهمة اعلامية تؤدي لمتغيرات في التفكير الجمعي ، ربما الاعلام الاسرائيلي لم يصل الى هذا المستوى ولكنه بدأ يسير في هذا الطريق ، وتتعاظم قوة التفكير النقدي الاعلامي لادارة اليمين الى الحد التي بدأت في تشكيل طرائق تفكير مختلفة ، ان مصطلحات مثل حكومة يمينية عنصرية ، لا ديمقراطية مع الاحتلال ، تآكل قوة الردع الاسرائيلية ، قد بدأت تدخل قاموس الاعلام الاسرائيلي وحتى بعض السياسيين الاسرائيليين في المعارضة وحتى في الجيش ، وهذا ليس جديدا فقط بل وتغير نوعي ايضا ، وحتى تؤدي تلك المتغيرات دورها في صناعة تفكير جمعي اسرائيلي فذلك يحتاج الى وقت كافي ، واكثر من ذلك يحتاج الى صمود فلسطيني اكثر قوة وصلابة ومتغيرات اقليمية اعمق ، وهذا يتحقق بكثير من الوضوح . رؤية الاعلام الاسرائيلي لذلك اوضح ولم تستطع ماكنة اليمين الاسرائيلي الاعلامية اخفاءه .
في نهاية المطاف لا خيار امام المجتمع الاسرائيلي سوى ان يتغير ، فسياق الصراع يفرض تلك المتغيرات ، المسألة مسألة وقت ليس اكثر .