نشر بتاريخ: 13/09/2023 ( آخر تحديث: 13/09/2023 الساعة: 15:25 )
- كيف المعنويات؟
- عالية!
هو حوارنا القصير في الشارع الرئيس برام الله، يتوازى مع حوار قصير آخر في العالم الافتراضي.
"لطالما تساءلنا صغارا عن زهرة التين التي لا تظهر أبدا. فكل شجرة لها زهرة إلا التينة. لم نكن نعرف وقتها أن حبة التين هي زهرتها. لم يخبرنا أحد بذلك. فقط حين كبرنا، بل حين شبنا، فهمنا أن علماء النبات يعتبرون ثمرة التين زهرة لا ثمرة. إنها زهرة- أو في الحقيقة عدد كبير من الزهور معا- تتفتح إلى الداخل. بذا فقد خدعتنا التينة، واكتشفنا خديعتها متأخرين".
تلك كلماته التي أقرأها أول مرة من صديقي الكاتب الشاب ثائر ثابت، التي بادرني بالحديث عنها، فكان الكلام منحى للحديث عن خلود الأدباء، وكيف أنهم يطلون دوما علينا حين نستذكر كلماتهم.
من بغداد الى بيروت وعمان، أدب وإعلام وصحافة وفن، منابر صحافية وثقافية هناك وهنا، إلا أنه كان في الرحلة للشعر نصيب وافر: تسع مجموعات، هي: "قصائد أخيرة" (1981)، و"أشغال يدوية" (1990)، و"الجواد يجتاز أسكدار" (1994)، و"ضربة شمس" (2003)، و"حجر البهت" (2008)، و"كشتبان" (2014)، و"علندي" (2016)، و"زرواند" (2021)، و"تمرة الغراب" (2022(.، شعر رشيق بصوت خاص، وبصدق خاص شكلا ومضمونا، أخلص له ولنفسه، فأخلصا له: الشعر ونفسه.
فوجئت بسعة اطلاعه في التاريخ والآثار ذات صباح مبكّر حين التقينا في مطار مسافرين الى استنبول فالدار البيضاء فالرباط حيث ندوة جائزة ابن بطوطة. قدمنا مداخلتين عن الرحلة، وكانت مداخلته بعنوان "رحلة الشتاء والصيف"، وكنت وقتها ما أزال أسير المنهج التاريخي التقليدي، بسبب ما نشأنا عليه، فكانت مداخلته والندوة بشكل عام فتحا لي في التعرف على مجالات البحث التاريخي كمطلع لا كباحث.
ألف زكريا محمد في الميثولوجيا والأديان القديمة: "نخلة طيء: كتب سرّ الفلسطينيين القدماء"، و"عبادة إيزيس وأوزيريس في مكة الجاهلية"، و"ديانة مكّة في الجاهلية: كتاب الميسر والقداح"، و"ديانة مكّة في الجاهلية: الحمس والطلس والحلّة"، و"ذات النحيين: الأمثال الجاهليّة بين الطقس والأسطورة"، و"نقوش عربية قبل الإسلام"، و"مضرب الحجارة: كتاب اللقب والأسطورة"، و"اللغز والمفتاح" رُقم دير علا ونقوش سيناء المبكّرة"، و"عندما سحقت حيّة موسى"، وآخرها، العام الماضي، بعنوان "سنة الحيّة: روزنامات العصور الحجرية".
بالنسبة لي، رغم أنني من محبي شعره (وشعر غسان زقطان)، إلا أنني وجدت أن مساهماته التاريخية تنافس منجزه الأدبي، حيث كان ذا صبر ودأب في البحث والتنقيب، وقد استفدنا جميعا من كتاباته، اختلفنا أو اتفقنا، حيث ليس من السها علميا تجاوز ما كتبه.
في تذكر إبداع زكريا محمد، وفلسفته الشعرية والفكرية ربما، يمكنني هنا المرور على ما كتبه بعنوان "بيانات شعرية عربية قديمة"، عن أبو تمام والبحتري، وأبو العلاء المعري.
في البيان الأول يذكر نصيحة أبو تمام للبحتري حول الشعر، وقد انتبه زكريا الى أنه بالرغم من كون أو تمام كان زعيما للمحدثين (مدرسة إبداعية)، إلا أنه نحى منحة تقليديا في نصيحته للبحتري، إلا أنه انتبه الى ما ذكره أبو تمام من قول الشعر عن شهوة (شغف).
أما أبو العلاء، فقد ضمن بيانه الذي جاء في مقدمة لزومياته: "كان من سوالف الأقضية أني أنشأت أبنية أوراق توخيت فيها صدق الكلمة، ونزهتها عن الكذب والميط".
رأى زكريا أن "الكذب والصدق هنا محور البيان الشعري لأبي العلاء". وبالطبع أوضح أن ذلك يتعلق بالشكل والمضمون، مركزا على عدم التكلف.
وأقتبس منه: "هنا يتضح بجلاء أن أبا العلاء يرفض الأساليب التي يلجأ إليها الشعراء للدخول إلى الأغراض الشعرية كما رسخت في التقليد الشعري حتى عهده. فالكذب هنا ليس خلقا، بل طريقة محددة في الكتابة. طريقة تبحث عن تهييج الشعر بأغراض محددة. وهو يرفض هذه الأغراض رفضا مطلقا. فلا غزل عنده بعد، ولا وصف للنساء، ولا نعت للخيل، ولا حرب، ولا عبور صحار قاسية صعبه. فكل هذا حيل من أجل الوصول إلى الشعر. كل هذا كذب. وهو ليس كذبا أخلاقيا، بل كذب فني. وهو لا يريد هذه الحيل الكاذبة. إذ هو قادر على الوصول على الشعر من دونها. وبالفعل، فقد بر بوعده، وابتعد عن تكلفات الشعراء وأغراضهم. فليس في اللزوميات أغراض شعرية. ليس فيها غزل ولا نسيب ولا مدح ولا هجاء ولا فخر ولا حرب ولا وصف نياق ولا رحلة في الصحاري، ولا غير ذلك من أغراض الشعر والشعراء. وهكذا أطاح أبو العلاء بضربة واحدة فقط بأعراض الشعر العربي كلها. هناك فقط غرض واحد: ورطة الإنسان في الكون والحياة، ومحاولة تدجين الموت، وتأليفه.
ويعود الى المعري ليؤكد ما ذهب إليه: "أما في اللزوميات فقد كف عن هذا. كف عنه نهائيا. بذا صار بمقدوره أن يتحدث عن ضعفه وبؤسه ويأسه:
إذا راكب نالت به الشأو ناقة
فما أينقى إلاّ الظوالع والحسرى
ناقته هنا لا تبلغ به شأوه، فهي ناقة ظالعة متعبة. والحق أنه لم يعد له من حاجة إلى ناقة ليرحل عليها، فقد صار حبيس بيته. بذا فرحلته رحلة في أعماق الذات، وفي أعماق الناس والكون".
وعلينا أن نلفت الانتباه إلى أن البيان الشعري المكتوب لأبي العلاء أوسع من السطور التي ذكرناها. لكنه بيان منثور في قصائده في ديوان اللزوميات. وخذ هذه الأبيات عن الشعر والشعراء:
بني الآداب غرتكم قديما زخارف مثل زمزمة الذباب
أأُذهب فيكم أيام شيبي كما أذهبت أيام الشباب؟
ويضيف:
فما أم الحويرث في كلامي بعارضة ولا أم الرباب
وإن مقاتل الفرسان عندي مصارع تلكم الغَنَم الرباب
وألقيت الفصاحة عن لساني مسلمة إلى العرب اللباب
هنا يوجد أكمل تعبير عن رفض أبي العلاء لمثال الشعراء في عصره. فهو يرفض زمزمتهم وغزلهم وتشبيبهم، ويرى مقاتل الفرسان التي يتحدثون عنها كما لو أنها مقاتل دواب وأغنام. ثم يقول جملته الحاسمة الأخيرة: "وألقيت الفصاحة عن لساني، مسلمة إلى العرب اللباب". إنه يرفض فصاحتهم ذاتها ويرمي بها، مخترعا فصاحة أخرى غيرها. والحق أن ديوان اللزوميات فصاحة أخرى، أي شعر آخر. وهذه الفصاحة هي التي مكنت أبا العلاء من توسيع قاموسه الشعري عن طريق التقاط الكلمات الشعبية، التي كان يربأ الشعراء عن الاقتراب منها. عليه فشعره يمتلئ بالكلمات القاموسية الصعبة وبالكلمات الشعبية التي تبدو مبتذله لغيره."
أعادني زكريا محمد إلى أهم مستخلص لي في دراستي للأدب العربي، وهو ما يتعلق بالصدق الفني، وهو أحد أسس كتاباتي النقدية في الأدب والفن، حيث ظهر لي من خلال الشنفرى (العصر الجاهلي) وأبو نواس (القرن الثاني الهجري)، أهم ثائرين في الأدب العربي حتى الآن. (ويبدو أن المعريّ في القرنين الرابع والخامس كشاعر وعالم بالشعر قد اطلع على منجزيهما وآخرين من قبل).
سأتحدث هنا، ونحن في سياق الشعراء: زكريا محمد وأبي تمام والبحتري وأبي العلاء..والشنفرى.. أبي نواس)، عما علق عليه زكريا محمد في مقاله عن بيان المعريّ عن الشعر، وعن شعر أبي تمام كشاعر إبداعي لا اتباعيّ:
كلا الشاعرين الكبيرين بحق، قد اختارا الصدق الفني في التعبير، أكان ذلك في عدم التقليد في الشكل الفني، من حيث ترك الطرق القديمة، وهو ما ذكره المعريّ، أو في المضمون، ولعل قصيدة لامية العرب، وقصائد أبي نواس بمجملها خير أدلة على صدقهما الفني الذي لم ينازعهما فيه أحد حتى الآن، بما فيهم المعريّ العظيم.
الصدق الفني لدى هؤلاء الشعراء ومنهم زكريا، هو صدق في الحياة، ونعلم أن الصدق يكلّف صاحبه، هكذا اختار أن يكتب بما يدور في نفسه، خصوصا في الموضوع السياسي الوطني الملتبس والشائك، ولعلي يوما أفرد ما دار بيننا على مدار سنوات من نقاش حول المضمون السياسي الناقد والأسلوب. لقد مرّ نقده السياسي في عدة مراحل، ثم عاد آخر فترة لما كان عليه من وضوح.
من الشعر إلى الرواية؛ فقد كان ساردا جميلا، لكن اكتفى بروايتين: "العين المعتمة" (1997)، والثانية "عصا الراعي" (2003)، وكان مفكرا نثر جزءا من أفكاره في كتابيه: "ديك المنارة في آخر التسعينيات: و"مداخلات في الثقافة والمجتمع"، 2003.
هناك في رحلة أبو العلاء في رسالة الغفران سيسأل شاعر:
- الزهرة المقلوبة؟
سيجيب زكريا محمد
- المجد لثمرة التين، للزهرة المقلوبة.
قبل 15 عاما، سأعرف أنه زكريا محمد هو داود محمد عيد، إذن كان اسما حركيا!
يبلغني الشاعر المغربي حسن نجمي بدعوتنا أنا والكاتب داود محمد عيد للمغرب، وأن الممثلية المغربية تبحث عنه لأجل الفيزا، فأخبر الصديق نجمي، وكان وقتها أمينا للمكتبة الوطنية، بأنه لا يوجد كاتب بهذا الاسم حسب علمي، وأقترح عليه ببعث رقم التلفون إن وجد، فيرد عليّ وقتها الشاعر زكريا ضاحكا...
هو حوارنا الذي صار يزيد اليوم في الشارع الرئيس برام الله، وأجيب الغائب في حضوره الأكثر اكتمالا:
- المعنويات عالية.
في كل يوم سأظل منتظرا روحا أخرى تتلمذت، لتستأنف بروح جديدة صباحاته الغنية عن الحياة والوجود، والتي ختمها بتأملاته عن الحياة والموت، الذي استشعر قربه.
هناك على تلة في الوطن كان الوداع، أو لعله بداية لرحلة أخرى.
[email protected]