حوار سريالي مع مُغنّي العاشقين ؛حسين المنذر"أبو علي"
نشر بتاريخ: 18/09/2023 ( آخر تحديث: 18/09/2023 الساعة: 20:21 )
بقلم: المتوكل طه
*
تكفي الدمعة لكي تهبَ الأغانيَ إلى الماء
*
رصفوا المقاعد تباعاً، ونصبوا المنصّة العالية، وبهرجوا السماء بأضواءٍ أخّاذة،
وحضرت الموسيقى،ولم يُخرِجوا المُغنّي من التابوت.
فقال صاحب الفَرَح الفلسطينيّ: حَيٌّ آخر لن يزعج أصحاب القبور.
*
بعد أن رحلتَ؛ أحتضن العازفُ آلة العود، فغطّي القصعةَ حتى لا تكاد تظهر،
وراح يمسك بيمينه زند العود، ويحمل باليسرى الريشة، وبدأ يضرب بالريشة،
ويضغط على نهايات الزند..ويتمايل برأسه، كأنه مأخوذ بما يعزفه،ويترنّم مُغْمِضاً عينيه، سارحاً في أنغامه المنسابة بين أصابعه، شارداً مع كل خفقة يضربها بالريشة..
وهكذا ظلّ على حاله، طيلة الليل، يدوزنُ وينغِّم . وعندما انتهي، وضع آلة العود مكانها على الأريكة، فَلاحظ الجميع أن العود بلا أوتار .
*
سنجلس في الصالة المُعْتمة، ونتفرّج على ما يدور فوق المنصّة الوسيعة، ونسمعُ الكلام والأنغام والنأمات، تحت الضوء الخافت .
(سكوت !)
ولكن لا يوجد في الصالة إلاّ أنا وأنت ! هل تلاحظ ! أعني أنا وأنت، أي أنا ..أنا وأنت .. لماذا لا تجيب ؟ ها ..تكلّم يا أبا عليّ!
غير مهم .. التزم الصمت، أما أنا فلا أستطيع ..
(يقف أبو علي في منتصف المنصّة، وثمة ظلال ؛ سبعة على يمينه، ومثلهم على يساره .وهناك آخرون، من خمسة إلى ستة اشخاص أو سبعة.. كأنهم الكورال)
المُغنّي: كنّا نحلم أن نرجع للفردوس! لكنّا عدنا، جزئياً، إلى شيء من البلاد المرهقة، مقيّدين حدّ العجز والكآبة! مَن أعطاهم القدس؟ ومن قدّم لهم الساحل دون مقابل؟ وكيف أعود تحت شروطهم ومجاهرهم وضرباتهم الفظيعة؟ وكيف سأُغنّي بعد كلّ هذا التبديد المقصود؟.. يا ليتنا كُنّا جماداً؛ حجارةً أو شجراَ ..
صوت: الشجر ليس جماداً، ثم إنهم يقطّعونه للمواقد في الشتاء، بعد أن يستنزفوا ثمره ..
أبو علي: وكيف نُغنّي وصوت غريب يملأ الأسماع؟
صوت: هذا شخير الأفعى الخرافية، التي أكلت الراعي وأغنامه، وذاك هو حفيف ريشها يهفّ بين الأودية، باحثةً عن طعام .. علينا أن نختبيء ..
أبو علي: لا مكان للاختباء...
(بالفعل! ثمّة حشرجاتٌ تخرج من بطنها، وثمّة مَن هو محشورٌ في بطن التنّين)
صوت: أين نحن ؟
صوت: أكاد أن أختنق ..
صوت: اللزوجة تغرقني ..
صوت: أي حياة منحتنا إياها هذه الصفقة ؟
أبو علي: تقصد؛ كنّا في حفلة وصرنا في صفقة ؟
صوت: لم يكن ذلك في القدس، بل في قريتكم أيها الرجل ..
صوت: تصرّفوا كأنكم خارج بطن الأفعى، فالرمز أكبر من الواقع ..
(يدخل أبو علي ويبدأ بأداء الأغنية)
صوت: إنها أغنية تشبه الأوكسجين، وعندما تغيب أكاد ألفظ أنفاسي!
صوت: نعم، كان من المتوقع أن يشتعل الميدان في بلدنا ، لكنكم بلا بصيرة !
صوت: الوِّزر يقع على صاحب الكرسيّ المحطوم ، فهو الذي باع الشهيد والجريح والسجين والحبق !
صوت: إنهم واحد؛ القاتلُ ومن توسّط لإحلال المصالحة .
صوت: وتهدّمت المدينة، وما زال الصيّادون على الشاطيء
صوت : دعوني أستريح، فالأزرق الطاغي يغطّي عيوني، ولا أكاد أرى الأشباح .
صوت: إنهم يبدّلون الأسماء بأُخرى قديمة ، وهميّة ، بائدة .
صوت: لم يمطروا الزيتون بالعصيّ ، بل أحرقوه لأنه تاريخيّ وجميل ، ولا يريدون أن يظلّ على عَرْشه الأبديّ ! .
صوت: أين أخذتم الأولاد، إلى النَهْر أم إلى العدميّة و العبث ؟
صوت: الغزالات يمشّطن الغروب بلا فضاء ، وكانت الزفّة رانخة بالشباب ، لكن أصحاب البنادق أحرقوا البيت واستباحوا المعبد وأشعلوا فيه الكفر .
صوت: ويقولون إن الأغاني بلغت ضوءاً لم تبلغه في الأزمان !
صوتكَ يا أبا عليّ تمرٌ يتوحّش في الحرير !
صوت: ها هم الشباب يضرّجون الغيوم بأقدامهم المدمّاة، وجماجمهم المحطمّة، ولم يسقط العَلَم!
صوت: مَن الذي حوّل زوج الشهيد إلى لوحة راقصة ؟
صوت: منذ قرن وهم يقفون في بيت العزاء .. والموتى لم يصلوا حتى سمعوا أغاني العاشقين!
صوت: أين ذهبت كل تلك الدماء والأموال والأصوات وبيوت الحنّاء ؟
(ويواصل أبو علي أغنيته الثالثة والخامسة والثامنة.. وكلما صدح بصوته الجبليّ الرّاعد تشقق بطنُ العتمة وخرج منها المحبوسون)
صوت: تزوَّجَتْ الأول، فوقع شهيداً، فاقترن بها الثاني، فارتفع إلى الفردوس، بدمه الغزير ،وما فتئت توزّع الحلوى ..
( كان أبو علي ،على المنبر منبراً، يكسر الهواء، وتتوالد من يديه النسور ، لكن الأفق يضيق .. ويضيق ..)
صوت: حسّ "أبو علي" كالسَّهْل الذي يموج فيه بحر السنابل الخضراء .. ولم يتسنّ له أن يحصد الصيف !
صوت: لأن الثائرَ عانقَ قاتلَه قبل أن يبلغ البيت ..
صوت: أكمِلْ يا أبا عليّ! فإن لم نستَعِد البلادَ بالأغنية ، لن نستعيدها فعلاً..
صوت: غنّوا حتى نستطيع أن نسير ،ليلاً أو نهاراً ، من هنا إلى هنا !
صوت: غنّوا لسجناء الغولة والدبابة .. والنصّ.
صوت: اعزفوا للأرجوان النائم في الحجر.
صوت: وغنّوا للأسرابِ التي تملأ الأفق، من المذبحة إلى الخيمة ..
صوت: لقد كانت جائزتهم الهزيمة، فليهنأوا بالعار ..
صوت: إنهم يسجنون الجثث ! هل ثمة بشر كهؤلاء؟
صوت: وألقوا بالشاعر من قمة النجم إلى هامش الرداءة والقهر.
صوت: يكرهون حروفنا ومياهنا وشعيرنا وغيومنا وأحلامنا وبيوتنا وشجرنا وغناءنا .. ونحن نحبهم جداً .. جداً .. حتى أعطيناهم تاريخنا .
أبو علي: أيتها الأصوات ! اصمتي حتى أُكمل أغنياتي.. خذوا الطحين والملابس البالية والبلاغة اللفظية .. واتركوا لنا اللحن المُفضي إلى البلاد!
صوت: كنتَ دائماً ، يا أبا عليّ تقودنا إلى غزالة الأعراس وَذَهَب الخلود، أيها الطيّب كنوايا العاصفة.. حتى كبرت الدالية، وأرهصت البروق في الغيوم ووُلدت البندقية .
صوت: بأغانيكَ كنّا نرفع أسماء الشهداء على المفارق والأزقة والمشاعل، ونقتحم السواتر ،ونردّ على الرصاص المجنون، ونحيل السجن إلى قلعة تضجّ بالجحيم والحبق..
أبو علي: ينهض الضوء على جذر الأناشيد! وعلى رغم كل هذه الخيانة، وانتصار يهوذا .. لا تيأسوا، واصلوا العزف، واضربو الجدران بالقبضات المكوّرة ..
*
باقة الاغاني القادمة.. سأقطفها من البركان.
*
كنتُ أجلسُ في الساحة الممتدة المليئة بآلاف الكراسي ، وثمة منصّة منصوبة أمام الجماهير الهاتفة.
ماذا كنتُ أتخيّل؟ ها هو أبو علي ، بكامل حضوره ورعده وبرقه وسِحره، يضفضفُ بصوته ،الذي يعبئ المجرّات ، والآلاف المؤلّفة تردد معه الإيقاع الهادر الآخذ للقلوب ، الممتد من بيروت إلى عكّا، ومن الزعتر إلى الحلم المطهم بالدم والأعراس!
*
يا له من غموضٍ واضح! أعني وجهَك يا أبا عليّ!
فَخٌّ بريء،جمرٌ بارد، سُمٌّ شافٍ،خفيف وكاوٍ مثل النار،لامع وخطير مثل نَصْلٍ مجلوخ،ساحر وأنيق ومرتّب مثل قلادة ملكيّة.. وأنتَ عاشقٌ مُعجز.
وكلما رأيتُ وجهك أحسّ أنني خرجتُ من حلمٍ؛ كنتُ أصعدُ من القبو المُضاء بالمشاعل،إلى ساحةٍ شاسعة! فباغتتني الشمسُ، ورأيتك تحت المقصلة تستعدّ ، دون هلعٍ، للنهاية! كان وجهكِ حياديّاً، كأنه الشمع المنمّش..ولم أكن أعرفُ أنك مَن قتلَ المستمع! فقط ؛لأنه تملّق.
*
قال لي مرّة: وجدتُ نفسي واقفاً بين المنصّة والجمهور، وسأل: هل أنا المغنّي أم من الجمهور؟ ولماذا أقف بينهما؟ هل هبطتُ عن المنصّة لأستكمل دوري،أم نهضتُ عن مقعدي وذهبتُ لأقضي حاجة..
وعدت؟ لا بُدّ من يدٍ ترشدني..
فما زلتُ واقفاً!
*
إذا اخترت الفنّ على محمل الجدّ..
فسيصيبك الضجرُ ، وتهرب.
*
كان لديه مئات الأغنيات؛ واحدة للنار،والثانية للريح،والثالثة للماء،والرابعة للتراب..
وحاول أن يتذكّر لِمَنْ غنّى الخامسة، مثلاً، لكنه نسي!
كانت زوجته تعرف أنَّها لها ، لكنها أرادت أن تعاتبه، لكثرة ما ينسى، ويذكر فلسطين.