نشر بتاريخ: 20/09/2023 ( آخر تحديث: 20/09/2023 الساعة: 09:51 )
هنالك مصطلح سياسي يُكثر المظلومون والمغلوبون على أمرهم من تكراره كملاذ، مع يقينهم بإنعدام جدواه، اسمه "المجتمع الدولي".
المنبر الأعلى لهذا المصطلح هو الأمم المتحدة، وأداة التفريغ والتهميش لقراراته هو مجلس الأمن، الذي يقف سداً منيعا يستحيل اختراقه، إذا ما عرضت عليه قضية تخص الفلسطينيين، وتنتقد أو تدين إسرائيل، حتى قيل أن حق الفيتو، الذي تتمتع به الدول العظمى للإعتراض على أي قرار دولي، وُظف أمريكيا من أجل منع قرارات لمصلحة الفلسطينيين. وقيل كذلك أن الجمعية العامة "عديمة الصلاحية"، هي حصة الفلسطينيين في "المجتمع الدولي" وفيتو مجلس الأمن هو حصة إسرائيل، وشتّان ما بين الحصتين من حيث التأثير والفاعلية.
غداً.. يقف الرئيس محمود عباس على منبر الخطابة، ولا أعرف هل سيتأثر عدد الحضور هذه المرة، بفعل الزوبعة التي أثيرت حول خطابه الأخير بما وُصف إسرائيليا وغربيا "بإنكار المحرقة" مع أن الأمر ليس كذلك البتة...
أم أن المتعاطفين التقليديين مع الحقوق الفلسطينية، سيتجاوزون الأمر، ويملؤون المقاعد، ويتفاعلون. وهذا أمر سنتأكد منه حين تنقل الجلسة على الشاشات، بما في ذلك شاشتنا الرسمية.
عودة إلى العنوان، واختياري له أملته الخطابات السنوية الكثيرة، التي ألقاها الرئيس عباس من على ذلك المنبر، وكلها شكلاً ومضموناً كانت بمثابة إقرار متكرر وشكوى من عجز "المجتمع الدولي" عن تقديم ما يحتاجه الفلسطينيون من دعم يقدمهم سنتيمتراً واحداً، نحو تحقيق مطالبهم المقرة أصلا من الأمم المتحدة. ومن ينسَ كلمة "إحمونا" التي قيلت في خطاب العام الماضي، وبمفردات مختلفة تؤدي نفس المعنى قيلت في كل الخطابات السابقة. وعلى الأرجح أن تتكرر في خطابات لاحقة ما دام الرئيس عباس سيلقي كلمة فلسطين في قادم الأعوام.
الجالسون على المقاعد في القاعة التاريخية للجمعية العامة للأمم المتحدة، لا يؤثر فيهم الاستعطاف مهما بدا بليغاً، ولا يحددون مواقفهم العملية على أساس الحق الذي ينطق به عباس، أو الباطل الذي تفرضه إسرائيل، ولو كان الأمر كذلك لأنهينا الملف على خير منذ الخطاب الأول الذي ألقاه عرفات، والذي اشتهر بجملة ما زالت قيد التداول... "لقد أتيتكم وبندقية الثائر في يدي، وغصن الزيتون في اليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي"
صُفق لعرفات وقوفاً آنذاك، ليس فقط بفعل البلاغة المميزة التي صيغ بها الخطاب، الذي شارك في أفكاره وحتى اختيار جمله ومفرداته، أهم المثقفين الفلسطينيين والعرب، وإنما لأنه استند آنذاك إلى جدار عربي داعم لكل كلمة فيه، وجدار فلسطيني قوي عسكريا وسياسيا وثقافيا، جسدته منظمة التحرير، كما كان بالغ الدلالة أن الذي اصطحب عرفات إلى الأمم المتحدة هو الرئيس اللبناني سليمان فرنجية.
الخطاب في كل زمان، وإن كانت البلاغة اللغوية ضرورية لإدخاله إلى القلوب مع العقول، إلا أنه محصلة للقوة التي يمتلكها من يلقيه، فالمتعاطفون يعرفون كل شيء عن الحالة الفلسطينية، ولا ينتظرون من يقول لهم إن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى كذا وكذا وكذا.. وأن الظلم واقع عليه فارفعوه، فهم يعرفون كل شيء ويعرفون معنى أن يكون الفلسطيني وحده من دون كل شعوب الأرض بلا دولة ولا هوية سياسية ولا كرامة إنسانية، ولا حياة تماثل أدنى مستويات الحياة لدى الشعوب في أي مكان على وجه الأرض.
لا يعرفون ذلك بفعل معلومات كانت خافية عنهم، وقمنا بتوضيحها، ففي هذا العصر ونحن في بدايات القرن الواحد والعشرين الذي يشهد ذروة التقدم في وسائل الإتصال والحصول على معلومات من مصادرها، نعيش عالماً يزن مواقفه بموازيين المصالح وليس بالموازيين الإخلافية والقانونية، ووفق هذه الموازين عليك أن تتوقع ما يعطيه لك وزنك أولا وليس ما يجاملك به من يسمعوك.
الأمم المتحدة، الجمعية العامة، المؤسسات المنبثقة عنها بما في ذلك محكمة الجنايات وغيرها هي مجرد هياكل لا تصدر أحكامها وقراراتها بفعل القوانين التي بين يديها، وإنما بفعل قدرات التأثير لدى الظالمين والمظلومين.
نحن في زمن لا وزن فيه للعدالة وإنما كل الوزن للمصالح والقوة التي تحميها، والسؤال الذي يطرح دائما على الفلسطينيين ماذا يتعين عليهم أن يفعلوا كي يساعدوا الآخرين على أن يدعموهم.
الفلسطينيون يملكون الكثير إذا ما أحسنوا استخدامهم له، والأمر لا يحسب بالطائرات والدبابات والمليارات، وإنما بالقدرة على توظيف الطاقات الكامنة، ومعظمها بكل أسف معطل ومبدد.
لدينا ملايين البشر على أرضهم، لا تملك إسرائيل القدرة على ابتلاعهم وهضمهم، ولدينا روابط عميقة وواسعة مع الشعوب، لم تصبها بالعطب، لا اتفاقات إبراهيم، ولا أي تطبيع قديم أو مستجد.
ولدينا شباب وشابات يملؤون البلد وفي أيديهم الشهادات الثانوية والجامعية، كأعلى نسبة متعلمين وخريجين على مستوى العالم.
ولدينا انتشار حضاري في كل مكان أُرغم الفلسطيني على اللجوء إليه... واقرأوا ما كتب المرحوم طلال سلمان عنهم منذ النكبة، وما أنتج جيلها من عباقرة في كل الميادين والمجالات.
الحالة الفلسطينية في جوهرها حالة غنية تستحق الاحترام والإعجاب، إذا ما نُظر إليها من زاوية المؤهلات الحضارية، إلا أنها تثير غباراً أسوداً إذا ما نظر إليها من زاوية الطبقة السياسية، ولابد وأن يأتي ذلك اليوم، الذي ينقشع فيه الغبار، ويستقر المشهد الحضاري الإيجابي على حقائقه، ليصل العالم إلى حتمية أن ينال هذا الشعب حقوقه.