وكـالـة مـعـا الاخـبـارية

صديقي؛ أشجاره نساء

نشر بتاريخ: 24/09/2023 ( آخر تحديث: 24/09/2023 الساعة: 16:49 )
صديقي؛ أشجاره نساء


المتوكل طه
*
جاري الختيار،المعروف ب"أبو صبحي" لا ينام! فبعد صلاة الفجر مباشرة، يطرق باب داري في قلقيلية، وينادي دون انقطاع، حتى أنهض وأفتح له الباب وأرحّب به.. فيعاتبني على أنني لم أشهد صلاة الفجر، ويروح يوبّخ كلّ جيلنا الكسول، الذي نسي دينَه وسجاياه.ثم يأمرني لأن أُعدّ الشاي ليشرب معي.
وبالطبع يكون عمّي أبو صبحي قد أحضر معه صحن التين المُشَطّب، كما كان يُحضر شيئاً من العنب أو التين الشوكي المُقشّر العسليّ.
أعدّ الشاي وأنا نصف نائم، إذ بقيت سهراناً حتى الثالثة.. أي لم أنم سوى ساعتين! لكن أبا صبحي لا يُرَدّ، وقصصه تبعث فيَّ النشاط والبهجة.
أبو صبحي مثله مثل أي قلقيليّ أصيل، يعتقد أنّ من حقّه أن يدقّ أيّ باب ويزور مَن يشاء، في أي وقت ودون موعد مسبق! هكذا.. وعليّ أن أبتَشَّ وأنشرح أمامه وأُسَهّل به كل دقيقة، ليشعر بأنّ صدر البيت له ومُرَحّبٌ به.
أجلس أمامه، تفصل بيننا طاولة صغيرة أضع عليها الإبريق والكاسات، ويكون قد وضع عليها صحن التين.. فأرى أن أبا صبحي قد تجرّأت عليه السنوات،وأن جرمه الخفيف قد تهدّلت عليه ملابسه، وأنه عندما حلق ذقنه قد ترك مناطق لم تصلها شفرة الحلاقة، كما أنّ شَعر رؤوس خدوده قد تطاول فصار له لحيتان خفيفتان تحت عينيه. ولطالما بدأ بالحديث، بل لا يتركني أجيب أو أُعَلِّق! إذ أن موضوعه الوحيد هو أشجاره؛ فهو يُسمّي كل شجرة باسم امرأة، ويحدّثني عنها باعتبارها عائلته، ويقصّ عليّ حكايا أشجاره السحرية ، حتى أتخيّل بأنه يخلط الواقعي بالخيالي ، دون قصد.. بل ببداهة وتلقائية وصدق.
وأبو صبحي ينغّم كلماته، ويشدّ ويرخي الحروف، بهدف التأثير على مستمعه، كانه حكواتي ، لا قصة له سوى حقله الممرع العجيب.
قبل أيام، دخل ولا يحمل معه شيئاً! وأمرني أن ألبس ليصحبني إلى بيّارته.
عبرنا إلى تلك الطريق الترابية المُفضية إلى الحقل، فوقف منتصباً، وترك ذراعي، وتأبّط عكّازه ، وراح يمشي راسخاً واثقاً، ويجول بعينيه بين أسراب الحمضيات، ثم يصل إلى حاكورة الزيتون، ويعرّج منها إلى الخرّوبة ومنها إلى أشجار الرُّمّان واللّوز والتين، ثم يصل إلى شجرة التوت، الهائلة الحجم، التي تظلّل مساحة بيت كبير تقريباً، وقد اتّخذ ظلّها ديواناً له، بعد أن فَرَد الحصيرة، ووسائد القش الصّلبة، وفي المنتصف من القعدة ترى موقد النار والأثافي الحجرية التي يصمّد فوقها إبريق الشاي، وجرّة الماء والكيلة التي يغرف بها الماء، ليتوضأ أو ليغسل الإبريق ويشطف الكاسات أو يشرب منها.
اتّكأ بظهره على جذع التوتة، ومدّ ساقيه، وراح يراقبني وأنا أشعل النار لأطبخ الشاي على الحطب الخفيف، فوضع ثلاث ملاعق سُكّر في كأس شايه، وبدأ يتلمّظ ،بصوت مسموع، بذلك العنبر الأرجواني الفوّاح بالمريميّة ، وأمرني أن أقطف بعض أوراق ليمون طرية لأغمسها في كأس الشاي ليعطّرها.
والرّبيع جامحٌ دائمٌ في حقل الرّجل.
وحكى لي حكاية عجيبة، فقال: استيقظتُ فكانت الخرّوبة تقف بجانب السرير، وتهتزّ وتنتفض!
ما بكِ يا شجرة؟
ازداد ارتباكها، وتلعثمت غُصونها، واضطربت قرونها، وتلوّت أوراقها، ولم تقل شيئاً.
قلتُ: ما بكِ يا ابنتي؟! ومسحتُ على جذعها، فسَكَنتْ وطأطأت رأسها، وسكنتْ. وعدتُ إلى نومي.
في المنام، خير اللّهم اجعله خير، رأيتُ فيما يرى النائم أنّ الجنّي الأزرق ذا العيون الضوئية والشَعر الخردلي والأنف المُدَبّب قد تزوّج الشجرة، وأنها سمحت له بالولوجِ إلى قلب أرومتها، وقد جعل جذعها مسكناً، يجنّح فيه كما يشاء، فيتشعبط هذا العُرف ويقفز إلى ذاك الغصن، ويفرد وهجه الناريّ حولها، حتى لا يمسّها أحدٌ من الآدميين أو الدّواب.
وكان ما كان. ولم ترفع الخروبةُ عينيها في وجهي خجلاً! لأنها تزوّجته دون موافقتي.
كان حديد ذاكرة أبي صبحي ينجلي ويسطع عندما يتحدّث عن حاكورة الزيتون، فيذكر اليوم والشهر، عندما زرعها، ومتى أثمرت، وكم تُعطي كلّ موسم من حبوبها، ويعدّد أشجار الحمضيات، فيؤكدّ الساعة التي حفر فيها لوضع الغِراس في الحقل، وكيف أعطى لكلّ شجرة اسماً، فهي أُسرته التي يجلس معها، وينادي كلّ فردٍ فيها، ويحاكيه ويحدّثه، ويمسّد كلّ ورقة وغصن وثمرة، ثم يؤكّد أبو صبحي أنّ الشجرة التي تجلس تحتها وتُمَلّس عليها وتمرّر يديك على فروعها وتشمشم زهورها، تعطيك ثمراً أكثر من الشجرة المهجورة التي لا تصادِقها! عليك أن تُصاحب أشجارك وتتذاكر معها أيامك، وتسْمِعها شكواك وتبثّ إليها شجونك، وتدعوها لتفرح معك! إن الشجر إنسان صامت فتحدّث إليه، يدرّ عليك بعسله ويعطيك أقصى ما يستطيع، انظرْ هناك إلى الخروبة عزيزة، كيف تتدلّى أصابعها السمراء! هل تصدّق أنني كنتُ أغفو، أيام الصيف تحتها، فأصحو وقد هبطت غصونها وغطّتني! وهل تؤمن أنَّ هذه التوتة نجلاء،كانت تفرد أوراقها فوقي، حتى لا أشعر ببردٍ أو تصلني أفعى أو عقرب!
ستقول إنَّ عمّك أبا صبحي مجنون! يتخيّل أشياء غريبة! لا يا ولدي، إنّ شجرة البرتقال عندي تُعطي ضعفيّ ما تحمله أيّ شجرة في الأنحاء! إنها تنفجر مع الضوء..هل تعرف لماذا، لأنني أُجالس كل شجرة، وأطمئنّ عليها، وأسألها حاجتها، وأربِت على غصونها، وأحضن فروعها، وأمسح يديّ على جذعها، ولا أتركها حتى أحسّ أنها راضية!
-الحُبّ يلوّن الأشجار، والحبّ واحدٌ، لكنّه لا يكون إلا باثنين-
ويَسرح أبو صبحي، وتتوزّع أهواؤه ويغيب عنّي، ثم يقول: الشجر حَنُون، له عاطفة جيّاشة، يشعر بصاحبه، ويمتصّ حزنه، ويعطيه دفعة دافئة تخلّصه من الكآبة، اسألني أنا! حتى إن الليمونة فاطمة، تلك الفارعة زاخرة الثّمر، هل تصدّق أنها كانت تمدّ غصنها وتدنو منّي لأقطف حبّة منها، كلّما احتجت، ودون أن أطلب منها ذلك؟
ويضحك أبو صبحي، وتنشرح ملامح وجهه، ويضيء! ثم يقول: يجب أنْ تعلم أنّ الشجر يخجل مثل الآدميين! نعم إنه يخجل، ويغضّ الطرف، ولا ينظر إليك إن كنت..
كنتَ ماذا يا عمّي؟
يقهقه أبو صبحي وينشرح ويقول: كنتُ يوماً قد خنستُ إلى حُضن أُمّ صبحي، وقد غلبني الشّغف، وكان لها رائحة العسل، فأردتُ أن أغمس الوردة في جرّة الشّهد، ويبدو أننا انجرفنا في اللحظة العميقة، إلى أنْ وقعت الرّعدةُ وسالت العسيلة، وما إن انتهيتُ ورُحتُ أرتدي ثيابي، حتى رأيتُ أنّ الشجر يتّجه بوجهه إلى الناحية الأُخرى، لقد استحى من فِعْلتنا، تخيّل!
أنتَ لا تصدّق! مُش ضروري، لأنّك جاهل، ولن تفقه ما أقول، لكنكَ إذا، وسكت أبو صبحي.
أكملْ، ما بكَ يا عمّي؟
قال بحزن: لقد طارت السماواتُ من فوق رأسي، وتحرّرتُ من الأرض! ألم تنتبه إلى أننا لم نرَ طيراً واحداً، أين ذهبت العصافيرُ والحساسين والشنّار؟
هذا نذير شؤم أن تغيب الطيور عن البساتين والحقول، ثمَّ لماذا جئت إلى هنا؟ لقد أتعبني بكاءُ الأشجار؟
لا أفهم ما تقول يا أبا صبحي؟
قال: ألم ترَ الأشجار تبكي عليّ، وتعاتبني على غيبتي عنها؟ وتهزّ أغصانها أسفاً على أنني هجرتها، بعد أنْ كانت تذوب فيّ!
أنا لم أهجرها ، لكنّ الجنود منعوا المزارعين طيلة الأشهر الماضية من الوصول إلى مزارعهم، كانوا يشقّون مسرباً جديداً للمستوطنة الجديدة.. فماذا أفعل؟ قُلْ لها إنني أحبّها، وإنني أنادي عليها شجرةً شجرةً، وأراها قبل نومي، وتتراءى لي في أحلامي، وتحضر في مخيالي أوّل ما أصحو من نومي، وصاح: أنا أُحبّكِ، أقسم بالله إني أُحبّكِ! وألقى عكّازته ونهض مثل غزالٍ يقِظ، وراح يحتضن الأشجار، ويمشي وهو يمدّ ذراعيه يمرّرها بين غصونها، ويعتذر منها، ويبكي، ويحدّثها مثل نبيٍّ مع صديقه القديم.